كتب حازم صاغيّة في نهاية مقال له مثيراً السؤال الآتي: «فلماذا يختار اليسار الراهن جعل الجلاد لحظته التأسيسيّة، لا الضحيّة، خصوصاً أنّ الاتّحاد السوفياتيّ و «صداقته» العطوف صارا خبراً للتاريخ؟» («لو اختار اليسار لحظة تأسيسية أخرى؟» الحياة، 25 آب/ أغسطس، 2012). ما سيحاوله هذا المقال من جهة، الإجابة عن هذا التساؤل. ولكنْ، بسحب تعبير «اللحظة التأسيسية» إلى زاوية أخرى، زاوية طهران الخمينية، خصوصاً أنّ كلا الذهنيتين، الخمينية واليسارية (الأرثوذكسية)، تنطلقان من أسس مفاهيمية واحدة. ومن جهة ثانية، التركيز على أنّ ارتباط أنماطٍ ذهنية كلانية كهذه بلحظات التأسيس المقدسة ارتباط عضوي وشرطيّ، لندرك بالتالي حجم حضور اللينينية البلشفية داخل أحضان الخمينية، وبالعكس، ولماذا لا يستطيع الذي ولد من رحمهما الفكاك من لحظة التأسيس، ما لم يحدث انقلاب على شروط الولادة ذاتها. من الممكن الاختلاف حول توصيف نظام طهران، هل هو «توتاليتاري» أم لا، بالمعنى الغربي الدقيق للاصطلاح، وما إذا كان فعلاً قد استفاد من بعض الأدوات التوتاليتارية التي أنتجها القليل من الدول الغربية في العصر الحديث، والتي تحولت اليوم إلى الديموقراطية. لكن، لا يُعتقد أنّ الاختلاف سيستمر لو نُظر إلى شمولية النظام الإيراني بشروط سياقه التاريخي الأوسع، أي الشروط المشرقية والثقافية التي أنتجت لنا نظاماً بالشكل الإيراني الذي نعرفه اليوم. سنكون في الواقع، وفقاً لهذه المقاربة، أمام نظام توتاليتاري ب «أصله»، حيث التوتاليتارية ليست فقط جزءاً من النظام الإيراني، بل هي الحاضن الوجودي له ولقيامه. طبقاً للنظام المفاهيمي الخميني، هناك لحظتان مقدستان يمتلكهما الطهرانيون الخمينيون (اليساريون يمتلكون لحظة مؤسِّسة واحدة): الأولى، هي لحظة تأسيس الإسلام الذي تمثّل بالخليفة الرابع عليّ، والثانية هي لحظة الخميني المقدسة، موعد إعلان الجمهورية الدينية على أراضي طهران في شباط (فبراير) 1979. الارتباط بين اللحظتين ارتباط «أصولي» بالألف واللام وبالعهد. وإذا كانت لحظة الإسلام الأولى ستمثل «المثال الاستثنائي المقدس» للحظة قيام الجمهورية، فالخميني، وهو ممتلئ بالأصولية، لم يكن ليقبل بذلك «المثال» هكذا، كما تقدّمه الكتب السلطانية والذاكرة الأسطورية. لهذا، عمد لإعادة خلقه «أيديولوجياً» وفقاً للمقاسات الأصولية التي تحكّمت بشروطه التاريخية. إنه على رغم اعتبار لحظة التأسيس الأولى لحظةَ «الأصل»، فهو، وكما يُقرّ الطهرانيون الخمينيون، لم يتنفس هذا «الأصل» ويرى تجسّده التاريخي إلا على يد الخميني. فهو الوحيد من بين كل قادة العالم والتاريخ الذي استطاع نقل الأصل من الحيز «الأيديولوجي المقدس» (المثالي) إلى حيز «الجمهورية المقدسة» (الواقعي)؛ لدرجة نظن بها أننا فعلاً أمام لحظة واحدة، هي «اللحظة الخمينية المقدسة»، والتي لولاها لبقي الأصل حبيساً في عالم السماء والمثال. هكذا يمكن ومن هذه الزاوية، قراءة الآليات الذهنية والنظيمية الواحدة المتحكمة بكلا الذهنيتين: البلشفية اليسارية والبلشفية الخمينية. الأمر الجوهري في هذا السياق أنّ مصدر تلاقي الذهنيتين لا يمكن العثور عليه في الكتب الأيديولوجية الخمينية واللينينية، بل داخل ذلك الفضاء الواسع: الفضاء الثقافي. إنه فضاء الإطلاق والعدم والتوتاليتارية. فالتنقل بين المنظومتين ليس صعباً طالما أنّ انتماء البلشفية والخمينية انتماء لبناء ذهني واحد؛ والهدف «الإمبريالي» واحد، وآليات العمل «الثورية» واحدة، والحزب الجمهوري الذي أُسس في إيران لحماية الثورة يتقاطع كذلك جوهرياً مع كثير من الأحزاب الشيوعية التوتاليتارية، والألفاظ الثورية والمفاهيم مدلولها واحد عند المنظومتين...إلخ. وفوق ذلك، فما ذكره صاغيّة حول أشخاص (كإدوارد برنشتاين، صديق فريدريك إنغلز، وكارل كاوتسكي «بابا الماركسيّة») الذين وُصفوا وفقاً لذلك النمط التوتاليتاري بأنهم «تحريفيون، مرتدون، خونة»، يمكن كذلك أن نقرأ عن أشباههم وطريقة التعاطي معهم ولكن، وفقاً للطبعة الخمينية. فالرجل، وبعد انتصار الثورة مباشرة، لم يقصّر جهداً في إقامة ما سمي «اللجان الثورية» لمعاقبة «أعداء الثورة، أعداء الإسلام...» (وجلّهم كان من الإصلاحيين الدينيين والليبراليين)، لتقام بعد ذلك محاكم «ثورية» فتحكم عليهم بالإعدام (وبعضهم نُفي، وبعضهم هَرب). إننا لا نستغرب فعلاً وصف أحد آيات الله كلَّ التاريخ الإسلامي بكونه «الممهّد» لجمهورية الخميني، هذه الجمهورية التي لم يسمح حتى تاريخ الإسلام الباكر بقيامها! من هنا بإمكاننا فهم ماذا يعني التاريخ الذي سبق لحظة الخميني التأسيسية: إنه الجاهلية، أو بمعنى أدق، اللاتاريخ. سيد قطب، المنظّر الأصولي الكبير، وهو أحد مناهل الخميني الأيديولوجية، لم ينجح في تأسيس لحظة تأسيسية ثانية يمكن أن تسدّ نوافذ «جاهلية القرن العشرين» (الوصف له)، إلا أنّ هذه المهمة اضطلع بتنفيذها بلاشفة إيران بقيادة «المؤسس»، الخميني. لكن السؤال، ما علاقة ارتباط كل من الذهنيتين، البلشفية والخمينية، باللحظة التأسيسية المقدسة في الحكم «التوتاليتاري»؟ لنقرّ بأنّ كلا الذهنيتين عصابيتان وتتنفسان من رئة مرض «الإطلاق والعدم»، «الإطلاق والنفي». إن اللحظة التأسيسية «مقدسة» لأنها تعلن بدايةَ كونٍ جديد، بداية تاريخ جديد «يَجبُّ» ما قبله إلى درجة إلغائه. إنها بعرف الخمينيين لحظة المطلق التي ينقبض التاريخ ويتكثف فيها. ومجرد الخروج عليها سيعني رفضاً للبداية المقدسة التي أعلنها «المؤسس البطل» وسيُعتبر ارتداداً وهرطقة بحق السماء نفسها، أي ارتداداً على «روح الله على الأرض» وضده (هكذا يوصف الخميني إلى الآن). ذلك أنّ الخميني فوق أنه «الممهّد» للحكومة السماوية المهدوية، فهو «أمثولة عليّ» (أيضاً كما يطلق عليه في الأدب الفارسي الحديث): هذه الأمثولة التي نقلت الأيديولوجية المقدسة للحظة الإسلام الباكر، وجسدتها فعلياً على أراضي طهران الفارسية. لهذا، فارتباط الطهرانيين الآن بلحظة الخميني التأسيسية المطلقة ارتباط ثقافي عضوي، مشروطة عليه استدامة الحكم المطلق. من هذه الزاوية يمكن قراءة التوتاليتارية الإيرانية الحالية وجدل ارتباطها مع لحظة الخميني، «لحظة التأسيس المقدسة». * كاتب سوري