مما لا شك فيه أنّ مستقبل المسار السياسيّ «الاستثنائيّ» لإيران في المنطقة قد وُضع على «سكّة» التغيير (أسوة بالأشقاء العرب)، سواء أقرّ قادة طهران بذلك أم لا. لكن، من الصعب التكهّن حول طبيعة هذا التغيير الذي سيدق أبواب طهران، وبخاصة في ظلّ التعقيدات الدولية والإقليمية المتعاظمة، والأهم في ظل المناخ الذي بدأ يفرزه ربيع العرب حول أفول عصر الديكتاتوريات. إيران من هذه الزاوية، لن تكون استثناء، بل الاستثناء هو الاستمرار بهذا النهج الجمهوريّ «الفريد» من نوعه، والذي يحاول الآن من خلال انتخاباته «تجديد البيعة» له، لمصلحة الإصرار على تغييب الجمهورياتية عن هذا النظام الجمهوري (؟). يأتي هذا في ظل المشاكل الداخلية الاجتماعية والاقتصادية التي تأكل من جسد النظام السياسي وفي ظل الضغوط الغربية المتزايدة والحديث المتواتر عن احتمال توجيه ضربة عسكرية للمنشآت النووية... إلخ؛ ما يعني أنّ إيران فعلاً في حاجة ماسة إلى تمتين جبهتها الداخلية، وذلك بالدرجة الأولى العمل على تغيير بنية النظام السياسي قلباً وقالباً، وفتح المجال لإنتاج جمهورية، يكون حاملها الأساسي جمهوريين حقيقيين بدلاً من الأصوليين الحاليين، الذين يشكلون البنية الصلبة التي تتحكم بإيران. لقد أكلت هذه الجمهورية «جمهورها»، أو بمعنى أدق: جمهورية أكلت «جمهورييها» وأعادت صنع ركام الشاه (لكن في شكل آخر)، هذا الركام الذي قامت على أنقاضه وبفضله. إنّ موت الجمهوريين الليبراليين، هو من بين الأسباب المهمة في تغيب الإصلاحيين عن هذا المشهد المسرحي للانتخابات، وعدم ترك أمكنة الإقامة الجبرية خاوية منهم (بخاصة مير حسين موسوي ومهدي كروبي). فمنذ قيام هذه الجمهورية، لم يكن الهدف من الانتخابات التي تُجرى على أراضيها إقامة العدالة والمساواة وتأكيد سيادة الشعب، بمقدار ما كان الهدف هو الخارج، وتحديداً الخارج الغربي، وذلك بإرسال رسائل له تتضمن هدفين رئيسين من بين أهداف عدة: الأول، أنّ السلطة المتحكمة في إيران تقف على جبل داخلي صلب من الصعب اقتلاعه، جبل سياسي ديموقراطي، لم تنجب حتى فرنسا «الجمهورية» مثله. وبمقدار ما تكون المشاركة في الانتخابات كبيرة، بمقدار ما يتأكد الأعداء من صلابة النظام. لهذا يصرّ قادة طهران على الناس المشاركة الكبرى في الانتخابات، ليس من أجل إنتاج شكل سياسي ديموقراطي، بل للتصدي للهجمات الغربية، أي للدفاع عن النظام السياسي؛ ما يعني أنّ النظام الطهراني سيستمر في المراوحة داخل الأيديولوجية المقدسة التي أعاد إنتاجها الخميني في الشكل الذي نعرفه اليوم: السلطة الليبرالية «الجمهورية» المقصية والمغيبة من جهة، والسلطة الدينية الفعلية (سلطة الملالي) التي يعود لها صنع القرار، من جهة أخرى. وقد أشار خامنئي إلى ضرورة زيادة المشتركين بالانتخابات، لكن رابطاً إياها بالتصدي للقوى المعادية وبمستقبل البلاد: «القوى المتعجرفة تستأسد علينا، لتحافظ على هيبتها... كلما زاد عدد المقترعين، كان ذلك أفضل لمستقبل إيران ومكانتها وأمنها». ما هو مهم تأكيده، أنّ هذا النمط من الأنظمة لا يعيش إلا على أكتاف الأزمات. فهو على رغم أنّ «شرعيته» يستمدها عادة من خارج أسوار الدولة (في الحالة الإيرانية، من ماض سحيق معاد إنتاجه)، إلا أنّه دائماً ما يبحث عن وسائل ل «تمكين» هذه الشرعية المفترضة. وربما من المهم تذكره أنه أثناء الحرب بين إيران والعراق، في الوقت الذي كان بعض الجمهوريين الحقيقيين المصلحين يصرّ على إنهاء الحرب مع صدام حسين، كان الطرف الأصوليّ المتحكم بإيران يشدد على الاستمرار بالحرب، ليس ضد صدام فحسب، بل أيضاً ضد الأصوات الإصلاحية الليبرالية. في ذلك الحين، تم الحديث عن إنتاج جمهورية ثانية في إيران وتثبيت أركانها بواسطة تلك الحرب. وبالتالي، تمّ دفن الجمهوريين الذين قامت على أكتافهم الثورة الإيرانية. وهكذا، لن تغير هذه الانتخابات من قتامة المشهد السياسي ما دامت إيران «جمهورية من دون جمهوريين»، أي ما دامت الجمهورية غائبة. ما تمر به إيران اليوم نتيجة الظروف السيئة التي تعصف بها داخلياً وخارجياً، على عكس ما يتوقع كثيرون، ربما سيزيد من عمر نظامها السياسي. والانتخابات الحالية هذه، ليست سوى تجديد العهد للخميني وإعادة إنتاجه، لكن بواسطة (وعلى أكتاف) الأزمات الداخلية والتهديدات الإسرائيلية والعقوبات الأميركية والغربية. الهدف الثاني، أنّ شكل الحكم الإيراني «الفريد» هو الشكل الجمهوري الديموقراطي الحقيقي، وإن كان مطعّماً بأيديولوجية نصوصية ماضوية. وبالتالي لا معنى للانتقادات الغربية حول التشكيك بنزاهة الانتخابات... إلخ. حتى إنّ المتحدث باسم الخارجية الإيرانية رامين مهمان برست استبق التشكيك المنتَظر قبل انطلاق الانتخابات: «البعض يسعى إلى القول بانعدام الديموقراطية في إيران، لكنهم سيشعرون بالخجل مما يشهدونه يوم الجمعة» (موعد الانتخابات 2 آذار/ مارس). لكن وحتى هذا الشكل السياسي الديموقراطي مهدد بالقضاء عليه. خامنئي كان في السنة الماضية قد أشار إلى ضرورة تغيير بنية النظام السياسي في إيران والتخلص من منصب الرئاسة. من هنا بإمكاننا قراءة دلالة هذه المعركة الانتخابية بين الأصوليين في ما بينهم: بين أنصار أحمدي نجاد «جبهة الاستقامة» وبين أنصار خامنئي «الجبهة المتحدة للأصوليين»، الحاكمين الفعليين لإيران. وبالتالي ليس الهدف من المشهد الانتخابي هذا إنتاج شكل سياسي جديد ينقذ البلاد من المشاكل الداخلية الاقتصادية التي تعصف به، بمقدار ما هو انتخاب أيّ الأشكال الأصولية أصح لقيادة طهرن. إنّ مدةً تتجاوز الثلاثة عقود، والنظام الإيراني يعيد تكرير نفسه في الماضي، كفيلة لقراءة وفهم لماذا أصرّ الخميني عشية الثورة على رفض إلحاح مهدي بازركان (أول رئيس وزراء) في شأن رغبته لإدخال لفظة الديموقراطية إلى جانب «الجمهورية الإسلامية». المسار الانتخابي اليوم يعيد تفسير ذلك. لا شك في أن الأصولية الإيرانية قد أثبتت قوتها على مدار ثلاثة عقود، وبرهنت على صلابة قدرتها بما يخص إعادة إنتاج نفسها. إلا أنها بمقدار ما تحمل من بذور قوة تستقي شرعيتها من ركام الماضي، بمقدار ما تحمل هذه القوة بذور انهيارها، وبخاصة في ظل الظروف التي تمر بها منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. والرهان في هذا هو على النخبة الثقافية والسياسية لخلق ربيع جديد لطهران، وإعادة إحياء ما تمّ دفنه بعد الثورة. * كاتب سوري