يحتل بشير مفتي موقعاً في المشهد السردي في الجزائر والعالم العربي. والجيل الشاب الذي ينتمي له مفتي، عانى طويلاً حتى تمكن من إسماع صوته، وترسيخ نفسه على الساحة... صدرت لمفتي 8 روايات وثلاث مجموعات قصصية، وهذا مع انخراطه في العمل الثقافي كناشر. كان معه هذا الحوار: في رواية «أشباح المدينة المقتولة»، وعلى رغم البوليفونية وتعدد والمصائر، إلا أن صبغة الحزن واحدة، والموت حاضر بقوة... لماذا؟ - موضوع الرواية اقتضى ذلك. وبناؤها السردي القريب من تقنية السينما، وليس اعتباطاً أن يكون أحد شخصيات الرواية مخرجاً سينمائياً، فأردت أن تتقاطع شخصيات الرواية في ميتة واحدة تحدث إثر انفجار قنبلة في أحد الشوارع المشهورة في العاصمة أثناء فترة ازدهار العنف والإرهاب، وأردت أن أحكي قصص هذه الشخصيات التي انتهت حياتها نهاية مشتركة من دون أن يكون بينهم رابط مشترك بالضرورة، بمعنى أن الرابط الذي سيجمعهم أكثر هو لحظة الموت أو القتل. لم أحاول أن أشرح للقارئ في البداية كيف ستنتهي هذه الشخصيات كما فعل ماركيز مثلاً في «وقائع موت معلن» حيث نعرف ماذا ينتظر البطل من أول جملة. تركت القارئ يتفاعل أكثر مع شخصيات الرواية، مع حكاياتهم وأحلامهم وتطلعاتهم ثم يفاجأ بصدمة الموت. كان همي أن أعطي صوتاً لتلك الشخصيات التي ماتت في حادثة إرهابية من بين مئات الحوادث التي وقعت في تلك الفترة، وكيف يمكن تصور حياتهم خارج كونهم مجرد أرقام في جريمة قذرة. ثمة بُعد فلسفي في «دمية النار»، إلا أن تشريح السلطة يبقى الموضوعة الأبرز، هل وصل الوضع بالفعل إلى مرحلة المسخ، التحول من المعارضة لخدمة السلطة؟ - كان السؤال المحرك هو هل نحن ضحية بيئتنا؟ هل الإنسان بالفعل حر في حياته؟ هل هو الذي يختار حياته، أم تختار له الظروف مصيره وحياته وحتى قدره؟ كان هاجسي الأول أن أتحدث من داخل شخصية «رضا شاوش» الذي من البداية يعترض على قدره، فهو ابن سجّان وجلاّد مقتنع بدوره في خدمة جهاز في السلطة، أي أنه لا يريد أن يكون مثل هذا الأب، وسيبحث عن أب روحي له معارض للسلطة، حتى يتحرر نهائياً، لكن ظروفاً كثيرة ومنها فشله في حبه الكبير الذي دفعه لارتكاب الجرم/الاغتصاب، سيقوده إلى أن يتغير، طبعاً ليس هذا هو السبب الوحيد، كانت الظروف المحيطة به تدفعه إلى أن يتحول إلى هذا المسخ الذي وصفته مجازاً كمصّاص دماء أو حتى آكل لحوم البشر. إن التحدث من الداخل يعني طرح أسئلة كثيرة عن الحياة في عمقها والحياة على سطحها وأغرتني اللعبة وذهبت في تخييلي إلى بعيد، لكن طبعاً كنت أشعر أن الواقع قد يكون أسوأ من خيالي المتوحش، وما سمعته من حكايات واقعية كان يجعل الرواية مهما تمادت في تخييلها أقل وحشية من الواقع الذي عشناه في سنوات العنف المدمرة والذي خرجنا منه بكثير من الأسئلة التي بقيت ألغازاً إلى غاية اليوم. تمردت شخصيات «شاهد العتمة» على الروائي وحاولت محاكمته، هل كان ذلك للإيهام، بغرض التجديد؟ أم لضرورة فنية؟ - في رواياتي الأولى، وككل روائي شاب، كان يهمني عدم محاكاة غيري ومحاولة الكتابة بحرية وحتى بتجريبية كبيرة، وربما تحت تأثير قراءات أعمال روائية غربية وعربية حداثية خضت تجربة مختلفة في «شاهد العتمة»، كما في رواية «أشجار القيامة» حيث يوجد فصل خاص بالقارئ ينتقد الرواية ويحاول حتى السخرية منها، وفصل خاص بالراوي وآخر بالروائي...إلخ وأصدقك القول إن مرحلتي الأولى في الكتابة لم تكن الرواية تعني لي إلا تلك الفوضى الجميلة، بعيداً من قواعد الجنس الروائي التي لم يكن يهمني الحفاظ عليها إلا في حدود بسيطة، أي كان يهمني فعل الكتابة نفسه. لماذا الجزائر أرخبيل؟ ولماذا ضحايا عشرية الدم ذباب؟ - في «أرخبيل الذباب» كان هنالك إحساس بالعبثية المطلقة، وطبعاً العنوان يحيل على جغرافية معينة، أما الذباب فذلك لأننا كنا نردد أن الناس تموت كالذباب كل يوم، أو كان ذاك إحساسنا يومها: أن الإنسان بلا قيمة، يمكن أن تنتهي حياته في أي لحظة إثر انفجار سيارة أو حافلة أو مجزرة أو رمياً بالرصاص...إلخ كان هذا مخيفاً ومرعباً، أن تستيقظ كل يوم وأنت تعرف أنك قد لا تعود إلى البيت. تحضر فترة نهايات الثمانينات وعقد التسعينات كخلفية زمانية في الكثير من أعمالك، إلى متى ستظل عشرية الدم هي الموضوع الرئيس في السرد الجزائري؟ - لا أدري لماذا أشعر أن واجب الرواية أن تتذكّر ولا تنسى، صحيح انتقلنا إلى مرحلة المُصالحة الوطنية وأصبحنا نشعر أننا تركنا ذلك وراءنا، لكن في الحقيقة الكتابة هي الذاكرة الوحيدة التي تظل صامدة أو تتذكر الأشياء كما لو أنها تحاول أن تنبّه إلى أنه لا شيء ينتهي في النهاية. أظن الأمر نفسه تجده في الرواية الإسبانية أو اللبنانية، فهنالك عودة مستمرة لتلك الحرب الأهلية التي يحاول الروائي أن يشفى من كوابيسها من دون جدوى، ولكن هذا الأمر لا ينطبق على الجميع، لأن هنالك روايات كثيرة تنكتب اليوم في أفق آخر، في مواضيع مختلفة، لأن واقع ما بعد سنوات الإرهاب يعج بمشاكل ومواضيع تستحق الانتباه والكتابة. يبدو جيلكم في ذروة تجربة (قتل الأب)، هل ثمة قطيعة بين الجيل الحالي من الروائيين الجزائريين والأجيال السابقة؟ - في تلك الفترة هم كانوا يصرحون أننا لا نستطيع تجاوز تلك الأسماء التي كانت مشتهرة ومعروفة محلياً وعربياً، أي كانوا يحكمون علينا من البداية بالعجز، ونحن رفعنا شعار الاختلاف، أي لا أحد يستطيع أن يتجاوز أحداً في الأدب، وإنما دوره أن يختلف عليه ويقدم حساسيته الأدبية في شكل مغاير. ثم كان هنالك صراع على المواقع في شكل خاص، فالجيل السابق كان في وضعية اجتماعية أحسن، ويتحكم في دواليب الإدارة وحتى في مواقع سلطوية ولم يكن يفعل شيئاً للأدب، واعتبرنا ذلك أنه سبب كل مشاكل جيلنا الجديد، وفي هذه الفترة التي أتحدث لك عنها لم يكن يوجد في البلد دار نشر واحدة تهتم بالأدب، وكان على أي شاب لكي يظهر أن ينخرط في جمعية اتحاد الكتّاب، والتي كانت تفرض عليه أن يكون له كتاب لينضم إليها، أو الجاحظية التي كان يرأسها المرحوم الطاهر وطار، وبالتالي كان هنالك شعور أن وجودنا مرتبط بهم، وعليه حاولنا أن ندافع عن وجودنا المستقل، ولهذا أسسنا رابطة كتّاب الاختلاف التي تولينا من خلالها نشر أهم النصوص الأدبية للجيل الجديد، لكن هذا لا يعني أننا دخلنا في عداوة أو في حرب معهم، بل نشرنا لهم مثل رشيد بوجدرة الذي بعد عودته من فرنسا كنا أول من اهتم به ونشر له ترجمة روايته «الانبهار». أي نحن شجعنا الكثير من الأسماء الأدبية القديمة لكي تظل على قيد الحياة في تلك الفترة الصعبة. تواظب على الكتابة والنشر بإيقاع شبه ثابت، مع كتاب كل عامين، كيف ترى الكتابة كونها التزاماً يضاهي التزام الموظف بوظيفته؟ وهل يسهم التراكم الكمي - إلى جانب الكيفي بطبيعة الحال - في ترسيخ اسم الكاتب؟ - الأمر ليس مخططاً له كما تظن، بل يعود لظروف وضغوط الحياة والعمل وأشياء كثيرة تجعلك لا تقدر على أن تكتب وفق الشروط الصحية للكتابة إن صح التعبير، ربما حلم كل كاتب عربي أن يتفرغ للكتابة ويصبح محترفاً لكن ما العمل؟ ليس الأمر بيدنا، لا أظن التراكم يحقق ذلك. في الجزائر مثلاً أسماء كثيرة لها عدد كبير من الأعمال وهي تكتب وتنشر باستمرار لكنها لم تحقق تلك الغاية المرجوة، لا أدري كيف يتحقق لك اسم في عالمنا العربي! لا بد ربما أن يعجب بأعمالك النقّاد والقرّاء ويروّج لك الإعلام وأنا قلت مرة أن الروائي ربما يشعر أنه روائي عندما يكتشف أن له قراء معجبين بأعماله وهذا مهم جداً حقاً لاستمرارية الكاتب. تضطلع بمسؤوليات في إدارة دار منشورات الاختلاف، هل يؤثر ذلك عليك كروائي، بمعنى هل يستهلك الكثير من الوقت والطاقة النفسية والذهنية؟ - عندما تتعامل مع كتّاب، فأنت تتعامل مع ذوات متضخمة ونرجسية أكثر من اللازم، ولعل هذا هو الجانب الأصعب في العلاقة بينهم وبيني كناشر، أحاول أن أحيّد الكاتب النرجسي بداخلي حتى لا يحدث انفجار أو اصطدام، ولكوني كاتباً أنا أتفهّم الكتّاب أكثر، ولكن أجد صعوبات في التعامل مع إغفالهم للواقع الذي نعيش فيه، فمثاليتهم الأدبية شيء والواقع المحكوم بحسابات أخرى شيء آخر طبعاً. كيف ترى تجربة النشر المشترك بين الاختلاف وضفاف والمؤسسة العربية للعلوم؟ هل تساهم مثل هذه التكتلات في تسهيل حركة الكتاب في البلدان العربية؟ - إننا نتحدث كثيراً عن مشكلة انتقال الكتاب العربي من بلد إلى بلد، ولا يوجد حل واقعي إلا بعملية إشراك ناشر جزائري مع لبناني ومغربي، فيصبح الكتاب متوافراً في شكل أوسع على الأقل في بلدان معينة، وبهذه الطريقة تمكّنا من نشر أعمال أسماء جزائرية في لبنان والدول العربية، كما جذّرنا تواجد أسماء عربية في السوق الجزائرية. أظن أنها تجربة جيدة ومفيدة للجميع. خضت تجربة الكتابة الجماعية في كتابي «القارئ المثالي» و «الجزائر معبر الضوء»، هل من الممكن أن نرى لك كتباً إبداعية (رواية مثلاً) مشتركة؟ - كتابة رواية مشتركة مستبعدة عندي، ولعلك تدري أن أهم تجربة عربية في هذا المجال هي تجربة منيف وجبرا في «عالم بلا خرائط»، وتجربة أمين صالح وقاسم حداد في «الجواشن»، أي أنها أعمال نادرة وقليلة لأنه ليس سهلاً أن تذيب حساسيتين مختلفتين في عمل واحد، أما الكتب التي شاركت فيها فهي كتب جماعية. في فرنسا هناك تقليد جميل بأن يطلبوا من مجموعة كتّاب أن يتناولوا موضوعاً واحداً مثل ليلة في فندق، وأنا طُلب مني أن أكتب عن القارئ المثالي من وجهة نظري، أما «الجزائر معبر الضوء» فهو كتابة عن المكان وهو أمر يستهويني كثيراً، أحب أن أكتب عن ذكرياتي في هذه الجزائر الجميلة والمتوحشة. لا تبدو راضياً عن أداء المؤسسة الثقافية الرسمية في الجزائر، وكذلك لا تبدو على وفاق مع الصحافة الثقافية الجزائرية، ما تعليقك؟ - أنا مع المثقف الناقد في كل الأحوال وأعتقد أن هذا دوري بالأساس، عشنا في السنوات العشر الأخيرة وصاية على الثقافة من طرف وزارة الثقافة، وجلب لي النقد طبعاً تهميشاً من طرف هذه المؤسسات، ولست وحدي في ذلك. أما الصحافة فالمشكلة معها أنها لم تنضج بعد، ولم تصبح صحافة محترفة، هي اعتادت منذ سنوات العنف أن تكون مجرد واجهة سياسية لهذا أو ذاك، وكانت لها عداوة مع الصوت الثقافي باستمرار، وهي تشبه السلطة كثيراً في تهميشها له، أو اعتراضها على لسانه الطويل. في ضوء المتغيرات الكارثية الحاصلة الآن في المنطقة، كيف ترى مستقبل الوضع في الجزائر، وفي المنطقة عموماً؟ - صراحة لا أعرف. نحن حذرون، وعلى رغم أن الجيش الجزائري له خبرة في التعامل مع الحركات الإسلاموية المسلحة، إلا أن ذلك لا يعني أننا غير مهددين، فالحدود مع ليبيا ومالي صارت جبهات مفتوحة، ثم الجزائر مثل باقي العالم العربي تتأثر بما يحدث عربياً في شكل سلبي مرّات كثيرة. أتمنى ألا نعود إلى الوراء، وهذا يتطلب من الدولة أن تقوم بدور كبير في مجال التربية والتعليم والثقافة حتى تحد من موجات التطرف ومن التشنجات الداخلية، وكل المظاهر التي من شأنها أن تقود البلاد والعباد إلى ما لا يحمد عقباه.