«مع أن صورة المجتمع المدني لا تخلو من التعقيد في أي مجتمع، فإن «لبننة» مفهومه زادته لبساً وزادت حدوده إبهاماً. فإذا شددنا على صفة «المدني» وحملناها على معناها الضيق لم يبق كبير شيء، في السنوات الأخيرة على الخصوص، من المجتمع المدني المنظم في لبنان. والمقصود ب «المعنى الضيق» مقابلة المدني للسياسي أوّلاً بحيث يتسنى له أن يبرز في مواجهة هذا الأخير مطالب الفئات الاجتماعية - الاقتصادية والمطالب المتعلقة بالحقوق والحريات المدنية والسياسية سواء بسواء. فالفئات الاجتماعية - الاقتصادية فئات أوضاع وليست فئات أصول أو تقاليد، على غرار العائلات والطوائف (وحتى القرى والأحياء) مثلاً. لقد اقتطفنا هذا المقطع من كتاب للباحث والمؤرخ اللبناني الألمعي أحمد بيضون صدر أخيراً في بيروت عن «دار الساقي» في عنوان جامع مانع هو «لبنان، الإصلاح المردود والخراب المنشود». وكلام بيضون مأخوذ من فصل خصصه للبحث في حدود الصفة المدنية والتباساتها، في بلد تجتاحه الطائفية وتقبض فيه على مقاليد الحكم والسياسة والاجتماع. فهو يلحظ بمقدار من التحفظ، أن الدارسين اللبنانيين الذين عاينوا حال اللبس الدلالي المذكور وجدوا حلاً لهذا الإشكال في المصطلح باعتماد التمييز ما بين مجتمع «مدني» وآخر «أهلي». فهم يطلقون على الجمعيات العائلية اسم «جمعية أهلية» فيما يسمون الجمعيات الأخرى المطالبة بقانون مدني للأحوال الشخصية أو بإصلاح نظام الانتخابات «جمعية مدنية». نرى نحن أن هذا التمييز، على اختزاليته، لا يخلو من وجاهة. فهو مستوحى على الأرجح من تمييز بين نوعين من الاجتماع شدد عليه قبل قرن تقريباً ماكس فيبر. لكننا لا نريد الآن الخوض في كتاب بيضون الذي يمكن أن نعود إليه في مناسبة أخرى، ولا نريد تناول عمل عالم الاجتماع الألماني. سنكتفي بملاحظة أن أحمد بيضون الذي يدقق في كتابه في المادة اللغوية، العربية كما في الأوروبية المنتجة لكبرى المفاهيم التي تدور عليها الحداثة السياسية، فاته الالتفات إلى أن الأوروبيين يستخدمون ذات الكلمة وهي civil لتوصيف المجتمع المدني والحرب الأهلية. وهذا ما لا يستقيم في لغتنا فلا نتحدث عن «حرب مدنية» لكننا نتحدث عن حرب وعن سلم أهليين. هذا اللبس أو الالتباس بين المدني والأهلي هو مقصودنا. فلنقل إن الصفة المدنية الحديثة العهد والنشأة في أدبياتنا هي ما تطمح إلى تحصيله فئة مستنيرة وعصرية في مجتمعات مركّبة وتعددية فيما الصفة الأهلية تستغرق معظم وجوه الحياة الاجتماعية والثقافية، في المعنى الأنتروبولوجي للثقافة، وقسماً لا يستهان به من النشاطات الاقتصادية ومن بناء السلطة السياسية. وقد يكون بزوغ الصفة المدنية، على اضطراب دلالتها، هو ما شرع يحيل الصفة الأهلية ويقصرها على نمط معين من العلاقات والسلوكات المحكومة بالذواء أو الارتسام كمعالم شبه فولكلورية تستحضر ماضياً يفترض فيه، في منظار حداثة موعودة ومستعجلة، أن يكون قد مضى. على أن الناظر في أحوال المجتمعات العربية يقع على تنويعات ومقادير مختلفة من الصفة الأهلية واختلاطها بالسياسة وبالصفة المدنية. وليست علاقات القرابة وعصبياتها العائلية والعشائرية هي وحدها حاضنة الصفة الأهلية، إذ يمكن الانتماء المذهبي والديني والجهوي والمهني أن يحاكي مثال القرابة ويحتضن في أوساط كثيرة ضروباً من اللحمة العامية والأهلية. لقد أخرجت الانتفاضات العربية من أحشاء مجتمعاتها ظواهر كثيرة بقيت مكبوتة ومخنوقة في ظل نظم سلطوية ضاغطة واستئثارية. وسيكون من الصعب في المدى المنظور أن تنتظم هذه الظواهر في مرجعية واحدة ومستقرة. فرفع المكابس الأمنية فتح الباب أمام شرعيات متضاربة قد لا تكون المواطنة وما تستدعيه من نظم حقوقية وفضاء عام وولادة أفراد أحرار في سلم أولوياتها. ينبغي بالطبع التعامل على حدة مع الحالتين المصرية والتونسية لاعتبارات معروفة من دون أن يعفيهما ذلك من صراعات مقبلة على أسس الشرعية وأشكال ممارسة السلطة. وليس هناك أكثر التباساً، وأكثر توريةً ربما، من مصطلح الدولة المدنية الذي أطلقته الانتفاضات العربية. فهو يتقدم كتعويذة لطمأنة الفئات المرتابة من تحول القوى الفائزة في الانتخابات إلى قوة استملاك للفضاء العام ولمفاصل السلطة الإدارية والرمزية. يجري تعريف الصفة المدنية للدولة بطريقة سلبية، أي أنها ليست عسكرية ولا دينية، بمعنى أنها ليست دولة جنرالات وضباط أمن ولا دولة ملالي ومشايخ معممين. وهذا التعريف ضعيف وفقير إذ يفوته أن المجتمعات الأهلية المستندة بهذا المقدار أو ذاك إلى وحدة أصل ومعتقد ونسب وتقليد، قادرة على توليد «مدنيين» أكثر عسكرة وتديناً أيديولوجياً من العسكر والمشايخ. نعم، الانتخابات في حد ذاتها، على أهمية وشرعية الابتهاج بحصولها بعد حرمان مزمن، لا تصنع ديموقراطية. فخطر اعتبارها ضرباً من التزكية والتفويض الأعمى يبقى قائماً. ووحده التقليد، المتوارث أو المبتكر، أكان دينياً أو اجتماعياً أهلياً ذا طابع عائلي أو قرابي أو محلي، يصنع جماعة عاطفية أو انفعالية ولا يصنع أمة في المعنى الحديث للكلمة. وتشكل الحالة العراقية المتحررة من قبضة صدام حسين نموذجاً لما يمكن وصفه بالدولة الأهلية إذا جازت التسمية. يخشى إذاً من تمدد هذا النموذج في سورية وفي لبنان أيضاً. ولا نقول هذا للانتقاص من شرعية الانتفاضة السورية على حكم استملاكي وسلطاني. بل للحض على النظر وأخذ المسافة النقدية. فالنظام الأسدي حقن المجتمع السوري بكميات من العنف قد يكون ثمن الشفاء والتشفي منها باهظاً جداً. والعنف الأهلي الذي شهده لبنان ولا يزال في صورة قطع طرقات وخطف عشائري لسوريين بهدف مبادلتهم بمخطوف من العشيرة في سورية جرى تصوير «اعترافاته» بطريقة استفزازية ومبتذلة، إضافة إلى المخطوفين منذ أكثر من ثلاثة أشهر واستعراض «استضافتهم» القسرية في وسائل الإعلام، كل ذلك ينذر بما هو أسوأ. وليس معلوماً بعد ما حصل للمخطوفين اللبنانيين في أعقاب المجزرة التي سببها القصف الجوي على مواقع في بلدة أعزاز السورية القريبة من الحدود التركية. وكان حرياً بالسياديين وناشطي الرأي العام في لبنان أن يبادروا، من موقع التضامن مع الحراك السوري، إلى المطالبة العلنية بالإفراج عن هؤلاء «المدنيين». فقد يفيد ذلك في تخفيف صفتهم الأهلية ومضاعفات استنفارها، هم وخاطفوهم.