الاثنين 18/4/2011: ملف النسيان لم أتصل بأصدقائي السوريين، الأدباء والفنانين. منعني الحياء من اقتحام تأملهم الشخصي في حال وطنهم، فلا أحرجهم أو أحرج نفسي، خصوصاً أن عواطف اللبناني مهما بلغ صفاؤها، لا تستطيع تجاوز التباسات الوجود العسكري والأمني للسلطة السورية في لبنان منذ 41 سنة، إذ تناوبت الجماعات السياسية اللبنانية كلها في موقعي الحليف والخصم. لكن بيروت كانت في كل أحوالها ولا تزال عاصمة ثقافية ومالية للداخل السوري، داخل كان بالنسبة إلينا هيولى من أطياف تاريخ وبشر، وهو يتحرك الآن بطريقة غير مسبوقة لينتقل الى التشكّل الواقعي. يدنا على القلب خشية ورجاء. ونشير الى السوري فخري البارودي الداخل في ملف النسيان، ونشيده الذي كان منتشراً: «بلاد العرب أوطاني، من الشام لبغدان، ومن نجد الى اليمن، الى مصر فتطوان»، فمع الأحداث السورية ينطوي النشيد وورقة القومية العربية التي خطها سوريون ولبنانيون في مواجهة قومية طورانية استولت على قرار السلطنة العثمانية. وفي مقابل النسيج الذي صدرته مصانع دمشق وحلب كانت سورية تصدّر القومية العربية الى البلاد الناطقة بالضاد، واستطاع حزب قومي عربي تحت ماركة تجارية هي «البعث» ان يحكم سورية والعراق بعد أن استدرج الرئيس المصري جمال عبدالناصر الى وحدة تقفز فوق الحاجز الجغرافي الإسرائيلي. كانت العروبة غواية القوم وجوابهم السهل على هزيمة فلسطين وشعارهم الذي يحجب الكسل عن التنمية الصعبة. الثورات العربية تنطلق اليوم من مطالب محلية وتهدف الى تجديد حكم محلي لتأمين مصالح أهملتها نخب حاكمة كانت تخفي إهمالها بأقنعة القومية. وعلى رغم «هجرة» البعض من الوحدة العربية الى الوحدة الإسلامية الأوسع فإن هتافات المتظاهرين السوريين تشير الى رغبة باستنهاض وطنية سورية تلتقي بالوطنيتين التونسية والمصرية وشعاراتهما في ساحات الاعتراض. لكن الوطنية السورية مولود بل أسلاف، فلا الدولة المدنية ثم العسكرية تبّنتها ولا المعارضات السياسية والدينية ولا المثقفون في معظم مشاربهم، وقد اعتاد السوريون التعبير عن وطنهم بكلمة «قطر» التي تعني التقليل من السيادة ليكون الوطن قطراً من مجموعة أقطار هي «الوطن العربي». هل تولد الوطنية السورية أم يدخل «القطر» السوري في المجهول، ويحيل الأوطان المحيطة به، بما فيها تركيا، الى «أقطار»؟ الثلثاء 19/4/2011: قصيدة بلا تعريف عبدالقادر الجنابي واحد من شعراء أربعة كتبوا قصيدة النثر العربية وتابعوا التنظير لها ونقد مسارها، الثلاثة الآخرون هم أدونيس وأنسي الحاج وبول شاوول، مع تقدير لمساهمات الشاعر أمجد ناصر وأسماء مصرية من جيل الثمانينات. جديد الجنابي كتابه «الأنطولوجيا البيانية» (نشر مشترك ل «الغاوون» و «ثقافات/ إيلاف»)، حيث نقرأ نصوصاً مؤسسة للحداثة الشعرية وأخرى تجريبية، ومحاولات للقبض على الشعر وإعادة تعريفه التي تتواصل مع الشعراء والأزمنة. وتدخلك أنطولوجيا الجنابي في سير شعراء ونصوصهم المتنوعة عرباً وغرباً بحيث تتألف مناخات من اللغة والخيال والانكفاء، تختلف عن بعضها بعضاً وتؤلف جميعها مجد الإنسان وحريته حتى غموض الموت. لذلك، يبدو تعريف قصيدة النثر مفتوحاً على هواجس وتجارب بلا حدود، يفقد التعريف علميته ومنهجيته ويتقدم باعتباره باباً مفتوحاً على مناخات متحولة. هكذا يكتب الجنابي عن قصيدة النثر: «في كل قصيدة تكمن حيلةُ شاعرها اللغوية التي يُسرِّب من خلالها عواطفه المُبعدة من واجهة الكلمات. اللغة هذه التي ليس الشعر سوى «فرصتها المحتّمة». لا تَخدعُ كائناً بوعود، ولا حتى بوعود حرّية. وحتى عندما تبدو وكأنها دالّ إشكالية اجتماعية ومدلولها. فإنها، ملتاثة التعبير غير قادرة على الإفصاح، ترتقي بنا الى فعل التأمل، فنفكر في ذواتنا. وها هو دور القراءة الصعبة: الانزياح من التعبير عن المحنة، الى محنة التعبير. إيجاد تقارب بين الشعر والقارئ، فينير كلٌ منهما الآخر. كتابة الشعر تجربة، وقراءته تجربة أخرى. لكل جنس أدبي معنى معلق كصورة ثابتة على جداره، موعظته المرحلية. في الشعر، المعنى سلمٌ حلزوني يتجسم في ذهن القارئ، ما ان يصعده، حتى يُصبح أكثر وعياً بمشاعره. هناك شعراء، الشعر بالنسبة اليهم وسيلة تعبير لا غير. وبما ان الموضوع الذي يستخدمون الشعر وسيلةً للتعبير عنه سيئ، فإن أي قصيدة مهما كانت براعتها الوزنية، اللفظية والإيقاعية، تبقى سيئةً عاجزةً عن الذهاب أبعد من مضمونها الذي جاءت لخدمته. وهكذا تعود القصيدة، في أزمنة المعنى الخوالي، مجرد رمز لبطالة الكلمات. فالقصيدة هذه يأسرها الذوق العام، إكراه الحقبة التي ترتعد في كل شعر ترى فيه نهايتها المحتومة. ذلك أن اللغة العربية، شعراً، ميدان لهذا الشعر المُختزل ووسيلة تعبير لا غير، حيث مقدارُ ضيق أفق شاعرٍ ما، يكون على مقدار ما في القراء، الذين يتغنى بهم، من آفاقٍ ضيّقة. بعض هذا الشعر، ربما، ناريٌ، لكنه لا يضرم نار الرؤيا، وإنما يحترق فيه الشاعر نهائياً. فما هو ميتٌ، ما من إيقاع يحييه». الأربعاء 20/4/2011: صعود وهبوط الموارنة عصب الكيان اللبناني الذي ولد بجهود مثقفين تنويريين، غالبيتهم من أبنائها وبعضهم كان مقيماً في الإسكندرية وباريس ونيويورك. قام الكيان على حرية التجارة والتعليم والمعتقد، ومن هذه الحرية صعدت أصوات مثقفين معترضين أكسبوا لبنان مسحة إنسانية، كما حضنوا في العاصمة بيروت أصواتاً عربية ضاقت منابر بلادها. بطريرك الموارنة الجديد استضاف اليوم قمة لطائفته اقتصرت على زعماء أربعة: رئيس جمهورية سابق هو نجل مؤسس حزب جماهيري ماروني مع إضافات مسيحية غير ملحوظة، وقائد جيش سابق يعترض على اتفاق الطائف ويمارس سياسة طهرانية في بلد يحتمي لصوصه ببيوت للطوائف لا تصلها الشرطة، وقائد ميليشا سابق يقرأ كثيراً ويحاول تجديد حضوره في صورة زعيم مسيحي وطني واقعي، وشاب نجا صدفة من مقتلة عائلية في صراع دموي وأتقن المواءمة بين مصالح العشيرة والطائفة بتحالفات إقليمية ثابتة. كانت «الجبهة اللبنانية» في مطلع الحرب الأهلية تضم مفكراً متفلسفاً هو شارل مالك ومؤرخاً أدبياً هو فؤاد أفرام البستاني ومؤرخاً اجتماعياً هو جواد بولس وسياسياً متأدباً هو إدوار حنين، مع جلسات خاصة يحضرها باني قصر الخيال اللبناني سعيد عقل. لا يحتاج البطريرك الى تزيين القمة المارونية بمثقفين. لقد انتهى دور هؤلاء حين قبلوا بالمشاركة في دق طبول الحرب، مثلما انطوى دور مثقفين ذوي بعد اقليمي وعالمي مثل سليمان البستاني (الوزير العثماني) وأمين الريحاني (الإنسانوي الأميركي المشارك في الانفتاح على الجزيرة العربية) وجبران خليل جبران (الإنسانوي الحاضر عالمياً الى أيامنا). الصورة التي لا يرضاها مثقفو الموارنة لطائفتهم العريقة، يعتبرها قادة الطوائف الأخرى مثالاً يحتذى، فاستعاروا تقليد اجتماع دوري للهيئة الملّية يطغى عليه رجال الدين ويدلي أحدهم ببيان أشبه بوصفة عمل لأبناء الطائفة لم يستشاروا في صوغها أو برسالة الى الطوائف الأخرى تقابلها رسائل مضادة أو مستجيبة، فيستبدل لبنان مؤسسات دولته الشرعية بمؤسسات تدعي النطق باسم الشرع. لا تعرف من تطيع ومن تعصى والى أين تودي بك هذه أو تلك من مؤسسات لا دور لك في قراراتها ولا مشورة. الخميس 21/4/2011: صدمة سودانية صدمة السودانيين بقسمة وطنهم ربما تكون أحد أسباب خلوّ ساحات الخرطوم من متظاهرين ضد نظام عمر حسن البشير، صدمة أطفأت الأمل وحوّلت السودان في نصفه الشمالي تجمعاً لبشر مستسلمين ولسلطة لا تدري ماذا تفعل. حسن الترابي، الشريك السابق للبشير في حكم «الإنقاذ» الذي دمّر الشخصية السودانية، وحده الذي يتحرك في سجنه وفي حريته، ضاحكاً في الحالين ومتنصلاً مما ارتكبت يداه، ومصرّاً على أنه مفكر إسلامي يهتدي به المنقلبون على السلطة في بلادهم مستغلين الشعار الديني لاستعباد الناس وتفتيت الأوطان في صخب الدعوة الى وحدات كبرى. من إبداعات الترابي الجديدة كتابه «في الفقه السياسي - مقاربات في تأصيل الفكر السياسي الإسلامي»، الصادر عن الدار العربية للعلوم في بيروت. مهندس تقسيم السودان يكتب السطور الآتية عن «الوحدة»: «لئن كانت مقتضيات التعاون على المصالح المشتركة وفي سبيل تحقيق الأهداف الوطنية في الأمن والنهضة، تقرّبنا الى الدول المختلفة حسب كثافة المصالح المتوخاة للسودان في معاملتها، فإن عقيدة السودان وتوجهاته الحضارية تنطوي فيها تقديرات إجمالية للمصالح والمنافع ودوافع كلية لقيم الحق والخير تدفع السودان الى السعي لتوحيد أمره مع بلاد أخرى. فبقدر ما يحرص السودان على سيادته واستقلاله إزاء بعض الكيانات الدولية يحرص على توحيد مدى أوسع من تلك السيادة مع آخرين يستشعر معهم استكمال ذاته وتحقيق وجوده الأتمّ. وتشمل هذه الدائرة التي يسعى السودان للاتحاد معها ببعض أمره دولاً عربية وأفريقية واسلامية. وتتوقف أولويات التوحد مع بعضها قبل بعض على نسبة وقوة القيم الجامعة في الدين والثقافة وقوة الواقع الأقرب مصلحة أو جواراً. ووحدة وادي النيل، ووحدة القرن الأفريقي ووحدة وسط أفريقيا ووحدة غرب أفريقيا والوحدة العربية والوحدة الأفريقية والوحدة الإسلامية - كلها دوائر قابلة لأن تصبح مشروعاً تنفيذياً بحسب الأولويات والإمكانات. والمنهج الذي تتوخاه السياسة التوحيدية ينبغي أن يبدأ من الجزء الى الكل تدرجاً، بحيث يوحد ما تيسر من مصالح الحياة ووظائفها حتى يتكامل البناء نحو كيان الوحدة السياسية الشاملة، وأن يعوِّل المنهج على وحدة المجتمعات قبل الدول بحيث تتلاشى الحدود وتتلاحم الشعوب، وتتم القاعدة - لوحدة سياسية دستورية - تؤسس من ثم بالرضا والحرية وإرادة الشعوب، ولا تُعقد قهراً فتنهار إذ سقط القهر، وأن يراعي النهج المعادلة الثابتة بين الخصوص والعموم والمحلية والشمول، بحيث تستصحب مركزية مناسبة تبقي من التباين ما يثري الحياة وتُتم من الوحدة ما يقوّيها».