لا يشك عبدالملك الحوثي في أن الشعار الذي يرفعه مقاتلوه الإماميون في صعدة وحرف سفيان والملاحيظ وحول جبل دخان، على حدود اليمن الشمالية الغربية، «الموت لإسرائيل، الموت لأمريكا»، ويموتون دونه ويقتلون، هو (أي الشعار) «برنامج عملي وتطبيقي متكامل، سياسي وتثقيفي معاً». وعلى بعد آلاف الكيلومترات من الحدود اليمنية - السعودية، في جوار البصرة والنجف والناصرية والديوانية وبغداد نفسها، رفعت «عصائب أهل السماء» و «(جيوش) المهدي» الجرارة الأعلام السود، وفيها كتابة مختصرة تبدو لافتات عبدالملك بدر الدين الحوثي قياساً عليها تطويلاً ثرثاراً: «يا مهدي أدركنا». والأرجح أن قائد «العصائب» المتخفي والقتيل، ومقتدى الصدر، قائد «الجيوش» المحتجب والحي بإذنه والقليل النطق منذ جولاته الملحمية (على المعنى الحربي) على الحارات المختطلة، الأرجح أن الإثنين حسبا أن التسويد (رفع الأعلام السود) وحده برنامج عملي وتطبيقي متكامل، وهو الكلمة الفصل في حكم الدنيا وكسب الآخرة، ورد الجواب القاطع على المسائل والأحكام والسياسات الشرعية والمدنية. والى الغرب الشمالي من بلاد ما بين النهرين التاريخيين والناخبين، ترد حركة المقاومة الإسلامية («حماس») الفلسطينية على مسائل الأولى والآخرة، والفانية والباقية، بكلمة واحدة، «المقاومة». وهي جواب الدولة و «الدولتين» و «الثلاث»، والسلطة، «العميلة» و «المتصهينة»، والمفاوضة «الخادعة» و «غير المجدية»، و «الاستجداء الذليل». والقرينة المفحمة على فعلها وجدواها، جلعاد شاليت الأول، والثاني والثالث. والى الشمال من فلسطين، يرفع «حزب الله» وهو من ينبغي أن تسكت محاضر المجلس النيابي اللبناني عنه احتراماً لاسم الجلالة على ما لا يتجرأ على الإفصاح نائبه، علمه الأصفر، الى الراية السوداء. ويوسط رايته كتابة هيروغليفية هي البندقية الآلية الروسية، وأخرى هجائية ألفبائية هي «الثورة الإسلامية في لبنان»، «وطن الآباء والأجداد، ووطن الآباء والأحفاد» على قول بيان تأسيسه الثاني. وعلى هذا، من أقاصي جنوب المشرق الى رأسه الشمالي، وبينهما وجهه الشرقي العراقي، وهو بعض «الخليج الثائر» في الحداء الناصري والعروبي العتيق، تنهض حركات أهلية مسلحة تنكر، باسم «فلسطين»، أي الكرة الفلسطينية المتقاذَفة والمتعاورة والمضطربة الرسم، جواز قيام دولة وطنية في حدود إقليمية مستقرة، وراسية على قانون أساسي مشترك. وعلى خلاف ترتيب عدِّها، من جنوب شبه جزيرة العرب الى شمال المشرق الغربي، تعاقبت الحركات هذه من الشمال الى الجنوب. وكان ابتداؤها في بلدان حديثة اختبرت علاقات اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة و «متقدمة». وتأخر قيامها في بلدان أقل تعرضاً من الأولى لهذا الضرب من العلاقات، و «عصبية الدولة» فيها أقوى شوكة وبطشاً. فسبق الحزب الخميني المسلح في لبنان الحزب الإخواني المسلح في فلسطين، زمناً ووقتاً. وسبق إخوانيو فلسطين مهديي العراق. وعاصر هؤلاء، على وجه التقريب، خروج أنصار بدر الدين الحوثي وابنه من بعده. وقامت الحركات هذه على أنقاض سلطة دولة، أو نواة دولة، صدعتها عوامل متفرقة، وتترجح العوامل هذه بين المنازعات الإقليمية و «القومية» السياسية والأهلية الناجمة عن هزيمة 1967، ويقظة خلافات أهلية باردة لم تنته الى خواتيم وطنية مستقرة، وبين احتلالات وحملات عسكرية استظهرت بالخلافات الداخلية وبدعوات قوى وجماعات محلية حَجَر عليها الاستبداد الداخلي، والتواطؤ الإقليمي، سبل المعارضة والعبارة. وفي غمار الفوضى والاقتتال اللذين عمّا (ويعمان) المجتمعات و «الدول» الممتحنة، تصدعت أو انهارت الجيوش النظامية، وعجزت عجزاً فاضحاً عن التحكيم في الاقتتال الداخلي، وعن حصره في الداخل أصلاً. وأظهرت الجيوش هذه ضعفها عن الاضطلاع بدور متماسك في خوض حرب دفاعية في وجه قوات نظامية متفوقة تفوقاً ساحقاً. وتعمدت الحركات المتفرقة هذه استدراج القوى النظامية، حيث قدرت، الى امتحان حرب لا يشك أحد في نتيجتها، أي في تتويجها بخسارة القوات النظامية خسارة مهينة. وتجمع بين الحركات الأهلية العسكرية، على مقادير متفاوتة، طرفيتها الجغرافية والأهلية، المذهبية والسكانية. ف «مادة» الحركة الشيعية والخمينية المسلحة في لبنان هي شيعة الأطراف، على معنيي الطرفية: أطراف الأراضي الإقليمية بجوار الأراضي الفلسطينية التاريخية، جنوباً (لبنانياً)، وبجوار الأراضي السورية، بقاعاً، وبإزاء السكان السنّة «العرب» (العشائر) في الجنوب والسنّة من أهل «المدن» المتوطنين في البقاع. والمعنى الثاني يتناول أطراف مدن الساحل بين صور وبيروت. فنزل مهاجرو الشيعة البقاعيون والجنوبيون ضواحي المدن هذه، وعلى الخصوص بيروت، جنوباً وشمالاً شرقياً، وأنشأوا فيها حارات واسعة. وانقلبت الحارات، مع الجوار الفلسطيني المسلح، وحروب الداخل والتهجير، الى ملاجئ وثغور ورباطات. وحضنت، تدريجاً، «خزانات» مقاتلين ومحاربين وأمنيين استخباريين، وموظفي إدارة ذاتية، و «مجتمعاً نقيضاً»، أهلياً ومذهبياً واجتماعياً وسياسياً. و «مادة» الإخوانيين الفلسطينيين، وقبلهم مادة الحركات والجبهات والمنظمات الفلسطينية المسلحة الكثيرة، هي حكماً، في الوطن والمهاجِر، مهاجرون أو نازحون قسروا على الهجرة والنزوح، ونزل معظمهم مخيمات موقتة. وحافظت المخيمات على تمايز مصادر النزوح الفلسطينية مقدار ما عزلت دواخل المخيمات عن خارجها، ورسخت طرفيتها الأهلية، ونزعت الى تسويرها على شاكلة حارات أو «غيتوات» منكفئة. فزاوجت إدارةً ذاتية منفصلة ومشرذمة وإلحاقاً أمنياً قسرياً ومركزياً بأجهزة السلطة الحاكمة الخارجية. وتولى الجهاز الأمني الوطني والمحلي حماية «حدود» المخيمات، من داخل وخارج، وتثبيت طرفيتها. وخلى بينها وبين نزاعاتها الأهلية في الداخل، وحجز بين الداخل والخارج بحاجز أمني صفيق. فحال الحاجز بين العلاقات الداخلية، الأهلية والاجتماعية، وبين التعبير عنها في تمثيل سياسي مناسب أو تقريبي، وقوَّض السياسة ومسخها. ولا ريب في أن غزة، ومعظم سكانها نازحون مثنى وثلاثاً وربما أكثر، هي عصارة الحارة والمخيم الطرفيتين. فهي مهجر نازحين سابقين ومجمعهم. وكانت بؤرة فلسطينية في إدارة مصرية أمنية، قبل أن تضمها الإدارة الإسرائيلية، العسكرية والأمنية، الى الأراضي المحتلة. وعادت أرضاً فلسطينية على حدود مثلث داخلي ومصري وإسرائيلي. وجلا الاحتلال عنها من غير مفاوضة، وتركها لإدارتها الأهلية الذاتية، ونهباً لنزاعات وحروب فصائلية وعشائرية عائلية، رعى الاحتلال تكاثرها، ونفخ النزاع الوطني على السلطة وهيئاتها في جمرات الخلافات الأهلية الجزئية. فكان محالاً أن تنجلي النزاعات التي تتعاور مثل هذه المادة، داخل مثل هذا الإطار وفي مثل هذا الموقع والجوار، عن غير مسرح حرب واقتتال لا نهاية لهما. وكانت حظوظ أبنية دولة، وهيئات سياسية، في الدوام والاضطلاع بحاجات «المواطنين» والتعبير عن إراداتهم، ضئيلة، على نحو وقدر ما كانت حظوظ حركة إسلامية وأهلية في الاستيلاء على التمثيل السياسي، وتسخيره لأغراضها وأغراض حلفائها ورعاتها الإقليميين، راجحة وغالبة. وعلى رغم اختلاف العراق اختلافاً حاداً عن غزة ولبنان (الفلسطيني فالسوري فالحزب اللهي الخميني)، فهو يشترك وإياهما في انقلابه، قبل الحملة الأميركية وبعدها، الى بلد حدودي، وانقلاب جماعات، على مقادير متفاوتة، جماعات حدودية. فالحرب التي شنها الديكتاتور البعثي على إيران الخمينية المضعضعة، ودامت نيفاً وأعواماً سبعة منهكة، حررت الأطراف الجغرافية، أي الشمال الكردي أولاً، والأطراف الأهلية، أي الكثرة الشيعية في الجنوب خصوصاً، من الدولة الوطنية وسلطتها وجيشها. وحملت الحرب المتطاولة الأطرافَ، تالياً، على السعي في الانفصال أو الانكفاء والاستقلال الأهليين الذاتيين. ولولا تهديد الانفصال الكردي وحدة الدولة التركية في الشمال وتولي الجيش التركي حصار كردستان، ولولا اندلاع الحرب العراقية والإيرانية على الجبهة الجنوبية حيث انتشرت القوات العراقية، في موازاة طريق البصرة - بغداد حيث معظم السكان الشيعة، لانهار الحكم ببغداد. وهو، فعلاً، سار مرحلة طويلة على طريق الانهيار قبل أن يسقط تحت ضربات الاحتلال، ويخلف وراءه أنقاضاً سياسية واجتماعية بائسة. ونجا تقريباً كرد العراق وحدهم. وغلبت على الأنقاض هذه منظمات وافدة، أو ولدت، شأن «حماس» الفلسطينية و «حزب الله» الخميني، من الأنقاض واستولت عليها من «داخل» مجوف وهزيل، وأسرع الى مساندتها (وصنعها في حال «حزب الله») خارج إقليمي مغرض وقريب. وتولت قوات التحالف الأميركي، في أثناء تخبط طويل ثم في أعقابه، الحؤول دون انفجار العراقيين جماعات طرفية وحدودية متناثرة. وخرجت الجماعات، أي أطرافها العامية المهاجرة والنازحة وبعض فئاتها المتخلفة عن أجهزة الحكم السابق وإدارته وعصبيته، على لحماتها الوظيفية والموروثة، وبعضها على بعض. وهجَّر بعضها بعضاً، ووظَّف بعضها دول الجوار القريب، المتحفزة والطامعة والمتورطة والخائفة، في «القتال» والقتل. وساندت دول الجوار معظم الحركات المتقاتلة، ومولتها واستعملتها، ولا تزال، في الحؤول دون استقرار دولة عراقية مستقلة على «إنجازات» الاحتلال الجزئية والنسبية، وعلى إخفاقات «المقاومات» المتضاربة والمتناقضة. والسبيل الى هذا هو الحفاظ على قوى احتياط حدودية وداخلية معاً، وخوض قوى الاحتياط المركبة «حروباً» على نواة الدولة السياسية، وإدارتها وأجهزتها، إما بذريعة مرابطة القوات الأميركية ودوامها، و «العمالة»، وإما بذريعة الانحياز الى إيران والاستيلاء على الدولة الوطنية. والذرائع هذه كلها، والسياسات والأفعال التي تسوغها، وتدعو إليها أو تنجم عنها، تقحم على سيادة الدولة، وعلى استقلالها عن الجماعات الأهلية وإهدائها وارتباطاتها، ما يصدعها ويقوضها حصصاً، ويَجمع العصبيات على عصيانها. وطرفية الحركة الحوثية (اليمنية) والشيعية المسلحة، جغرافياً وقياساً على الوسط المشرقي، لا تطمس توسطها السياسي. فهي تمثل على نازع قد يُبطل أركان رابطة إقليمية ضعيفة ومختلة، ولكنها على رغم هذا تحول دون انفجار دولها جماعات أهلية متحاربة. فالجماعة اليمنية لا تشارك الجماعتين الأهليتين الكبيرتين المعتقد بعد تركها الزيدية الى الإمامية الاثني عشرية من طريق النجف وقم و(ربما) ضواحي بيروت وبعلبك. وهي أنكرت الإنقلاب السياسي الذي أطاح، قبل نصف قرن، الإمامة المتوكلية، وأحل الجمهورية محلها. وتنزل الجماعة، النسبية والمذهبية، بلاداً متنازعة على حدود دولتين لم تحسما نزاعهما إلا منذ بعض الوقت. وحدود البلدين مرتع مرور غير مشروع يتصل بالبحر، من جهة، وبداخلين قبليين يعصيان السيطرة والمراقبة، من جهة أخرى. وتتوسل جماعات «جهادية» ومقاتلة، تناوئ الفرق الإسلامية الأخرى مناوأة حادة، بطرق المرور والرعي والتهريب الى أغراضها. ويحمل ضعف الحكومة الوطنية بإزاء خصومها ومعارضيها وحلفائها، وبإزاء القوى الإقليمية، يحملها على المغامرة بحسم عسكري لا تملك مقوماته السياسية ولا التقنية. فهي تمسي طرفاً أهلياً وعصبياً حال تصديها لمعارضة أهلية وعصبية، إذا لم تؤيدها غالبية اليمنيين ولم تنجح في شق الجماعة الحوثية واستمالة شطر منها الى صف الدولة. وهذا ما لم تنجح صنعاء فيه. وحرب القوات النظامية على قوة أهلية متحصنة في «بلادها» وديرتها، ولا يمتنع عليها التموين من طرق متفرقة إذا تولته قوة إقليمية «ثرية»، سرعان ما تنقلب حرباً غير متكافئة على الجيش الوطني، وحرباً «وطنية» على دولة منحازة وتابعة. وتعبئ الحركة الأهلية والعسكرية الحوثية، شأن الحركات الأخرى في لبنان وفلسطين والعراق، فقراء الجماعة الأهلية وضعفاءها وعوامها و «مثقفيها» العضويين الذين يدينون بإعدادهم وتأهيلهم الأوليين الى هيئات المدينة الضحلة. ودمج هذه العوامل - الأهلية المذهبية، والجغرافية الطرفية، والاجتماعية المرتبية، والسياسية الدونية، والوطنية السيادية - تحت جناح منظمة «طليعية» ومتماسكة، وفي قيادة استراتيجية مدارها على حماية نظام مهدد في دائرة دولها وكياناتها السياسية ضعيفة، دمج هذه العوامل في السياق والإطار هذين يؤهل من يتولى دمجها الى الاضطلاع بدور فاعل. والحق أن هذا ما أنجزته بعض هذه الحركات، وعلى رأسها الحركة الخمينية المسلحة في لبنان، وقد تنجزها الحركة الحوثية في اليمن. والإنجاز الفلسطيني، الحماسي، يتهدده جواران معاديان قويان، وتآكل سياسي وأهلي داخلي. وقد يطيحه التآكل المزدوج هذا، إذا لم يطحه استعجال حل فلسطيني - إسرائيلي عن يد وساطة أميركية ودولية يبدوان (الحل والوساطة) متعثرين اليوم. والأرجح أن الحركات العراقية، الصدرية و «المهدية»، الى «القاعدة» والبعث الصدامي، فشلت، وأن فشلها لا عودة عنه. فالانسحاب الأميركي والائتلاف الوطني الكردي المقيد يضعفان ذرائع الشقاق المسلح، والمطامع الإيرانية، وتحفظ الجوار السنّي. ولا ريب في أن التهاب المسألة النووية الإيرانية يعوق مسيرة العراق الى بناء دولة وطنية. ويعوقه، على قدر أقل بكثير، إصرار الحكم السوري على أداء دور إقليمي لا قياس بينه وبين الموارد السورية المتوافرة اليوم وفي غد منظور. وتقود المقارنة السريعة بين الحركات الطرفية المسلحة الى الإقرار بقوة حجتها الأهلية والعصبية والإسلامية - القومية. وعاد عليها ركوبها مركباً جماهيرياً عريضاً ولجباً بسلطان ودور لا ينكران، وفي بعض الأحوال راجحين. واستجابت الحدة الأهلية والعصبية المسلحة نازعاً ثأرياً ومناهضاً لأشكال سيطرة الدول الغربية الكبيرة السابقة، وللتفوق العسكري الإسرائيلي، ولا يزال (النازع) مصدر هوى «سياسي» غالب. ومعارضة الحجة الأهلية والعصبية المسلحة بالدولة الوطنية وب «حاجات الناس» واقتراعهم، على ما هي الحال في لبنان، «متمدنة» فوق ما يطيق «الناس» أنفسهم، وفوق ما يشتهون. وهذه المعارضة، في بلدان لم تختبر كيان الدولة الوطنية على ما هي حال معظم المشرق، من غير جدوى. ولم يلجم النزعات الطرفية في العراق إلا تضافر القوة المسلحة واقتراح المساومة السياسية. ويقيد النزعات هذه في لبنان، الى اليوم، تضافر بعض السياسات الدولية والعربية وصمود التيار السياسي الوطني والسيادي في وجه الإرهاب والترغيب والتفتيت. ولكن ما لم تكافئ الدولة الوطنية، وهواها، «سحر» الحركة الأهلية والعصبية المسلحة و «بطولتها»، فلن تبدو الحركات هذه على حقيقتها، أي عارية من الرغبة في الحرية، وفي بناء رابط سياسي يقوم على الكثرة والمنازعة والعلانية. * كاتب لبناني