شخصيات رواية «الماضي البسيط» لا تحيا، بل هي بالكاد تعيش. شخصيات لا يُساوي الزمن لديها «لمحة»، تتشابك حيواتها وتتقاطع خيباتها في ظل حكم أبوي لا مكان فيه للرحمة واللين. «السيّد» هو الأب، مُمثل «البيروقراطية» الدينية والديكتاتورية السياسية. أما «إدريس» فهو الابن، ممثل الفرد المخنوق والشعب المتمرّد. وبين هاتين الشخصيتين تدور أحداث الرواية كلّها. ومن أقوى مشاهد الرواية تلك التي تُقابل «السيد» بابنه المتمرّد، ليعلن الأب - الوحش صدمته من «ثورة» ابنه عليه: «الحاج، لم أعد حاجاً. والأب، لم أكن يوماً أباً. والسيّد، لم يعد عرشه سوى كومة روث من براز الخنازير والكلاب. وما زلت أنتظر بصقاتكم». أحداث «الماضي البسيط» تدور إبّان الاستعمار الفرنسي المغرب وهي تُنقل على لسان «إدريس فردي» عبر ضمير المتكلّم «أنا». يستعيد الراوي ماضيه «المُعقّد» في رواية اختار لها «الماضي البسيط» عنواناً، إلّا أنّ اللعبة الروائية تكمن هنا أيضاً، فالعبارة هذه تُسمّى بالفرنسية Le passé simple، وهي إن دلّت فعلى زمن التصريف الأنسب لرواية الأحداث الماضية والمنتهية في الماضي. «إدريس فردي»، يستعيد مرحلة معينة من حياته داخل عائلة مغربية تقليدية يحكمها أب عنيف، سادي، متسلّط. ويغوص من خلال ظلم والده وجوره في قلب المجتمع المغربي، كاشفاً عيوبه وعوراته من دون أي حرج. واقعية مغربية مع رواية إدريس الشرايبي هذه، تقدّمت الواقعية في الرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية أمتاراً كثيرة باتجاه العمق، ومعه تبدّدت «مسحة السحرية الحالمة» لتحل «الواقعية الصادمة» مكانها. «الماضي البسيط» هي الرواية الأولى لعميد الأدب المغربي الفرنكوفوني إدريس الشرايبي، قوبلت منذ صدورها عام 1954 بالرفض والنقد اللاذع في المغرب، بينما لقيت ترحيباً واحتفاءً من النقد الفرنسي. الفئة الأولى كانت تبرّر هجومها القاسي عليها باعتبارها تجسيداً لمصلحة المستعمِر، لما تُقدمه من فضح لمظاهر التخلّف والانحطاط في المجتمع المغربي. فعمقّت هذه الرواية القطيعة بين القارئ المغربي وأعمال إدريس الشرايبي لأكثر من عقدين من الزمن، وهُمّشت «الماضي البسيط» عربياً في الوقت الذي تُرجمت إلى أبرز لغات العالم. وقد يكون اللغط الحاصل حول الرواية واعتبارها سيرة ذاتية للكاتب، نظراً إلى التشابه بين اسم الراوي والروائي «إدريس» وظروف حياتهما «التعلّم في مدرسة فرنسية وتشرّب الثقافة الليبرالية...»، سبباً إضافياً للنقمة العربية على هذا العمل وكاتبه. في رواية إدريس الشرايبي الصادرة أخيراً باللغة العربية عن «المركز الثقافي العربي» (ترجمة محمد التهامي العماري) نتلمّس بعداً تنبوئياً لدى الكاتب الذي برع في تحليل الواقع المغربي، تجلّى في عدم انتهاء راهنية هذه الرواية «المحليّة - الظرفية» بعد مرور ما يُقارب ستة عقود على صدورها. بل يكاد يكون العالم العربي اليوم بكلّ ما يُعانيه من خلل وإرهاصات في ظلّ المرحلة الانتقالية التي فرضتها الثورات الشبابية عليه. قراءة متأنية لهذا العمل بكل ما يحمله من أفكار ترجمها الكاتب على لسان بطله وحامل اسمه «إدريس» توضح أن تشريح الشرايبي لمجتمعه وإبراز مواطن الخلل فيه لم يكونا كرهاً بالمجتمع نفسه، وإنما تأكيد أن مشكلة مجتمعاتنا لا تكمن في الاستعمار، بل في الأسباب الممهدة لهذا الاستعمار، كالجهل والتعصب والانحطاط والسلبية... وهذا ما يؤكّده مترجم الكتاب أيضاً في مقدمته التي يقول فيها: «كانوا يرون في هذا المجتمع تجسيداً للهوية الوطنية العربية الإسلامية، وباسمها كانوا يُقارعون المستعمر من أجل منحهم الاستقلال... ولربما كان إدريس الشرايبي من أوائل الذين أدركوا أن المشكل الحقيقي بالنسبة إلى الشعوب العربية آنذاك لم يكن في الاستعمار، بل ما مهّد لدخول الاستعمار... والشعوب العربية وجدت نفسها وهي في العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين مضطرة إلى القيام بمعركة تحرير ثانية للتخلّص من أنظمة استبدادية فاسدة... ووجد الإنسان العربي نفسه من جديد أمام الإشكاليات والقضايا نفسها التي طرحتها رواية «الماضي البسيط» منذ خمسينات القرن الماضي». الأب - الطاغية شكّلت هذه الرواية صدمة حقيقية لكونها حرفت مسارها عن الأنواع التي كانت سائدة في الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية. لذا، تُعد «الماضي البسيط» عملاً طليعياً منح الرواية المغربية المكتوبة بالفرنسية هوية أدبية خاصة. الأب يتجلّى في العمل نموذجاً للسلطة العليا المُمسكة وحدها بزمام الأمر والقرار. إنّه تجسيد حقيقي لهيمنة السلطات السياسية والدينية والذكورية في مجتمعاتنا العربية. هذه الصورة ينقلها ابنه إدريس (الراوي جوّانيّ الحكاية)، فيكاد حضور العائلة يختفي في حضرة السيّد. إنهم يُصبحون مجرّد أرقام أو كائنات بوجود شبحيّ: «هم خمسة مصطفين أيضاً بمحاذاة الجدار» (ص 28)، «كانت عشرة أعين تتابع حركاتي» (ص 49) «ثمانية أزواج من الأعين، وثمانية أزواج من الآذان تنتظر خلاصاً واحداً» (ص 56). أمّا الزوجة التي اعتادت الخضوع والخنوع والتمتمة بطلب الموت «بحادثة صغيرة، بسقطة في السلّم، أو جرثومة مجهولة، أو قنبلة ألمانية، أي شيء يقودني إلى الموت»، فهي ليست سوى «امرأة» في عين السيّد، يُناديها باسم النكرة «يا امرأة» للتقليل من شأنها وكأنها مخلوق من الدرجة العاشرة: «ماذا حضرت لنا هذا المساء يا امرأة؟»، «حسناً يا امرأة»، ثمّ يُعايرها بضعفها وخضوعها قائلاً: «هذه المرأة التي لا تعرف شيئاً سوى الإنجاب وقول نعم مولاي» بل ينزع عنها صفة الإنسانية ويحوّلها إلى شيء انتهت صلاحيته وفسدت قيمته: «هذه المرأة التي انتهى زمانها ولم تعد تقوى إلّا على الركوع» (ص 64). ومن خلال شخصية الأم والخالة، يكشف الراوي عن معاناة المرأة في ظلّ مجتمع مغربي ذكوري يتحوّل فيه صكّ الزواج إلى صكّ عبودية: «لقد بلغتما يوماً سنّ الزواج، ومنذ ذلك الحين وأنتما ميتتان». تمرّد الابن الأخ الكبير «كامل» واجه سلطة أبيه بالهروب إلى «بوسبير» (حيّ شهير في الدارالبيضاء وكان مخصصاً للبغاء في الفترة الاستعمارية) والخمر والتسكّع، والإخوة الصغار تقوقعوا في خوفهم وبؤسهم وضعفهم إلى أن مات أصغرهم «حميد» بإحدى ضربات الوالد المعهودة على الرأس. ولم يستطع التمرّد عليه إلّا اللبن الأحبّ إلى قلبه إدريس، المُلقّب بالأشقر. كان يسمونه «الأوروبي الصغير»، فهو يُشبه المُستعمر الفرنسي في لونه وهيئته وزيّه، وهو الوحيد الذي دخل، من بين إخوته الستّة، إلى المدرسة الفرنسية حيث تعلّم ثقافة الآخر وتشرّب من أفكاره. وبعدما عاش تمزقاً ثقافياً قرّر أن يثور على عادات مجتمعه البالية وهيمنة والده الذي لا يُناديه إلّا ب «السيّد»، إلى أن يترك موطنه ويتوجه أخيراً إلى فرنسا. مشهد النهاية يُكتب في الطائرة المتوجهة إلى باريس، وهو المشهد الذي أثار سخط المغاربة على الكاتب باعتباره لجأ إلى أرض «المُستعمر» وهو يرمي مجتمعه الأصلي بوابل من الشتائم. تمرّد «إدريس فردي» على السيّد والمجتمع قابله تمرّد إدريس الشرايبي على البنية السردية المترابطة. فاختار، على غرار ويليام فولكنر في «الصخب والغضب»، أسلوب روائي يقوم على تشظّي الزمن السردي و «تقاطع محكيّات متعدّدة». «روش» الفرنسي النصراني قال لصديقه إدريس المغربي المسلم إنّ المجتمعات العربية تغرق في سبات عميق لكونها اعتادت على الأكل والنوم منذ عصور، وهي تحتاج فعلاً إلى حرب صغيرة حتى تستفيق من صحوتها. هذه الجملة حفرت في ذاكرة إدريس الذي استعادها أكثر من مرّة أثناء تذكرّه ماضيه. وبعد ستين سنة تقريباً على صدور هذه الرواية وبعد عقود من السبات العربي، هل يُمكن أن تصحّ مقولة «روش» الفرنسي ومن ورائه الكاتب إدريس الشرايبي العربي وتُحقق الثورات أو الحروب التي نعيشها اليوم صحوة عربية مُحقّة؟