سنة ونصف السنة انقضت على اندلاع الثورة السورية ضد النظام الأسدي الغاشم، وازداد فيهما الثوار صلابة وعزماً والنظام تغولاً وتخبطاً، وتفاقم معدل القتل والتدمير بتصاعد طردي مريع، وتطور استخدام النظام لأسلحة القمع لكي يشمل كل مافي جعبته العسكرية حتى الطائرات الحربية. سنة ونصف السنة تراجعت فيهما الحياة المدنية في مدن سورية وبلداتها، المنتفضة والمهادنة على حد سواء، وتقهقر مفهوم الانتماء والمواطنة لتحل محله مشاعر العداء أو الحذر أو الاحتماء بالطائفة والعشيرة مما يتطلب تغييره أجيالاً من إعادة التثقيف والتأهيل المواطني، وتغيرت فيهما مواقف وتصلبت أخرى في الداخل والخارج ما بين مشارك في الثورة أو موآزر لها بالكلام والدعم المادي والمعنوي أو مؤيد بالرأي والموقف، وما بين معادٍ لها مقاتلٍ في سبيل النظام أو محابٍ له أو مدافعٍ عنه بالكتابة والتصريحات والتآمر حيناً (كما يبدو من قصة ميشال سماحة في لبنان). مواقف الدول أيضاً تغيرت وإن كانت معسكرات الدول المؤيدة لكلا الطرفين ما زالت على حالها تقريباً، وما زال مؤيدو الثورة يجعجعون بالكلام غالباً وبالدعم المادي أحياناً وبالقرارات التي يعرفون مسبقاً أنها لن تجدي شيئاً أحياناً أخرى، ومؤيدو النظام يدعمونه بالمال والسلاح المتطور ويدافعون عنه في المحافل الدولية. هذه سياسة، أو قلّتها ربما، وهي على هذا الأساس تعود في مرجعيتها لمواقف تتجاوز أحياناً أبعاد الثورة السورية نفسها ومآلاتها وترتبط بعوامل جيوسياسية إقليمية ودولية. ولكن الحكم على هذه المواقف لا يمكن أن يكون سياسياً فقط. أي لا يمكن أن يكتفي بحسابات الربح والخسارة النابعة من تقاطع مصالح الأفراد والمجموعات والدول أو تعارضها. لا بد من تقديم البعد الأخلاقي على البعد السياسي في تقييم الثورة والمواقف منها على حد سواء، وإلا سنكون قد اختزلنا الدوافع النبيلة التي أججتها أصلاً إلى ما يدعيه النظام الأسدي بأن كل المتظاهرين والثوار على مدى سنة ونصف السنة من التضحيات عملاء مرتزقون لأعداء البلاد وسياساتها المقاومة (أو الممانعة في السنوات الأخيرة) أو إرهابيون تكفيريون هدفهم تدمير لحمة المواطنة بين فئات السوريين المختلفة لخدمة مخطط عدواني صهيوني، استعماري، ورجعي عالمي. الموقف الأخلاقي من الثورة السورية واضح. هذه انتفاضة شعب عانى لعقود خمسة تقريباً من حكم ديكتاتوري وطائفي جبار أقام بنيانه على مزيج متشعب من الهيكلة الأمنية والمخابراتية المعقدة والعلاقات الإقليمية والدولية المتشابكة والقمع الممنهج والتزلم والمحسوبية والتربح الفاسد، بالإضافة إلى نوع متطور من عبادة الفرد القائد الأوحد حل محل سيطرة الحزب الحاكم الواحد في النصف الثاني من عهد حافظ الأسد واستمر وترسخ في عهد ابنه. وقد رضخ الشعب السوري طوال هذه السنين لجبروت النظام وطغيان أجهزته الأمنية والاعلامية والحزبية ورزح تحت وطأة فساده السياسي والاقتصادي، حتى ظن رأس النظام أنه بمأمن من تبعات ثورات الربيع العربي كما صرح وتباهى لأكثر الصحف الأميركية يمينية قبل أقل من شهر من اندلاع الثورة. وعليه فردّ الفعل الأخلاقي المبدئي لا يمكن أن يكون سلبياً مهما كان التخوف من تبعاتها ونتائجها. يمكن للمرء أن ينتقد تصرفات بعض الثوار أو ينبه إلى الأخطاء أو يستنكر بعض مواقف وتصريحات أو يستقرئ الأحداث ويتنبأ بسوء مآلها، لكنه لا ينزع عن الثورة غطاءها الأخلاقي كثورة على الظلم المتطاول، تجد صداها في التراث الانساني العميم من الصراع بين العدل والظلم، بين الحق والباطل، وبين الناس ومضطهديهم. من هذا المنطلق يجب النظر إلى البيان المؤيد للثورة السورية الذي أصدره العالمان الشيعيان اللبنانيان هاني فحص ومحمد حسن الأمين على أنه موقف أخلاقي قبل كونه موقفاً سياسياً أو دينياً على رغم تأخر صدوره. فعلى عكس غالبية ردود الفعل الإيجابية الأولية على البيان التي ركزت على نفَسه الشيعي، وعلى هوية كاتبيه ودورهما القيادي المذهبي كإثنين من أهم مفكري وعلماء الشيعة في لبنان، وعلى رغم لغة البيان نفسه التي تستخدم الإسلام بشكل عام وخطاب الشهادة الشيعي بشكل خاص كإطار لطروحاته، فأنا أظن أن البيان يؤسس لمسؤولية أخلاقية، فوق-دينية، بل مدنية أو علمانية الروح والانتماء تجاه الثورة السورية. فالبيان يتحدث عن عدم التفريق بين أنواع الظلم والاستبداد مهما كانت المبررات الأخرى من تعاضد ديني أو مذهبي أو مقاومة وممانعة وغيرها. وهو أيضاً يتحدث عن دعم الانتفاضة ضد النظام السوري الاستبدادي كمعادل لدعم أي انتفاضة عربية وغير عربية ضد الاستبداد أياً كان، بما فيها الانتفاضات المتواصلة ضد الاحتلال الإسرائيلي، مما يعلي شأن كل الثورات. والبيان يطمح أيضاً إلى دولة في سورية «ديموقراطية تعددية وجامعة وعصرية»، وهي صفات لا يخفى على القارئ النبيه أنها تنتمي بمجملها إلى لغة عصر النهضة العربية في النصف الأول من القرن العشرين، لغة الليبرالية العربية القصيرة العمر، لغة ما قبل العسكرة والتحزب والتسييس الديني والخطابات التكفيرية التي راجت في السنوات الثلاثين الأخيرة. أي أن البيان بالحقيقة يحاول في صياغته ومحاجّته ما تحاوله غالبية المفكرين العلمانيين العرب الصادقين والمنتمين لأمتهم وتاريخها من المماهاة بين ما هو نيّر ومشرق في الفكر الديني، سنياً كان أم شيعياً، علوياً أم اسماعيلياً، بحكم تراثه الطويل في مقاومة الظلم والاستبداد، والفكر الإنساني التنويري في إصراره على الإطار الأخلاقي الشامل والعالمي لكل نضال سياسي ولكل فكر سياسي بما يعم كل الناس وكل الأمم من دون تفريق أو تصنيف. وإن كان البيان فعلاً خطوة نوعية كبيرة أخذها هذان العالمان الحرّا التفكير، فهو أيضاً يضرب المثل لكل القوى السياسية السورية والعربية والعالمية ولكل المفكرين والنقاد والكتاب بأولوية الأخلاقي على السياسي والديني المذهبي، وبضرورة مقاربة الثورة السورية من منظور أساسها الأخلاقي الواضح والمحق والذي لا ريب فيه. وهي بتمسكها بهذا الأساس الأخلاقي وبنائها لهياكلها ومؤسساتها ومقاومتها وفقاً لوضوح هدفه وشموليته وعالميته لمنتصرة. * عضو في الحركة السورية المدنية (حسم)