قضاء شهر رمضان وسط العائلة والاستمتاع بأجوائه في حي باب الوادي الشهير في العاصمة الجزائرية، كان أمنية ياسين التي تحققت هذه السنة على عكس السنوات الماضية التي قضاها الشاب في ليون الفرنسية، يحضر شهادة الماجستير في الفيزياء، ويعمل صيفاً لتغطية نفقات دراسته بعد اختلال موازنته. وبالنسبة إلى ياسين، فإن قضاء شهر الصيام مع العائلة أمر مقدس لكن تطرأ ظروف أحياناً تجعله يتنازل عن هذا المقدس وإن على مضض، خصوصاً إذا تعلق الأمر بتمويل مشروعه الدراسي. وبعيداً من طقوس رمضان وأجوائه الساحرة في حي باب الوادي الذي ترعرع فيه، يحكي ياسين عن تجربته مع الغربة والدراسة في فرنسا التي سافر إليها منذ سنتين لإعداد رسالة الماجستير، طامحاً إلى أن يكمل دراساته والإعداد لشهادة الدكتوراه في إحدى الجامعات الأميركية. ويقف ياسين ابن ال 26 ربيعاً عند التغييرات التي طرأت على حياته منذ ذهابه إلى فرنسا، فيقول إنه بعدما اعتمد على العائلة في تغطية مصاريف السنة الأولى من دراسته في فرنسا، بات الآن يعتمد على نفسه. فهو يعمل نصف دوام في مهن مختلفة، من بائع وحارس ليلي وغاسل صحون في المطاعم. ويلفت ياسين إلى أن هذه التجربة مكنته من اكتشاف ذاته من جديد، كما أنها غيرت نظرته إلى الحياة وقد أصبح أكثر مسؤولية. لكن المشكلة أنه، وعلى رغم ذلك، لا يزال والداه يتعاملان معه وكأنه تلميذ ثانوي، خصوصاً أنه آخر العنقود وأمه تعتبره طفلها الأصغر أو كما يطلق عليه في الجزائر ب «المازوزي». ياسين لا يتضايق من الإجابة عن أسئلة أمه المتكررة: مع من ستسهر اليوم وهل ستطول السهرة، ولا تسرع وأنت تقود سيارة والدك، وغيرها من الأسئلة والتحذيرات التي تثير حفيظة الوالد في بعض الأحيان، إذ يرى أن زوجته تبالغ في الحرص على شاب يعيش طوال العام وحده، وخارج البلد. ويقول ياسين الذي يعلق على هذه المواقف برحابة صدر: «ماذا أفعل؟ هؤلاء هم الأهل يرون فيك الطفل الصغير ولو بلغت الستين». لكن ياسين الذي يحب أجواء رمضان في باب الوادي، تغيرت نظرته إلى عدد كبير من الأشياء، فكثير من المظاهر التي كان يراها عادية قبل هجرته العلمية إلى فرنسا لم يعد يتقبلها الآن، سواء في طريقة الإنفاق، وما يرافق شهر الصيام من مظاهر التبذير، أم في طريقة قيادة السيارات التي صار يراها فوضوية، وهو الذي كان يتسابق مع أصدقائه في شوارع العاصمة وكثيراً ما نجا من الموت بأعجوبة. ويقول ياسين: «نعم أحب أجواء رمضان وأحب أن أعود كل سنة إلى بلدي لأقضي العطلة الصيفية، لكني أرى أنه يجب تغيير الكثير من الأشياء، هنا الكثير من الفوضى. شيء من التنظيم يسهل الحياة على الناس ويحل الكثير من المشاكل التي يتخبطون فيها». ويضيف: «بقدر حنيني إلى وطني بقدر ما اشتاق أحياناً كثيرة إلى النظام والترتيب الذي ألفته في فرنسا». ويستدرك قائلاً: «هذه الملاحظات لم تعجب كثيراً والدي وحتى بعض الأصدقاء الذين أصبحوا يرون أنني تغيرت لكنها الحقيقة... والحقيقة تزعج». وإن كان ياسين لا يتضايق من ملاحظات والدته وحرصها على تتبع خطواته وتوقيت دخوله وخروجه وكأنه لا يزال طفلاً صغيراً، يروي فتحي كيف كان يمتعض من ملاحظات والده بخاصة في ما يتعلق بأفكاره ونظرته إلى الأشياء والحياة التي تغيرت في شكل جذري. وكان فتحي سافر إلى باريس لإكمال دراساته العليا بعدما نال منحة دراسية لتفوقه وحصوله على أعلى معدل في دفعته في جامعة هواري بومدين للتكنولوجيا. ويعمل فتحي حالياً في إحدى الشركات البترولية الأجنبية في الصحراء الجزائرية، ووقع على عقده مباشرة بعد نيله الدكتوراه في الكيمياء. يقلب فتحي صفحات ذكرياته لما كان يأتي في إجازة الصيف، وكيف كان يدخل في نقاشات ساخنة مع والده المولع بالسياسة. وكان فتحي يتبنى أفكار والده القائمة بغالبها على نظرية المؤامرة وعداوة الغرب، لكن أفكاره تغيرت وأصبح أكثر انفتاحاً وإدراكاً لما يجري في العالم ويطالب بنشر أفكار الديموقراطية والشفافية في الإدارة. ويقول: «فكرة المؤامرة ما هي إلا ذريعة غرست في أفكار شعوب العالم الثالث لإطالة عمر الديكتاتوريات، وأفكاري هذه لا تروق أبداً لوالدي». ويتابع فتحي: «الحمد لله إني التحقت بمنصب عملي في الصحراء قبل اندلاع الثورات في الوطن العربي وإلا كان سيتهمني بالعمالة للغرب».