لا شيء يعدل الصيام في رحاب الوطن ،وبين دفء العشيرة والأهل. ولا أحلى من تلك اللحظات في عمر الزمان من لحظة أذان المغرب والتفاف الأسرة حول مائدة الإفطار. إذا ما أقسى من أن يحرم الإنسان من تلك اللحظات التي لاتتكرر سوى مرة واحدة في العام وهو بعيد عن أرض الوطن.. بعيد عن الأهل والأحباب الذين ألفهم وألفوه ،كحال المبتعثين والمبتعثات المنتشرين في مختلف بقاع الدنيا طلبا للعلم في أعرق الجامعات. كيف يقضي المبتعثون والمبتعثات شهر الصوم بعيدا عن الديار؟ كيف يصومون؟ وماهي مشاعرهم في تلك اللحظات التي تختلط فيها مشاعر العبادة بمشاعر الحنين للوطن. مسافات بعيدة تفصل هؤلاء عن أهاليهم ،وعن هذه الأجواء الجميلة التي تعبق بروحانيات رمضان المختلف عن باقي أشهر السنة. هنا مجموعة من المبتعثين والمبتعثات يروون تجاربهم في الصوم في مجتمعات غريبة خارج حدود الوطن ،ومحاولاتهم للتكيف مع دنيا الغربة. جَمعَة الأهل في رمضان. عبدالرحمن العيدروس طالب ماجستير في التحليل الكيميائي وإدارة المختبرات بأستراليا يفتقد «جَمعَة الأهل»، والإفطار معهم في رمضان ،والصلاة في المسجد خصوصا صلاة التراويح ،فقد مرت عليه ثلاثة مواسم من الشهر الكريم وهو خارج الوطن ،ولكنه يقول: «رغم انشغالاتي في الجامعة ،كنت ألتقي مع إخواني المسلمين من مختلف الجنسيات ،وأجتمع معهم حول مائدة الإفطار في الجامعة والتي تقام كل يوم لجالية معينة، وأداء الصلوات خصوصا صلاة التراويح في مسجد الجامعة». ويشير العيدروس إلى أهم ما تتميز به مدينة سدني حيث المطاعم العربية والمأكولات اللبنانية والمصرية والخليجية الخاصة بشهر رمضان ،غير أن المعضلة الوحيدة التي تواجهه في رمضان هي أن بعض المحاضرات تكون قبل صلاة المغرب بوقت قصير، مما يضطره للاستئذان حتى يفطر على بضع تمرات يعود بعدها لإكمال محاضراته . إفطار عائلي وبعد خمس سنوات قضاها المهندس محمد غازي كتبي في أستراليا لدراسة الماجستير والدكتوراة في العمارة المستدامة ،يشعر في السنوات الأولى ببعض الحزن والحنين إلى الموائد الكبيرة و«الجمعات العائلية» والروحانية المعتادة في مجتمعنا، ولكنه يقول: «مع الوقت تكيفت وعائلتي مع الوضع حيث كنت أجتمع والأصدقاء ومسلمي الحي لأداء صلاة التراويح بشكل يومي، وللتغلب على شعور الغربة نحرص كمبتعثين أن نجتمع بشكل أسبوعي لنفطر سويا في إحدى الحدائق وكل عائلة تجلب معها صنفا أو صنفين من المأكولات الرمضانية». روحانية وأجواء عائلية وتضيف كل من المبتعثة ريم محمد -علوم طبية-، وإيمان الجهني -كيمياء تحليلية وإدارة مختبرات- قولهما: «يزداد الحنين للأهل والوطن في هذا الشهر الكريم بما يتميز به من روحانية وأجواء عائلية، وللتغلب على هذا الشعور ،تكثر الاجتماعات لتناول الإفطار كما أن بعض المبتعثات يقمن ندوات دينية في بيوتهن، والذهاب للمسجد لصلاة التراويح». حنيني للمسجد الحرام ويؤكد عبدالرحمن عقيل الجفري طالب الهندسة الميكانيكية في استراليا «على الرغم من عدم وجود أي تغيير في الأجواء المحيطة بنا في سدني خلال شهر رمضان من ناحية تغيير ساعات الدراسة أو مواعيد عمل المحلات، لكن بمجرد دخول الشهر نشعر بالطمأنينة، لذلك نحرص كمبتعثين على الالتقاء يوميا على الإفطار وصلاة القيام ، لنعوض افتقادنا للقاءات والزيارات العائلية، وكوني من مكةالمكرمة أشعر بحنين جارف للمسجد الحرام الذي يمتلئ بالزوار والمعتمرين، ومن ناحية المأكولات الرمضانية توجد في سدني بعض المحلات التي توفر ذلك . لاشيء يعوض طبخ أمي ويقول محمد حمد طالب هندسة الشبكات بأستراليا: «أجواء رمضان بين أهلك ووطنك لا تعوض، ولكن الوضع في أستراليا أثناء الشهر الفضيل له طعم آخر وخصوصا عندما تكون الأجواء باردة، مما يسهل على الطالب القدرة على الصيام والدراسة، ولا ننسى النادي السعودي وما يقدمه من برامج وأنشطة في الشهر الكريم كالخيمة الرمضانية وصلاة التراويح والإفطار الجماعي، ورغم وجود الكثير من المطاعم العربية في استراليا التي تتنوع فيها الأكلات الرمضانية من سمبوسة وشوربة وطعمية إلا أن ذلك لا يعوضني طبخ أمي والذي أفتقده للسنة الثانية فترة وجودي هنا». افتقدت الجو العائلي أما نهاد عبدالحميد نصرالله طالبة الدكتوراه في تمريض الطوارئ فتقول: «خمس سنوات دراسية خارج وطني افتقدت فيها الجو العائلي في رمضان وسماع صوت الأذان وصلاة التراويح، أحاول خلالها أن أقسم وقتي بين الجامعة والدراسة وإعداد بعض الوجبات التي أشارك بها في الإفطار الجماعي مع باقي المبتعثات، كما أننا نجتمع لصلاة التراويح التي تشعرنا بروحانية هذا الشهر الكريم». تواصل وإحياء عادات ويقول خالد باطرفي طالب الطب المبتعث لدراسة الزمالة في أمراض الدم وبنك الدم في أستراليا: «ست سنوات قضيتها في الغربة التي أعتبرها ورمضان مزيجا عجيبا يقرب المبتعثين من بعضهم ويزيدهم تسامحا ورغبة في التواصل لإحياء عاداتنا وتصبير بعضنا على غربتنا والتحفيز للمزيد من الطاعات، ومن حظي وجود أكبر جالية من العرب والمسلمين هنا، مما وفر العديد من المأكولات الرمضانية، بالإضافة إلى طبخ زوجتي والتهادي بين الجيران، ورغم تقدير واحترام الأستراليين لما نقوم به من عبادة وصيام، إلا أن ساعات العمل والواجبات لا يتم التهاون بها ،ما يعني وجودي بالمستشفى في كثير من الأوقات لما بعد وقت الإفطار، وأعتبر هذا الشهر فرصة لتقوية العلاقات مع المسلمين من جنسيات أخرى وغير المسلمين لشرح فضل الإسلام والحكمة من الصوم وبقية أركان العبادات». لا نشعر برمضان ويروي تركي حلبي طالب ماجستير في الطب النووي عن تجربته في رمضان فيقول: لا نشعر برمضان وسط الدراسة والاختبارات إلا في عطلة الأسبوع حيث تطبخ زوجتي كل مالذ وطاب من الوجبات الرمضانية، ونجتمع مع باقي المبتعثين لتناول الإفطار وصلاة التراويح والتهجد. تبادل الفطور مع الجيران الحنين ل«جَمعَة الأهل»، وتبادل الفطور مع الجيران هو ما تشعر به عواطف عبدالمجيد طالبة دكتوراه التكنولوجيا الحيوية في كندا، وأضافت : «لا أشعر بأي روحانية لرمضان بسبب الدراسة والدوام الطويل والحياة اليومية المختلفة كوننا في بلد غير مسلم، ولخلق ذلك الجو أذهب إلى المسجد لأجتمع بالمبتعثات من جنسيات مختلفة على مائدة إفطار جماعية حيث تشارك كل مبتعثة بطبق رمضاني.. ثم نصلي التراويح ونقرأ القرآن». صيام مرهق في فرنسا وتقول نهلة الحربي طالبة ماجستير علاقات دولية: «الصيام مرهق جدا في فرنسا بسبب طول فترة النهار، والحمد لله أنني سأقضي النصف الثاني من رمضان هذه السنة مع أهلي في جدة ، وقد كنت في السنتين السابقتين أعوض افتقاد الأهل والأجواء الرمضانية بإعداد بعض المأكولات والإفطار الجماعي مع الصديقات وصلاة التراويح وقيام الليل». رمضان في اليابان وفي اليابان يقول جميل مصطفى الشريف المبتعث في قسم هندسة طيران وفضاء: «أجمل ما في هذا الشهر تعاون المبتعثين في إعداد الفطور والسحور واجتماعهم لأداء صلاة التراويح للتغلب على الشعور بالغربة والبعد عن الأهل في هذا الشهر الكريم ،كما تحرص السفارة على عمل إفطار جماعي للطلبة بحضور المسؤولين وسط أجواء رمضانية جميلة». دورات ومسابقات رمضانية وإلى ذلك يعلق مياح العازمي رئيس نادي الطلبة السعوديين في سدني بقوله:«شهر رمضان الكريم يختلف عن الشهور الأخرى من العام حتى في وجباته ،وقد يفتقد المبتعث ما تعود عليه من الدفء وهو بين عائلته ووالديه وذلك حينما تجتمع الأسرة على سفرة واحدة ،لذلك أسعى وفريق العمل لتخفيف مشاعر الغربة التي نشعر بها جميعا من خلال بعض الأنشطة الاجتماعية والإفطار الجماعي للطلبة وعائلاتهم، إضافة لبعض الدورات والمسابقات الرمضانية التي نحاول أن نرسم من خلالها البسمة وتخفيف ما نشعر به من غربة بسبب البعد عن أرض الوطن.