اقترب رمضان من الرحيل، ولم ترحل ذكرياته من قلوب الكثير من الشباب السعوديين الذين وجدوا أنفسهم للمرة الأولى يحملون ذكريات رمضانية مغايرة لما اعتادوه. بعيدا عن منازلهم وأسرهم وأهلهم، وربما ذكرياتهم، يعيش آلاف المبتعثين، معظمهم للمرة الأولى واقعا رمضانيا مختلفا عما نشؤوا عليه، فلا مظاهر في الطرقات توحي بقدوم الشهر الكريم، ولا أصوات «مسحراتي» تنعش القلوب، ولا ترتيل آيات من الذكر الحكيم يشفي الصدور ويبدد العتمة في الظلمات، ولا تقاسيم وجوه اعتلاها الإعياء من كثرة الدعاء والتضرع لخالق السماء. في الغربة اختلف الحال، الشارع لم يتغير عما قبل رمضان، والمارة ربما أفرطوا في إلغاء المظاهر المعروفة للمسلمين في إطار محاولات طمس الهوية، وأبناؤنا في وسط هذا الصراع مضطرون للعيش، رغبة في العلم وأملا في العودة بما ينفع الوطن. إذا كانت المظاهر الرمضانية المعروفة من صلوات وزكوات ودعوات، اقتصرت على البلدان المسلمة بصفة عامة، والسعودية بما تحتضنه من حرمين شريفين بصفة خاصة، فترى كيف عاش المبتعثون الأيام الأولى من رمضان، وكيف يترقبون العيد بعد أيام. بكاء على رمضان سلمان العنزي أحد الطلاب السعوديين المبتعثين لإكمال دراسة الماجستير في هندسة البرمجيات ببريطانيا، يقضي رمضان للمرة الأولى بعيدا عن أهله ووطنه، طلبا للعلم والدراسة، لم يكن يدري ما في قيمة الأذان من معنى إلا في الغربة في بريطانيا «شعرت للمرة الأولى بطعم الأذان الغائب عني، صحيح أن قيمته بلا حدود في كل الأوقات، لكن الأذن التي اعتادت عليه طويلا، تعرف أثر الأذان في نفوس المسلمين في شهر رمضان المبارك، فللمرة الأولى لا أسمع الأذان في رمضان، وأضطر للإفطار على وقع الساعة التي لا تعرف مقومات الصوم ولا معنى الشعيرة العظيمة والركن الرابع، صدقني بكيت في اليوم الأول والثاني، وفي السحور وفي توقيت الفجر، ظللت أبحث عن الأذان بلا فائدة، وشيئا فشيئا اعتدت على الغربة حتى من الأذان، لذا زاد التصميم على النجاح السريع، وعدم التعطل في أي مرحلة من المراحل، رغبة في العودة إلى أصل الأذان حيث البقاع الطاهرة، وجمع الأهل والأحباب، وإفطار الطريق على واقع الصدقة الجارية، وتمر الصدقات، ودعاء الصبية، ومناداة المزكين، أين زكي يا صايم، اشتقت لها طويلا، فاللهم تقبل منا». وجبات مفقودة لكن العنزي يبكي أيضا الوجبات الرمضانية التي افتقدها في رمضان «الشهر المبارك يحمل الكثير من المعاني، فإضافة إلى الأصل في الركن الرابع المتمثل في الصوم والسحور، نجد السفرة الرمضانية التي تحمل وجبات خاصة في رمضان، والتي لا تتوفر لنا في الغربة، فيما ليست لنا أي علاقة من قريب أو بعيد بالمطبخ، وما تعلمناه من وجبات اعتيادية لا يرتقي للموائد الرمضانية، الأمر الذي ضاعف من معاناتنا، وزاد شوقنا إلى الوطن». اختلاف محسوم شيماء عمر قهوجي، إحدى المبتعثات التي مضت بها الأعوام في أمريكا، حيث تدرس صعوبات نطق وتخاطب في مرحلة البكالوريوس في أمريكا بولاية منسوتا، منذ فبراير 2006. لم تشعر بطعم رمضان على مدى الأعوام الثلاثة الماضية، وإن اختلف الحال هذا العام بوصول أسرتها ممثلة في والدتها، لترافقها رحلة الغربة في رمضان، لكنها مع ذلك سعيدة بتوفر الأجواء الرمضانية داخل المنزل «وجود أمي أضفى النكهة على الشهر الفضيل في الغربة وخاصة في أمريكا، وإن كانت الجالية المسلمة كبيرة، لكن المظاهر التي اعتدنا عليها في السعودية تختلف كليا عن المظاهر التي نراها هنا». ومع طول ساعات الصيام، تقسم شيماء وقتها بين الدراسة وعمل المنزل، وقضاء بعض الحاجات والزيارات لصديقاتها «أصبحت لدي خبرة في التعامل مع الأمريكان، الأمر الذي سهل علي العيش في الغربة، لكن تبقى النظرة من البعض هي التي تؤرق المبتعثة، خاصة إذا كانت غير متزوجة، إذ يقل التعامل معها بشكل أو بآخر، لذا تكاد علاقاتنا الاجتماعية تكون محدودة، عدا من بعض صديقاتي من الجنسيات العربية والأجنبية، فضلا عن بعض السعوديات المبتعثات». التعامل مع الأمريكان وأشارت إلى أنها كانت تخشى من التعامل مع الأمريكان بعد أحداث سبتمبر «لكننا شعرنا بعلاقات اعتيادية، ولله الحمد، خاصة أن الحي الذي أسكنه تعيش فيه جالية مسلمة كبيرة جدا، الأمر الذي سهل عملية ارتداء الحجاب، دون أن يكون مثار لفت انتباه في الشارع، بل ذات مرة مرضت وراجعت المستشفى، ومد الطبيب يده لمصافحتي، وسرعان ما سحبها، مشيرا إلى أننا لا نصافح الرجال، مما يعد احتراما لحقوقنا الدينية». لكن شيماء رغم مرور أربعة أعوام على عيشها في أمريكا، لا تزال تجهل الكثير من العلاقات مع الملحقية السعودية في أمريكا «احتكاكي معهم قليل نوعا ما، لكن الكثير يعيب عدم الرد على بعض الاتصالات، أو البطء في حسم بعض الأمور». واعتبرت أن الغربة حافز للتقرب إلى الله «إذا ما عاشت الفتاة في جو مغاير لبلدها، شعرت بالفارق بين العناية في الداخل، والتجاهل في الخارج، لتقترب من ربها، وتحمد الله كثيرا على النعم التي تعيش فيها، لذا كل أملي أن تجرب الكثير من الفتيات السعوديات الغربة، لتعرف أنها في نعمة محسودة عليها، وحتما ستجتهد في دراستها لتعود إلى أهلها مرفوعة الرأس». حلم الطفولة ولا يختلف واقع الغربة لدى عبدالعزيز أحمد الذايدي، أحد المبتعثين السعوديين في لندن، ويدرس الماجستير في الإحصاء والاحتمالات، حيث يدرس حاليا في مرحلة اللغة، قبل خوض غمار تخصصه. لكنه كان يعشق الاغتراب منذ البداية «الفكرة كانت موجودة منذ الصغر لاستكمال الدراسة في الخارج، وفور تعييني في جامعة الحدود الشمالية بعرعر، طلبت مباشرة ابتعاثي، وتحقق بحمد الله حلم الطفولة». فاتنا رمضان ويرى أنه لا يجب مقارنة رمضان الغربة مع رمضان في السعودية «في بريطانيا لا تشعر باقتراب شهر رمضان ولا بحلوله ولا بوصوله، ولا بالصيام فيه، وهذا فارق كبير، ليس على صعيد البلاد الأجنبية فقط، بل هناك عدد من البلدان العربية لا تشعر فيها بالجو الرمضاني المعهود، فالمحال مفتوحة خلال الصلوات، خاصة عند المغرب مع الإفطار، والحياة تقليدية وعادية، لذا بريطانيا حالها مثل تلك الدول التي لا يمر فيها رمضان، وأقولها بصراحة، إننا صائمون، ونرتل القرآن، ونتعبد، ونبتهل إلى الله عز وجل، لكن أصدقك القول: قد فاتنا رمضان». فترات الصيام وأشار إلى أن فترة الصيام في لندن تمتد لأكثر من 17 ساعة، لكن ربيع الطقس لا يشعر الصائم بمرور الوقت «لكننا نفضل الساعات الرمضانية في بلادنا، التي تجف فيها ألسنتنا، فلها طعم آخر فريد، يشعرك بطعم رمضان الحقيقي، لأننا في الشارع نرى المظاهر الرمضانية تنتشر في كافة الأرجاء». وبين أن المساجد في الغرب تعد مركز الأنشطة الرمضانية للمسلمين «تشتمل على محاضرات، وصلاة التراويح، وتفطير للصائمين، ومساعدة للمسلمين المحتاجين، وإذا تعذر الوصول إلى تلك المساجد فإن رمضان يعد قد انتهى لدى الكثيرين قبل أن يبدأ». النظرة مختلفة وأوضح أن النظرة للسعودي تتباين حسب الشخصيات، وليس هناك ميزان وحيد لهذا التعامل «بعضهم ينظر إلينا بنظرة بئر البترول، ويتمادى في استنزافنا، على أساس أننا نملك المال، وبعضهم يتعامل معنا على أساس الاحتياج، لذا يبالغ في التكبر علينا، بينما الأقلية تعرف مشروعية طموحنا، لذا ترتقي في التعامل بشيء من الواقعية، بل يزيد إعجابا كلما عرف أننا طلاب ابتعاث درجات عليا». أصعب صبر ورغم معطف الصبر الذي ارتدته المبتعثة في أمريكا، ندى وصابي، إلا أن حلول رمضان أضاع عليها الثوب «أعادني رمضان إلى شدة الشوق إلى أهلي وأسرتي ووطني، لأننا نعيشه في السعودية بطعم مختلف وفريد، ولا أتصور أن يكرر في أي بلد آخر، قياسا على الروحانيات التي يتميز بها في البقاع الطاهرة، لذا نفد صبرنا في اليوم الأول من رمضان، لنتباكى مع حلول الشهر، بدلا من السعادة التي كانت تجتاحنا مع حلول رمضان». إلا أن ندى أرادت أن تتخلص من الرتابة التي سيمر بها رمضان «استقبلته بكل شوق وحنين، واستعددت له بشكل مغاير، إذ قمنا بالعديد من الأنشطة التي يمكن أن نخلق فيها أجواء مشابهة للشهر الكريم في بلادنا، سواء من حيث وجبات الإفطار الجماعي، أو الصدقات أو صلاة التراويح». موائد عامرة وتكشف المبتعثة بجامعة كانساس الأمريكية، هالة الجشي، أن دخول رمضان يعد ربكة لكثير من الطلاب «يحرص الجميع على ترتيب أوقات المحاضرات، بما يتناسب مع أوقات الإفطار، وصلاة التراويح، الأمر الذي ربما يوقعنا في حرج مع الكثير من الأساتذة، حيث بعضهم يتفهم الأمر، والبعض الآخر للأسف لا يتفهمه». وربما تعوض المبتعثات روحانيات رمضان في أمريكا، بتوفير الأطعمة التي تميز الشهر الكريم «تمضي أغلب أيام شهر رمضان علينا نحن المبتعثين، ونحن مشغولون بإعداد الطعام والدراسة، مفتقدين ما يحتويه رمضان من روحانية وصلة رحم في الوطن، ونستهلك كل طاقتنا محتسبين الأجر من الله عز وجل، لكننا نحرص على التجمعات في مائدة عامرة نضع فيها كل مهاراتنا» .