عقود من الزمن ظللنا نردد في مؤتمرات وندوات ولقاءات وورش عمل أن التعليم العالي محرك رئيس للتنمية والنمو الاقتصادي من خلال ما يوفره من المهارات والبحوث العلمية بهدف زيادة الانتاج والابتكار، وأن الدول التي تستهدف في تعليمها العالي مجالات العلوم والهندسة، وتنخرط في المزيد من البحوث، تتوفر لها الفرص التمكينية لامتلاك مخرجات بشرية وابتكارية جديدة. وردّدنا على رؤوس الأشهاد أن دور التعليم العالي في تعزيز النمو والاقتصاد المعرفي تتسع آفاقه في نشر المهارات السلوكية والمعرفية والتقنية لإنجاز الأعمال في سوق العمل بشكل فعال ومهارات عالية، وتساءلنا كثيراً عن الكيفية التي يمكن من خلالها أن يلعب التعليم العالي في بلادنا دوراً فاعلاً في إنتاج البحوث المطبقة تجارياً، كما هو معمول به في الدول المتقدمة، للمساعدة في تطبيق التقنيات الجديدة واستيعابها وتكييفها وتطويرها لدفع عجلة النمو للأمام؟! وردد الخبراء في قاعات المؤتمرات والندوات، كيف نستطيع أن نصل بخريجي الجامعات إلى التمتع بشخصيات قيادية مزودين بالمعرفة والمهارات القيادية التي تؤهلهم لأداء أدوار مهمة في القطاعين العام والخاص، قادرين على الاستجابة للتحديات والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية واستيعاب المستجدات في التقنية والثورة الرقمية. مللنا ونحن نسمع ونقرأ، ولكننا لا نرى شيئاً على أرض الواقع، جمود وحال رتيبة تنتاب معظم جامعاتنا، حتى انقض الدكتور عبدالله بن عبدالرحمن العثمان - بعد تعيينه مديراً لجامعة الملك سعود قبل خمسة أعوام - على حال الركود التي شهدتها الجامعة في عقدها الأخير، وأشبع المجتمع بشخصية تتصف بالذكاء والرؤية والانضباط والحماسة، وقدم نفسه قائداً شجاعاً للجامعة مقداماً على التطوير والتغيير، وكان ملهماً في رسم ووضع خطة استراتيجية للجامعة طويلة المدى، واضحة المعالم، ومحددة الرؤى، ما أشعر المجتمع العلمي والعام بالارتياح والإعجاب والتفاعل المتجاوب مع خطوات التغيير والتطوير، فقوبل بالتسابق من الشركات والمؤسسات ورجال الأعمال على دعم ومؤازرة مشاريع جامعة الملك سعود البحثية والتقنية والوقفية... ولكن؟! هي تلك ال«لكن» التي دائماً ما تقف حجر عثرة بين الرؤية والاندفاع والرّوِيّة، الممكن وفن الممكن، التوقعات المنضبطة أو رفع سقفها إلى ساحة المحاسبة الجدلية، والطموح المشروع عندما يصطدم بعقبات الوعود المفقودة سيف قاتل لا يرحم يعود بصاحبه إلى سنة الحياة، وستظل ثلاثية العثمان «غزال، والتصنيف، والنانو» حبراً طار بالأحلام والخُطبِ! ذهب الرجل إلى حياة عملية أخرى، وندعو له بالتوفيق والسداد، وسيجد مدير الجامعة الجديد الدكتور بدران العمر أمامه إنجازات هائلة تحققت على أرض الواقع في جامعة الملك سعود، نتطلع مخلصين في الأمنيات أن تشهد تطويراً وحفاظاً على المكتسبات التي تحققت وتُشكل قوة دفع للأمام، توفر لها الحماية الكافية التي ترفض أي محاولات مستقبلية لإحداث خلخلة أو انقلابات إدارية تُجهض ما تحقق من إنجازات، مع معالجة واقعية للسلبيات التي حدثت جراء رفع سقف التوقعات واستعجال الحصول على النتائج. الجامعات العريقة رفيعة المستوى تلك التي تتبنى إستراتيجيات ونظم وأهداف وبرامج تفرز تطويراً مستمراً وفق طرق علمية متوازنة بعيداً من ظواهر الإثارة الإعلامية، تستوعب المتغيرات وتحديد أولويات الإنفاق على البحوث العلمية وردم الفجوة بين مخرجات كليات الجامعة وحاجات أصحاب العمل من التخصصات، والتركيز على رفع كفاءة وقدرات الطلاب العلمية والقيم القيادية وتزويدهم بالمهارات والمعرفة اللازمة لتلبية متطلبات الدولة بمجتمعها وخططها التنموية. أمامك يا دكتور بدران العمر إنجازات وتحديات كبيرة، فماذا ستفعل؟ هل ستعيد اختراع عجلة إدارة وسياسة الجامعة من جديد؟ أم أن استكمال انطلاقة الجامعة باستراتيجيتها الجديدة سيكون بالمنهج والرؤية وأساليب العمل التنفيذية ذاتها التي تسير عليها الجامعات العالمية المرموقة التي تخرج فيها من يقومون على قيادة وإدارة التعليم العالي في المملكة، ولم يكن للوطن نصيب مما تعلموه؟! ستبقى مشكلة الاجتهادات والمبادرات الفردية تؤرقنا ما لم نعد إلى ترسيخ العمل المؤسسي المبني على تجارب وقياسات علمية سبقتنا في النظرية والتطبيق، والأسباب في اعتقادي تكمن في ضعف إعداد القادة القادرين بعلم ومهارة وثقة وتجربة على إدارة مؤسساتنا العلمية بشكل يُمكنها من أن تكون متعددة الأهداف ومراكز علمية وبحثية متقدمة داعمة لمختلف القطاعات الإنتاجية بالخبرات والكفاءات والنتائج البحثية العميقة والمؤثرة في مسيرة التنمية وخدمة المجتمع. اتبعت وزارة التعليم العالي طيلة عقود ماضية سياسة مرتبكة في ما يخص اختيار قادة الجامعات والتوصية بتعيينهم لافتقادها للتهيئة والإعداد الجيدين في المعرفة والممارسة، وأطرح على وزارة التعليم العالي اقتراحاً يتمثل في إنشاء مركز تابع للوزارة لإعداد القادة بالشراكة مع مؤسسة عالمية متخصصة بهدف تطوير وإعداد قيادات وطنية قادرة على تحمل مسؤولية إدارة الجامعات والمؤسسات العلمية بثقة واقتدار بعد اكتساب المهارات والمعارف والإطلاع على مختلف تجارب الجامعات العالمية في الإدارة وإعداد الاستراتيجيات والخطط والبرامج التي تضمن جودة مخرجات التعليم العالي. * كاتب سعودي. [email protected] @alyemnia