تصر الغالبية السياسية والمجتمعية الإسرائيلية التي تمكَّن اليمين القومي والديني من جذبها إلى نسقه الأيديولوجي والفكري المتطرف، على مواصلة ترجمة مواقفها الفاشية والعنصرية، ليس فقط ضد الفلسطينيين وحقوقهم الوطنية المشروعة التي تتسارع عملية تصفيتها في شكل جنوني، أو ضد المؤسسات والمنظمات وأصحاب المواقف السياسية التي لا تلائم إرادة هذه الغالبية وتوجهها، فيما هي تغذ الخطى نحو تدشين مرحلة جديدة في الدولة العبرية عنوانها قوننة وتشريع السيطرة اليمينية - الدينية على الدولة والمجتمع... وإنما كذلك ضد كل «الأغيار» الذين لم يتورع المستشار القضائي لحكومة نتانياهو - موفاز عن الزعم بعدم وجود داعٍ لتقديم صاحب كتاب «توراة الملك» الذي يبرر قتلهم، إلى المحاكمة، والذين يمكن أن يشوهوا «النقاء الإسرائيلي»، بخاصة أولئك المهاجرين الأفارقة الذين باتوا عرضة للطرد بذريعة «خطرهم الديموغرافي على إسرائيل»، و «تهديدهم مكونات المجتمع الإسرائيلي والأمن القومي والهوية الوطنية»، وتحولهم «قنبلة اجتماعية موقوتة» يساهم وجودهم في «تفاقم الجريمة في إسرائيل»! الإشكالية الأساس في قضية هؤلاء المهاجرين ال60 ألفاً الذين يعيش 25 ألفاً منهم في مدينة تل أبيب وضواحيها، وحوالى 10 آلاف في مدينة إيلات، على خليج العقبة، وحوالى ألفين في السجون، فيما ينتشر الباقون في أماكن شتى من إسرائيل، والذين يحلو للإسرائيليين نسبتهم إلى السودان حصراً، هي تابعية هؤلاء الذين بدأ تدفقهم نحو إسرائيل في 2007، وتواصل في شكل مكثف خلال السنوات الثلاث الأخيرة، عبر طريق شبه جزيرة سيناء المصرية، لعدد من المناطق والدول الأفريقية. إذ على رغم أن غالبيتهم (حوالى 40 ألفاً) هي فعلياً من إريتريا التي ترتبط بعلاقات فعلية مع تل أبيب، وهي ترغب إما في البقاء في إسرائيل وإما الذهاب منها إلى أوروبا، وهو ما تتيحه قوانين الأممالمتحدة التي تفرض قيوداً في كل ما يتعلق بإعادة اللاجئين إلى بلدانهم الأصلية، في حال وجود حرب فيها، إلا أن ثمة أعداداً لا بأس بها منهم هي من جنوب السودان الذي طلبت حكومته من حكومة إسرائيل مساعدتها في تأهيل هؤلاء، ومن ثم إعادتهم لاحقاً لمساعدة الدولة الوليدة، وكذلك من منطقة دارفور السودانية التي تصعب إعادة أبنائها إليها، نظراً إلى انعدام العلاقات مع الحكومة السودانية، ومن ساحل العاج ونيجيريا. وعلى رغم أن الذرائع والمبررات التي استخدمت من قبل المحرضين الإسرائيليين للانقضاض على هؤلاء المهاجرين، كانت في معظمها من الطراز الوضيع المتخم بالكذب والافتراء، من نمط اتهام ثلاثة شبان أفارقة، ظلماً وزوراً وفق إفادة التحقيقات، باغتصاب فتاة إسرائيلية، ونشر الشرطة إحصاءات تفيد بأن نسبة الجريمة ارتفعت في صفوف الأفارقة في إسرائيل بنسبة 40 في المئة السنة الماضية، إلا أن ذلك لم يمنع الحكومة من اتخاذ رزمة من الإجراءات والخطوات التي من شأنها إنهاء ما تسميه «أزمة المتسللين»، كما لم يحد من انفلات الغرائز العنصرية الفاشية التي باتت تسم «قبائل إسرائيل» بكل مكوناتها الإثنية والاجتماعية والثقافية: الأشكناز العلمانيين، واليهود المتدينين الصهاينة، واليهود المتدينين من أصول سفاردية، واليهود المتدينين الحريديم والأشكناز، والمهاجرين الروس، ضد المهاجرين الأفارقة، والتي كان تعبيرها الأبرز تلك التظاهرة الصاخبة التي قام بها مئات من الإسرائيليين في تل أبيب في 5/23 بمشاركة ثلاثة أعضاء بارزين في الكنيست من حزب ليكود، وهاجموا فيها المهاجرين، واعتدوا عليهم بصورة وحشية. ولعل المفارقة المثيرة للدهشة والاشمئزاز، في هذه التظاهرة، هي مشاركة الفالاشا الإثيوبيين في هذا الطقس العنصري المقيت، ومطالبتهم بطرد الأفارقة الآخرين. ولأن دولة الأبرتهايد الإسرائيلية التي أظهر استطلاعان للرأي نشرا أخيراً، أحدهما على مستوى الرأي العام العالمي، والآخر يخص المواطنين الألمان، أنها باتت، وفق المستطلعة آراؤهم، تحتل الموقع الثالث، على المستوى الدولي، في دول الشر، ولأنها «نتاج سياسات عدوانية وفجور لا أخلاقي ولا قانوني، ومعادية للبشرية كلها وليس للفلسطينيين»، كما أشار شتاينمن الحاخام الأكبر للطائفة الليتوانية، فقد كان من الطبيعي أن تتجاهل الانتقادات الدولية لسياستها المتَبعة حيال المهاجرين الأفارقة، بما في ذلك التقرير السنوي للخارجية الأميركية الذي بيّن أنه لم يتم التعامل معهم في الشكل اللائق، ولم يحظوا بالحصول على وثائق رسمية تبيّن حالتهم ومكانتهم القانونية. كما بيّن أيضاً أنه في العام الماضي تلقت السلطات الإسرائيلية 4603 طلبات بالحصول على مكانة لاجئ، لكنها رفضت 3692 طلباً ووافقت على طلب واحد فقط، في مقابل بقاء نحو 6412 طلباً من دون أي جواب أو رد رسمي. بل إن هذه الدولة، التي تناصب البشرية العداء بإنتاجها المتواصل لأبشع أشكال العنصرية، لم تتورع عن تحديد تشرين الأول (أكتوبر) المقبل موعداً نهائيا للتخلص مما تعتبره «مشكلة المهاجرين الأفارقة»، والشروع بتنفيذ الخطة الحكومية القاضية بمنع دخول المتسللين عبر تشديد المراقبة على الحدود، وتكثيف دوريات الجيش والإشراف على معدّات الرقابة المنصوبة على طول الحدود مع مصر، واحتجاز المتسللين في المعتقلات التي من المتوقع أن تكون جاهزة في أقل من شهر، قبل الإقدام على اتخاذ خطوات حاسمة وسريعة لطرد جميع المتسللين من دون استثناء. في كل الأحوال، لم تأت الغالبية السياسية والمجتمعية الإسرائيلية التي تعمل لتأصيل فاشية جديدة أشد خطراً من كل ما شهدته البشرية في الماضي، بأي جديد عندما قررت إطلاق موجة جديدة من تسونامي العنصرية ضد المهاجرين الأفارقة. وحيثية ذلك هي أن هذه الدولة الوظيفية المختلقة التي بدأت دورتها الحياتية بطرد أصحاب الأرض وتشريدهم في أربعة أصقاع الأرض، تحولت، عشية الانتقال إلى نظام عالمي جديد، إلى ما يشبه الغيتو المحاط بالأسوار وجدران الفصل، والمتخم بخليط من القوى اليمينية الصهيونية والدينية المتطرفة المعربدة التي لا ترى في الآخر سوى عميل ينبغي استغلاله إلى الحدود القصوى، أو عدو يجب تحطيمه، أو مشروع عدو... ما يعني أنها ليست بصدد فقدان شرعيتها الأخلاقية التي لم توجد أصلاً، وإنما أخذت تسير على طريق فقدان شرعيتها الداخلية، ومبرر وجودها الذي يتآكل بسرعة، غير مسبوقة، على مذبح الكراهية والعداء لكل ما هو غريب ومختلف تحت غطاء من «الوطنية المفبركة» الكاذبة.