لم تكن نتيجة الجولة الأولى في الرئاسيات المصرية التي أُعلنت الاثنين الماضي الصدمة الأولى التي تلقاها شباب ثورة 25 يناير، وكثيرون ممن شاركوا فيها وأيّدوها. لكن هذه الصدمة ليست كسابقاتها بعدما أصبحت رئاسة «مصر الجديدة» في السنوات الأربع المقبلة محصورة بين أحمد شفيق مرشح نظام حسني مبارك ومحمد مرسي مرشح «الإخوان المسلمين» الذين يحمّلهم كثيرون قسطاً كبيراً من المسؤولية عما يعتبرونه فشلاً منيت به الثورة. فالهدف الوحيد الذي تحقق من أهدافها، إسقاط الرئيس السابق، بات مهدداً بوصول من يعتبر نفسه تلميذه إلى الرئاسة، أو بدخول من يخشى كثيرون استئثار جماعته بالسلطات كلها إلى القصر الجمهوري من دون مشروع واضح للمشاركة الوطنية. وتعد المسؤولية عما يبدو فشلاً للثورة على هذا النحو إحدى قضيتين كبريين تشغلان مصر الآن قبل الجولة الثانية، إلى جانب تفسير وصول مرشحَيْ نظام مبارك و «الإخوان» إلى هذه الجولة وتفوقهما على مرشحين يُنظر إليهما باعتبارهما الأكثر تعبيراً عن الروح الثورية وهما حمدين صباحي وعبدالمنعم أبو الفتوح اللذان جاءا ثالثاً ورابعاً. وثمة اتفاق واسع على أن «الإخوان» يتحملون مسؤولية كبيرة عن الوضع الذي آلت إليه مصر لتراجعهم عن التزامهم السابق بعدم خوض الانتخابات الرئاسية، والأخطاء التي ارتكبوها أخيراً بتخليهم عن النهج التوافقي الذي تبنوه بعد ثورة يناير، فلم يحسنوا إدارة العمل البرلماني وأساءوا التصرف في ملف الجمعية التأسيسية التي ستضع مشروع الدستور الجديد. لكن المرشحَيْن المحسوبين على الثورة (صباحي وأبو الفتوح) يتحملان ايضاً الكثير من المسؤولية لرفض كل منهما التنازل للآخر أو خوض الانتخابات معاً بحيث يكون أحدهما مرشحاً رئيساً والثاني نائباً له. وأدى ذلك إلى توزيع كتلة كبيرة من الأصوات بينهما، فحصدا معاً نحو تسعة ملايين صوت. وهذا رقم يزيد بنحو ثلاثة ملايين ونصف مليون عما ناله حائز المركز الأول. ولا يعفي بعض أنصار الثورة الدكتور محمد البرادعي من المسؤولية، بل يحمّلونه قسطاً منها لتراجعه عن خوض الانتخابات، ويرون أن انسحابه أضعف فرصة التوافق على مرشح واحد للثورة لأنه الوحيد، وفق رأيهم، الذي كان ممكناً أن يحقق هذا التوافق. لكن الصدمة التي أحدثتها النتيجة، وما اقترن بها من حزن، يحجبان الأنظار عن واقع أن مرشح نظام مبارك لم يحصل سوى على 23 في المئة من الأصوات. وإذا اعتبرنا مرشح «الإخوان» جزءاً من الثورة، وهو كذلك على رغم أخطاء جماعته وحزبها، تكون قوى الثورة هي الرابحة. لكن انقسامها يضعفها وصراعاتها التي لا تنتهي هي التي تهددها. فهذا الانقسام أكثر ما يمكن أن يفسر نتيجة الانتخابات التي تصدّرها مرشحان نظَّم كل منهما حملة تقوم على الاستقطاب السياسي والديني. فعندما يسود هذا الاستقطاب، تأتي النتيجة لمصلحة المرشح الذي يسعى إلى مخاطبة كتلة أو كتل محددة ويستخدم خطاباً أكثر حدة وتحديداً وصرامة، وأقل وسطية ومرونة. لذلك يفوز عادة المرشح الاستقطابي حين يفتقد المجتمع ثقافة الديموقراطية والحوار والحل الوسط، وتقل المساحات الرمادية. وهذا ما حدث. فقد صعد إلى جولة الإعادة مرشحان دخلا السباق في وقت متأخر حاملين خطابين مختلفين تمام الاختلاف، لكنهما متشابهان إلى حد كبير في الميل الاستقطابي وتركيز كل منهما على قطاع محدد وتوجيه الخطاب الانتخابي صوب هذا القطاع دون غيره تقريباً. فقد ركز مرشح «حزب الحرية والعدالة» الدكتور محمد مرسي على الصوت الإسلامي وتوجه إليه مباشرة عبر إعلاء قضية الشريعة. فلم تحظ الشريعة بمثل هذا التركيز كماً ونوعاً في خطاب «الإخوان» ثم حزبهم منذ عودتهم إلى الحياة العامة منتصف السبعينات من القرن العشرين. وظهر ذلك في شكل أوضح منذ أعلنت جماعة الدعوة السلفية وذراعها حزب النور تأييدهما لمرشح آخر هو أبو الفتوح. فقد ركزت حملة مرسي منذ تلك اللحظة على خطاب الشريعة لجذب أكبر عدد ممكن من الأصوات الإسلامية وإحباط تحرك القوى الرئيسة في الساحة السلفية صوب مرشح آخر. أما حملة الفريق أحمد شفيق فركزت على خطاب الدولة التي يفتقدها قطاع يعتد به من الناخبين ممّن روَّعتهم الفوضى الناتجة من الانفلات الأمني، وصدّقوا أن الثورة مسؤولة عن التدهور الذي حدث في أوضاعهم وحياتهم. وعندما توجه شفيق إلى هذا القطاع، حرص على أن يكون كما كان، فلم يتبرأ من انتمائه إلى نظام فسد وأفسد ونهب وظلم، بل أكد أنه آتٍ منه لكنه راغب في إصلاحه، وأنه الأقدر على حل المشاكل الأكثر إلحاحاً وفي مقدمها الانفلات الأمني لمعرفته بدروب الدولة وأغوارها. وجد شفيق الناس خائفين وبعضهم مستعداً لتقديم حريته وكرامته مجدداً مقابل الأمن، فتوجه إلى هؤلاء مباشرة، ولم يزعجه اتهامه بأنه من كبار «الفلول»، ولم يخجله ما يحيط به من علامات استفهام في شأن علاقته بالرئيس المخلوع الذي لم يجتمع المصريون على شيء في تاريخهم الحديث اجتماعهم على رفضه وإسقاطه. استثمر شفيق الاستقطاب الذي جعل قطاعاً من المجتمع على استعداد لقبول حاكم «قوي» جديد تحت شعار مواجهة الفوضى واستعادة الأمن، ووضع القسم الأكبر من المسيحيين في حالة فزع عميق من القوى «الإخوانية» والسلفية التي صعدت منذ الثورة وحصلت على غالبية كبيرة في البرلمان وأثارت مخاوف شتى، وارتكب بعضها أخطاء كبيرة فاقمت المخاوف. وراهن شفيق على هذا القطاع من المجتمع أيضاً. وهكذا نجح المرشحان الأكثر تعبيراً عن حالة الانقسام في الوصول إلى المركزين الأول والثاني. فهذا الانقسام هو الخطر الأول الذي يهدد الثورة منذ أشهر طويلة. وما الصدمة التي أثارتها الجولة الأولى إلا نتيجة تراكمات هذا الانقسام الذي استشرى في أوساط القوى التي وحدتها الثورة، وغيَّر صورة «ميدان التحرير» التي كانت زاهية فصارت الآن كئيبة بحيث إن الرئيس الجزائري استخدمها فزّّاعة للناخبين عشية الانتخابات النيابية التي أُجريت الشهر الماضي، عندما حذَّرهم من أن يصبح بلدهم «ميدان تحرير» آخر. لذلك قد لا يكون مصير الثورة رهناً بفوز شفيق أو هزيمته، بل باستمرار انقسام قوى الثورة والاستقطاب السائد في المجتمع. وهذا درس الانتخابات الرئاسية التي قد تكون نهاية للثورة أو بداية جديدة لها.