عندما دخل الإسلام مصر والعراق والشام (سورية الكبرى) وجد كنائس المسيحية في حالة خلاف وانقسام. كان الخلاف بينها يدور حول الكثير من القضايا اللاهوتية واللغوية والثقافية وحتى العنصرية. كان هناك خلاف مثلاً حول قضية الأيقونات الدينية. كانت كنيسة القسطنطينية (في اسطنبول) ضد اعتمادها في الصلاة والتبرك، على عكس الكنيسة اللاتينية (في روما) التي كانت مع اعتمادها. كان بطاركة القسطنطينية يخضعون لسلطان الإمبراطور، بل إن الإمبراطور كان يتمتع بسلطة تعيين البطاركة، وقد عيّن بعضهم بالفعل. أما في الكنيسة اللاتينية، فكان البابا ينتخب، أولاً من أهل المدينة، ثم من مجلس الكرادلة. لذلك، كان يتمتع بحرية أكثر، وبسلطة أوسع. حتى أن البابا كان يتوج الملوك. وكان أول من جرى تتويجه على يد البابا هو الإمبراطور شارلمان في عام 800. وكان هناك اختلاف في اللغة المعتمدة في أداء الصلوات وإقامة القداديس. كانت اليونانية هي لغة كنيسة القسطنطينية، واللاتينية لغة كنيسة روما. وكان هناك تباين عنصري يفتقر إلى الودّ، بين اليونانيين الشرقيين واللاتين الغربيين. كذلك كان هناك تنافس بين الكنيستين المرجعيتين على صلاحيات التبشير. فبلاد البلغار مثلاً كانت تعتبر ضمن نطاق السلطة التبشيرية للكنيسة اللاتينية، إلا أن كنيسة القسطنطينية كانت تمارس التبشير فيها، ما أثار خلافات حادة بينهما. وكان هناك تنافس من هذا النوع في مناطق من جنوب إيطاليا التي كانت تعتبر ضمن نطاق السلطة التبشيرية لكنيسة القسطنطينية. إلا أن الكنيسة اللاتينية، خصوصاً بعد انتصار النورمنديين الذين سيطروا على هذه المناطق، عمدت إلى التبشير هناك متذرعة بانضمام النورمانديين إليها. وقد أدى ذلك إلى تصعيد حدة الخلافات بين الكنيستين. توج كل هذه الخلافات، الموقف اللاهوتي من قانون الإيمان النيقاوي (نسبة إلى مجمع نيقية). فالكنيسة اللاتينية كانت تقول إن «الروح القدس» ينبثق من الأب والابن، فيما كانت كنيسة القسطنطينية تقول إنه ينبثق من الأب فقط. شعرت الكنيسة اللاتينية بمزيد من التفوق في عهد البابا أوربانوس الثاني (867 – 872) إلى حد أنه طلب من كنيسة القسطنطينية الاعتراف بسيادة كرسي روما على الكنيسة المسكونية. ومما عزز الشعور بالتفوق، الخلافات الداخلية التي عصفت بكنيسة القسطنطينية ولجوء بعض المتضررين من كهنتها إلى روما طلباً للدعم والمساعدة. وفي القرن الحادي عشر بلغت هذه الخلافات حد الانقسام. وتكرس ذلك في رسالة الحرمان التي أصدرها البابا ليون التاسع في 16 تموز (يوليو) من عام 1054. وقد أورد في رسالته التاريخية تلك ثلاثة أسباب لتبرير حرمان كنيسة القسطنطينية، وهي: - استعمال الخبز المخمّر بدلاً من الفطير في القربان المقدس. - قبول المتزوجين في سلك الكهنوت. - عدم إضافة «الابن» إلى جانب «الأب» كمصدر لانبثاق الروح القدس. ومع هذه الرسالة قامت «الكنيسة الكاثوليكية»، بمعنى الكنيسة الجامعة، في روما. وقامت «الكنيسة الأرثوذكسية»، بمعنى كنيسة الرأي المستقيم في القسطنطينية. وانضمت إليها كنائس إنطاكية والقدس والإسكندرية. وسط هذه التداعيات وجد الإسلام نفسه في ساحة الخلافات والتباينات الكنسية. وكان قد مر حوالى 400 عام على خروج الإسلام من شبه الجزيرة العربية إلى العراق ومصر والشام حيث وجد المسيحية بكنائسها المتعددة. وعندما وقع الانشقاق بين روما والقسطنطينية كان الإسلام قد وصل إلى صقلية. شعرت الكنيسة في روما بأن التمدد الإسلامي بات يشكل خطراً عليها، الأمر الذي دعاها إلى طلب الدعم العسكري من بيزنطة. ولكن، لا الطلب ولا الاستجابة له غيّرا من جوهر الصراع بين الكنيستين المرجعيتين، ولا حتى من جوهر الصراع بين كنيسة القسطنطينية من جهة، والكنائس الشرقية (القبطية في مصر، والنسطورية في إيران والعراق، واليعقوبية في الشام والمارونية في وادي نهر العاصي). كانت هذه الكنائس العربية – المشرقية تعاني من اضطهاد بيزنطة اليونانية. لذلك، رحبت (هذه الكنائس) بالفاتحين العرب المسلمين وتعاونت معهم، حتى إن القديس مار يوحنا مارون مثلاً، نقل كرسيه من دير مار مارون في وادي العاصي إلى قرية كفرحي في البترون في لبنان تخلصاً من الاضطهاد البيزنطي. ذلك أن بيزنطة كانت تنظر إلى الموارنة واليعاقبة والنساطرة والأقباط على «أنهم خارج الإيمان المسيحي القويم». هكذا، خرجت هذه الكنائس من اضطهاد كنيسة القسطنطينية والدولة البيزنطية إلى رحاب السلطة الجديدة، السلطة الإسلامية. وجد المسلمون في أهل هذه الكنائس ميزتين جوهريتين. الأولى أنهم في معظمهم «عرب»، والثانية أنهم جميعهم «أهل كتاب». ووجدوا أنهم يتعرضون للاضطهاد، وأن من يضطهدهم هم البيزنطيون أي الذين يتصدون في الوقت ذاته للإسلام ويحاربونه. وفي ضوء ذلك كان لا بد للمسلمين من البحث عن صيغة للتعامل معهم بما يحترم الانتماء القومي من جهة، وبما يتوافق مع الشريعة الإسلامية من جهة ثانية، وبما يستجيب لمصالح الدولة الإسلامية في صراعها مع البيزنطيين من جهة ثالثة. جزء من الأمة فالانتماء القومي يفرض اعتبار المسيحيين العرب جزءاً من الأمة. إلا أنهم جزء مختلف لأنهم ليسوا على دين الأمة (الإسلام). غير أن انتماءهم إلى الدين المسيحي، يمنحهم الموقع المميز الذي حدده القرآن الكريم والسنة النبوية معاً لأهل الكتاب. فمما يقوله القرآن الكريم في هذا الشأن: أ- من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله أناء الليل وهم يسجدون، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات، وأولئك من الصالحين. ب- ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهباناً وأنهم لا يستكبرون. ومن أوضح المراجع في السنّة النبوية حول هذا الأمر، ما ورد في العهدة النبوية لمسيحيي نجران (وهم قبيلة يمنية استقبلها النبي محمد عليه السلام في بيته في المدينةالمنورة، وحاورها وأحسن وفادتها ووداعها، على رغم أنها بقيت على دينها المسيحي). ومما تتضمنه هذه العهدة (التي أشرنا إليها سابقاً): «أن أدخلهم في ذمتي وميثاقي وأماني، من كل أذى ومكروه أو مؤونة أو تبعة. وأن أكون من ورائهم، ذاباً عنهم كل عدو يريدني وإياهم بسوء، بنفسي وأعواني وأتباعي وأهل ملّتي». ومما تتضمنه العهدة كذلك: «لا تغيير لأسقف عن أسقفيته، ولا راهب عن رهبانيته، ولا سائح عن سياحته، ولا هدم بيت من بيوت بيعهم، ولا إدخال شيء من بنائهم في شيء من أبنية المساجد، ولا منازل المسلمين. فمن فعل ذلك فقد نكث عهد الله وخالف رسوله وحالَ عن ذمة الله». «أن لا يحمل الرهبان والأساقفة، ولا من تعبّد منهم، أو لبس الصوف، أو توحّد في الجبال والمواضع المعتزلة عن الأمصار شيئاً من الجزية أو الخراج...». «لا يُجبر أحد ممن كان على ملّة النصرانية كرهاً على الإسلام «ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن». ويُخْفض لهم جناح الرحمة ويُكفّ عنهم أذى المكروه حيث كانوا، وأين كانوا من البلاد». وقد التزم بمضمون هذه العهدة النبوية الخلفاء الراشدون بعد النبي في عهودهم إلى المسيحيين. وتعكس ذلك، العهدة إلى مسيحيي القدس التي أعطاها الخليفة الثاني عمر بن الخطاب إلى البطريرك صفرونيوس. وبموجبها أعطاهم «الأمان لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم سقيمها وبريئها، وسائر ملّتها أنه لا تُسكن ولا تُهدم ولا يُنتقص منها ولا حيّزها، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكرهون على دينهم ولا يُضارّ أحد منهم». فالخليفة عمر لم يأتِ بجديد من عنده، ولكنه التزم بعهد النبي وعمل بهديه. استيحاء العهدة النبوية من الواضح أن المسلمين في بحثهم عن صيغة للتعامل مع المسيحيين في مصر والعراق والشام حاولوا أن يستوحوا من العهدة النبوية الروح والمبدأ. فكانت صيغة الذمية. من هنا، فإن الذمية التي تعود إلى أصل إيماني إسلامي، كانت نظاماً «مدنياً» للتعامل بين الدولة الإسلامية ورعاياها المسيحيين، ولا أساس لها في الشريعة الإسلامية. ذلك أنه لا يوجد في التشريع الإسلامي نظام للذمية. والعقيدة الإسلامية لا تنص من قريب أو من بعيد على مثل هذا النظام أو التنظيم. ولكن الذمية بمعنى التعهد وعدم انتهاك مضمونه أو تجاوزه – كما سبق أن أشرنا إليه - استحدثت استمراراً للالتزام بمبادئ العهدة النبوية الملزمة لكل المسلمين في كل وقت. لقد وجد المسلمون أنهم مدعوون بنص شرعي إلى معاملة أهل الكتاب بمثل ما عاملهم به النبي على قاعدة «لهم ما لنا وعليهم ما علينا». وألّا يجادلوهم إلا بالتي هي أحسن – وليس بالحسنى فقط - كما نص على ذلك القرآن الكريم. فاستلهموا من مبدأ الذمة النبوية نظاماً مدنياً يطمئن المسيحيين إلى دينهم وإلى حقهم في ممارسة حرياتهم الدينية التي كانت تتعرض في ذلك الوقت للتضييق والقهر على أيدي البيزنطيين. ما كان المسيحيون (الأقباط واليعاقبة والموارنة والنساطرة) يريدون أن يضعوا أنفسهم بين سندان بيزنطة ومطرقة الإسلام. كانوا يريدون أن يحتفظوا بعقيدتهم، وأن يطمئنوا إلى ممارسة شعائرهم بأمن وسلام من دون إكراه أو اضطهاد أو تدخل. ولقد تعهد لهم المسلمون بذلك وكان اسم هذا التعهد هو «الذمية». نجح هذا النظام في حينه، بدليل نجاح هذه الكنائس في الاستمرار والازدهار. فعندما ثار المسيحيون في جبل لبنان على الوالي العباسي صالح بن علي، وقعت سلسلة من الاشتباكات المسلحة بين الوالي والثوار. فأعدّ الوالي جيشاً كبيراً لاجتياح الجبل معتبراً حركته نقضاً للعهد – أي خروجاً عن الذمة. غير أن الإمام الأوزاعي أصدر فتواه الشهيرة التي قال فيها: «لقد كان من إجلاء أهل الذمة من جبل لبنان ممن لم يكن ممالئاً لمن خرج على خروجه... فكيف تؤخذ عامة بذنوب خاصة حتى يخرجوا من ديارهم. وحكم الله تعالى ألا تزر وازرة وزر أخرى... فإنهم ليسوا بعبيد ولكنهم أحرار أهل ذمة». فقد ربط الإمام الأوزاعي المشرّع المسلم بين أن يكون المسيحي حراً وأهل ذمة. وهو عكس ما آلت اليه الأمور في ما بعد، كما سنبين لاحقاً. وحدث أن أغار البيزنطيون على الشام واجتاحوا مناطق قبائل عربية مسيحية. وكانت هذه القبائل قد ارتضت بالحكم الإسلامي ودفعت الجزية (وهي ضريبة مقابل عدم التجنّد في الجيش الإسلامي). حتى إنه أثناء الاجتياح البيزنطي جيّشت قوى لمقاتلة البيزنطيين المسيحيين إلى جانب إخوانهم العرب المسلمين. من أجل ذلك أعاد إليهم أبو عبيدة بن الجراح الجزية التي سبق لهم ودفعوها، وأرسل إلى وجهائهم كتاباً قال فيه: «إنما رددنا عليكم أموالكم لأنه قد بلغنا ما جُمع لنا من الجموع، وإنكم اشترطتم علينا أن نمنعكم (أي أن نحميكم) وإنّا لا نقدر على ذلك وقد رددنا ما أخذنا منكم». وقد أسقط عمر بن الخطاب ضريبة الجزية عن قبيلة تغلب العربية مع تمسكها بدينها المسيحي. وهذا يؤكد أن الجزية لم تكن ضريبة عقابية، ولكنها كانت ضريبة الاستعفاء من الخدمة العسكرية. وهو نظام لا تزال تعمل به دول عدة حتى اليوم. ثم إن الجزية لم تكن تفرَض إلا على القادرين. أما الضعفاء والفقراء والمرضى، من أهل الكتاب، فكانوا معفيين من أدائها بإجماع الفقهاء المسلمين. وجاء هذا الإجماع التزاماً بنص قرآني أيضاً يقول «حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون» . فعن يدٍ تعني عن مقدرة واستطاعة. وصاغرون تعني صاغرين لأمر الله، شأنهم في ذلك شأن جميع المؤمنين بالله الملتزمين بطاعته من مسلمين وأهل كتاب. الذمية في العهد العثماني غير أن الأمر اختلف، بل يمكن القول إنه انقلب رأساً على عقب في المرحلة الأخيرة من عهد الإمبراطورية العثمانية، أو ما يمكن تسميته بعهد الانحطاط العثماني. فقد أسيء استخدام مصطلح الذمية وشوّهت معانيه ومضامينه حتى أصبحت الكلمة تثير اشمئزاز المسيحيين وتفجر كوامن الغضب في نفوسهم. فعلى سبيل المثال عندما بدأت حرب التحرير اليونانية ضد الاحتلال العثماني، استعدى العثمانيون المسيحيين الأرثوذكس في الشرق كله، إذ اعتبروهم واليونانيين واحداً. والواقع أنهم لم يكونوا كذلك. بل إنهم كانوا في حالة تصادم مستمر، بخاصة في مدينة القدس. ولا تزال هذه الحالة قائمة حتى اليوم. ويذكر المؤرخ خليل قزاقيا «أن الظلم والعقوبات كانت شديدة على الأرثوذكسيين في جميع أنحاء فلسطين، خصوصاً في عكا. فألجأوهم هناك ألا يلبسوا إلا السواد، وكل من وجدوه مخالفاً كانوا يلقونه في السجن. وبلغ الاضطهاد حده في دمشقوالقدس. ولم يكن المسلمون (العثمانيون) يجرون اضطهاداً وأعمالاً كهذه لولا تشويقات بقية الطوائف المسيحية (الأرمن) واليهود أيضاً». لا تتناقض تلك المعاملة السيئة مع المعاني الروحية والوطنية للذمية فحسب، ولكنها تتناقض كذلك مع القواعد التي اعتمدها المسلمون مع المسيحيين منذ دخولهم العراق والشام ومصر. استمر هذا الوضع السيئ حتى عام 1839 عندما أصدر السلطان عبدالمجيد ما يعرف بالخط الشريف أو خط همايون الذي نظم أوضاع رعايا السلطنة من غير المسلمين وأوقف الإساءة إليهم واستغلالهم، وساوى بينهم وبين الرعايا المسلمين. إلا أن صدور الخط الشريف جاء متأخراً إذ تزامن مع انسحاب الجيش العثماني من بلاد الشام. وفي الأساس، انطلقت السياسة العثمانية الخاطئة تلك، من سحب الاعتراف الرسمي بالكنائس المتعددة، وبحصر الشرعية بكنيستين رئيسيتين فقط هما كنيسة الروم (الأرثوذكس والكاثوليك) المنضوية تحت مظلة كرسي القسطنطينية – أي كنيسة الروم الكاثوليك - والكنيسة الأرمنية التي منحت حق أو سلطة تمثيل كنائس النساطرة واليعاقبة والموارنة كذلك. كان من الطبيعي أن يكون رد فعل هذه الكنائس سلبياً، دفاعاً عن نفسها وعن عقيدتها. ولكن، بدلاً من أن تتفهم السلطات العثمانية أسباب رد الفعل هذا وأن تعيد النظر في قرارها، تعاملت مع الكنائس المعترضة بمزيد من الاضطهاد والتنكيل، حتى إنها منحت كرسي القسطنطينية صلاحية مطلقة في تعيين بطاركة الشرق في أنطاكية والإسكندرية وأورشليم (القدس). ومما زاد الطين بلة هو أن قرارات التعيين استبعدت أهل البلاد الأصليين، واعتمدت في شكل حصري بطاركة يونانيين. ولا يزال آخر هؤلاء البطاركة مستمراً في موقعه في القدس حتى الآن. وهو الذي اتهم ببيع وتأجير أراضٍ تابعة للوقف الأرثوذكسي إلى السلطات الإسرائيلية خلافاً لإرادة رعايا الكنيسة من العرب. ولقد شكلت تلك السياسة العثمانية تحدياً بلغ حدود شعور الكنائس العربية والمشرقية المختلفة بالامتهان. وكان نتيجة ذلك أن تدخلت في القرن التاسع عشر دول من شرق العالم (روسيا) ومن مغربه (فرنسا والنمسا) تحت ذريعة حماية المسيحيين، استغلالاً لمشاعرهم وليس حماية لدينهم أو لكنائسهم. فقد تزامن هذا التدخل مع إقصاء الكنيسة عن الحياة العامة واعتماد العلمانية أساساً للنظام الاجتماعي (فرنسا 1905). لم يسقط هذا التدخل الخارجي صيغة الذمية، ولكن الصيغة أسقطت ذاتها بذاتها عندما جرى تحويلها من التزام أخلاقي إيماني ووطني باحترام حقوق أهل الكتاب وحرياتهم وعدم انتهاكها، إلى أداة للقهر والاضطهاد وسوء المعاملة. وبانتهاء الهيمنة العثمانية وسقوط الإمبراطورية، قامت الدول الوطنية. وساهم في إقامتها مناضلون مسيحيون ومسلمون. وبقيام هذه الدول تصبح الذمية كصيغة للتعامل صفحة مطوية من صفحات التاريخ، لتفتح بدلاً عنها صفحة جديدة عنوانها المواطنة من حيث هي مساواة في الحقوق والواجبات بين المواطنين جميعاً بصرف النظر عن أديانهم وعقائدهم ومذاهبهم. ولأن الذمية كصيغة لم تكن في أي وقت نصاً شرعياً فقهياً ولا جزءاً من العقيدة الإسلامية – كما أسفلنا -، بل كانت مجرد اجتهاد أملته ظروف معينة في أوقات معينة وفي زمن تاريخي معين، ولأنها كانت مجرد عقد رضائي بين طرفين، الحكم الإسلامي من جهة وممثلي المسيحيين من جهة ثانية، فإن طيّ صفحتها لا يعني، إسلامياً، تجاوزاً لنص ديني أو انتهاكاً لاجتهاد شرعي. فالظروف التي أوحت باعتماد مبدأ الذمية وبصياغة نظام لها في القرن الحادي عشر، تغيرت وتبدلت وأصبحت من الماضي. ثم إنه من حيث المبدأ، فإن العقد – أي عقد - يسقط حكماً بتخلي طرفيه أو على الأقل أحد طرفيه عنه. لذلك، ليس الخوف من الذمية له اليوم ما يبرره... ولا التخويف بها له من يصدقه. * كاتب لبناني، والنص فصل من كتابه «الإسلام والآخر» (تحت الطبع)