«ماذا لو كنت قد متّ في تلك اللحظة؟ ماذا لو كفّ السيد شاتوبريان عند ذاك عن الوجود في هذه الحياة الدنيا؟ أي تغيير كان سيطرأ على مسيرة العالم؟». هذا السؤال الذي يطرحه شخص حول نفسه مضخّماً لما يعبّر في رأيه عن دوره في مسيرة العالم وعن أهمية وجوده، ليس جزءاً من حوار هزلي يرد في مسرحية لموليير أو حتى لجورج فيدو، بل سؤال حقيقي طرحه بكل جدية الكاتب الفرنسي شاتوبريان، وأكثر من مرة، في ثنايا كتابه الشهير «مذكرات من وراء القبر»، معلناً عبر ذلك السؤال، والعشرات الأخرى التي تشبهه، مغالاته في تقدير نفسه والدور الذي لعبه في سياسات العالم وديبلوماسيته. ان شاتوبريان في صفحات هذا الكتاب الضخم، يقارن نفسه غالباً بنابوليون بونابرت، بل اننا نجده أحياناً وقد اعتبر هذا الأخير أقل منه شأناً. غير أن هذه المبالغات والنرجسية التي تبدو لنا اليوم مضحكة، يجب ألا تدفعنا الى التقليل من شأن هذا الكتاب الذي يمكن اعتباره واحداً من أهم كتب المذكرات في تاريخ الأدب الفرنسي، جنباً الى جنب مع «اعترافات» جان - جاك روسو. بل ان ثمة من الكتّاب من يرى أن كتاب شاتوبريان هذا هو حتى اليوم، الكتاب الذي يقرأ أكثر من أي كتاب آخر في تاريخ الأدب الفرنسي، اذا استثنينا «البؤساء» لفيكتور هوغو، طبعاً. فهل علينا حقاً أن نستغرب أن يطغى حب الذات ومركزيتها وتضخيم دورها، في كتاب يفيدنا بأن واحداً من أول المشاهد التي طالعت المؤلف حين كان بعد شاباً، في الحادية والعشرين، من عمره، لديه بعض الحماسة للثورة الفرنسية التي اندلعت لتوّها، يدور على الشكل الآتي: يوم 23 تموز (يوليو) 1789 كان الشاب المدعو فرانسوا رينيه اوغست دي شاتوبريان جالساً في غرفته في فندق يقع في شارع ريشيليو وسط العاصمة الفرنسية، حين لمح عبر زجاج النافذة، رأسي السياسيين برتييه وفولون معلقين على رأس خازوقين يرفعهما بكل فرح وسرور «غوغاء قتلة يجوبون الشوارع فرحين بانتصار ثورتهم»؟ ان شاتوبريان يصف المشهد بنفسه معتبراً اياه واحداً من اولى المشاهد المعبرة عن الثورة، تلك الثورة التي لم تعد في رأيه، منذ تلك اللحظة، سوى مرادف للموت والجريمة. كيف لا وهو يتابع وصف المشهد على النحو الآتي: «كانت عين واحد من الرأسين قد خرجت عن مدارها وتدلت على وجه القتيل الداكن. أما الخازوق فكان يخرج من الفم المفتوح الذي بدت الأسنان فيه وكأنها تقضم الحديد». طبعاً لا تمتلئ صفحات «مذكرات من وراء القبر» بمثل هذه الصور والمشاهد. وكذلك لا تمتلئ أكثر من اللازم بعبارات تمجيد الذات. فالكتاب يتجاوز هذا، ليقدم صورة لزمن ولمجتمع يتبدلان، من خلال سرده لعشرات السنين من حياة مؤلفه وتجواله ورحلاته. وشاتوبريان أمضى سنوات حياته، صعوداً وهبوطاً، مرة نراه متشرداً جائعاً في لندن، ومرة نراه سفيراً لبلاده فيها. مرة نراه متجولاً مبهوراً في البراري الأميركية، ومرة نراه في قصور أوروبا يجاور العظماء وينصحهم ويلومهم على تقصيرهم. انها التناقضات التي ملأت حياة هذا الرجل، وسجّلها في كتابه. ولكن، تساءل المؤرخون دائماً، هل علينا تصديق كل ما يرويه؟ ان شاتوبريان نفسه يقول لنا في ثنايا كتابه «لقد قيّض لي أن أعيش بين عصرين كما يعيش المرء بين رافدي نهرين». كما يقول: «يبدو الأمر خلال حياتي ومن خلال ما عشته، وكأن عالماً قديماً قد انتهى تماماً، وحل محله عالم جديد بالكاد بدأ زمنه». وفي خضم مثل هذه اللحظة الانعطافية، هل كثير على كاتب مبدع من طراز شاتوبريان، أن يعتبر أن كل فعل قام به، وكل كلمة قالها كان فيهما «هزة لأوروبا من أقصاها الى أدناها»، ولا سيما حين شغل السفارة والوزارة بعد عودة العصر الملكي الذي ارتبط به؟ بدأ شاتوبريان كتابة مذكراته هذه في العام 1811، بعد سنوات قليلة من قطيعته مع نابوليون الذي كان حضنه أولاً. وهو قال على أية حال مبرراً انصرافه الى كتابة هذه المذكرات «انني أكتب، أساساً، لكي أرسم لنفسي جردة حساب عن حياتي. فأنا أريد قبل أن أموت أن أعود الى أجمل سنوات حياتي وأن أفسر لنفسي مسار فؤادي العصيّ على التفسير». قد يكون صحيحاً أن شاتوبريان كتب «مذكرات من وراء القبر» لنفسه. ولكن عنوان الكتاب يشي بأنه كتبه ليقرأ - وعلى نطاق واسع من بعده -، فهو حين باع المخطوطة بمبلغ ضخم، اشترط على الناشر ألا ينشر الكتاب إلا بعد موته. لكن هذا لم يتحقق الا جزئياً، اذ ان الناشر راح يبيع فصولاً من المذكرات إثر فصول، وهكذا قرئت المذكرات وهوجمت حتى خلال حياة صاحبها. في هذا الكتاب الذي يقال عنه ان «شاتوبريان رفع فيه التاريخ الى مستوى الكتابة الدينية» وأنه «حقق في الكتابة ما حققه بيتهوفن، معاصره، في الموسيقى»، في هذا الكتاب المؤلف من أربعة أجزاء، تابع شاتوبريان مسار حياته، منذ كان طفلاً مكتئباً يعيش حياة ملل في قصر أسرته النبيلة قرب المحيط في سان مالو ببريتاني، حتى وصوله الى باريس بعد انخراطه ملازماً ثانياً في الجيش، وبدء اهتمامه بالأدب وارتياده الصالونات الارستقراطية في العاصمة. ويروي شاتوبريان كيف قدّم الى الملك في فرساي. ثم كيف فاجأته الثورة وهو في باريس فشهد أحداثها الرهيبة الدموية الأولى. ونراه إثر ذلك يقرر السفر الى أميركا فيفعل ويمضي هناك ستة أشهر يكتشف خلالها العالم الجديد. وبعد اعتقال لويس السادس عشر يعود شاتوبريان الى فرنسا ويتزوج، ثم يهاجر مجدداً الى ألمانيا حيث ينضم الى جيش ملكي معاد للثورة ويبدأ بكتابة نصوص حول التاريخ والسياسة يستشفّ منها توق الى العثور على حل عبر التجديد في الكاثوليكية نفسها. وكان من بين قراء هذه النصوص بونابرت الذي بهرته الفكرة وسارع الى استدعاء الكاتب من انكلترا حيث كان نشر «عبقرية المسيحية». وما ان عاد شاتوبريان الى باريس حتى كلفه بونابرت مهمات ديبلوماسية. غير ان شاتوبريان يروي لنا، مضخماً كعادته، خلافه مع نابوليون والقطيعة بينهما مسهباً في كيف انه كان يخاطب هذا الأخير مخاطبة الند للند. المهم ان شاتوبريان يستقيل وينضم الى المعارضة، ثم يقوم برحلته الشهيرة الى الشرق الأوسط (فلسطين وسورية) مهد المسيحية، وينتج من ذلك كتابه الذي يصف فيه رحلته وينتخب يوم صدوره عضواً في «الأكاديمية الفرنسية». في تلك الآونة أو بعدها قليلاً يعود آل بوربون الى الحكم من طريق لويس الثامن عشر الذي سرعان ما ينضم شاتوبريان اليه. ولكن هنا مرة أخرى، وكما يحدثنا بكل عظمة في فصول الكتاب، يغضب الكاتب من الملك ويتركه مفضلاً الهجرة على منصب وزير الخارجية (!). بعد ذلك يستدعيه شارل العاشر ويعهد اليه بسفارة فرنسا في روما. ولكن هنا أيضاً لا يلقى شاتوبريان بالاً للملك فيستقيل احتجاجاً على تقييد هذا الأخير حرية الصحافة. وإذ يتخلى هنا «غير آسف»، كما يقول، عن عمل سياسي يدّعي هو انه غيّر خريطة العالم مع ان المؤرخين يقولون انه لم يكن ذا شأن على الاطلاق، يخلد الى الهدوء منصرفاً اخيراً الى الكتابة، وخصوصاً الى متابعة «مذكرات من وراء القبر» الذي سيقدم واحدة من الصور الأكثر تفصيلاً لذلك الزمن وتناقضاته. الزمن الجديد الذي كان يولد ويسير قدماً «على رغم اعتراضنا عليه» كما يقول شاتوبريان. شاتوبريان، الذي رحل العام 1848 ودفن في سان - مالو، في مواجهة أمواج المحيط، في عودة الى مسقط رأسه، عاش، إذا كل تلك الحياة الصاخبة، وهو عبّر عنها في ذلك الكتاب الذي يظل من أهم ما كتب، اضافة الى مراسلاته التي تعد بالآلاف، والتي لا تقل نصوصها مغالاة عما في هذا الكتاب الذي يعتبر مذكرات، وتاريخاً، وصوراً شخصية للكثير من الأشخاص الذين عرفهم شاتوبريان وعايشهم واستخدم كل ما لديه من مهارة في الكتابة ليصفهم. فكان وصفه لهم صورة للحياة في زمنه. [email protected]