عند بدايات القرن السابع عشر، كان الكاتب الفرنسي شاتوبريان، يشتغل على عمل ادبي له سيظهر لاحقاً بعنوان «الشهداء». وليضفي على عمله هذا، من ناحية الصدقية التاريخية، واقعاً كان يتطلع إليه، جمع ملاحظات وقصاصات وانطباعات من رحلة كان قام بها قبل ذلك، أي بين صيف عام 1806 وصيف عام 1807، الى الشرق الأدنى، محولاً كل ذلك في ما بعد الى الكتاب الذي يعرف منذ ذلك الحين ب «المسار من باريس الى القدس» والذي صدر للمرة الأولى في عام 1811، ليعتبر إحدى القمم في ادب الرحلات الفرنسي، وكذلك المثال الذي احتذاه، بعد شاتوبريان، عدد كبير من كتاب فرنسيين زاروا الشرق وكتبوا عنه، وظلت كتاباتهم تقارن دائماً بنص شاتوبريان هذا، والذي يرى بعض الباحثين انه يسير في خط متوازٍ تماماً، مع حملة نابوليون الى الشرق وكان احدى البدايات الجيدة للاستشراق الفرنسي الحديث. اما شاتوبريان نفسه فإنه قال، في صدد حديثه عن كتابه هذا: ان «مساري، إنما هو مسار رجل انطلق اصلاً الى حيث يرى السماء والأرض والماء... ثم عاد الى دياره وفي رأسه بعض الصور الجديدة، وفي فؤاده بعض المشاعر الإضافية». بيد ان الكتاب يبدو لنا اليوم اكثر من هذا بكثير، على رغم ان رحلة شاتوبريان الشرقية كانت قصيرة - زمنياً - مقارنة بغيرها من الرحلات الفرنسية المماثلة، ومحدودة في المكان. قسم شاتوبريان كتابه سبعة اقسام ليتحدث في كل قسم منها عن منطقة، او مدينة، من المناطق والمدن التي زارها. فهو في القسم الأول يتحدث عن سفره الى اليونان، التي منها ابتدأت «الرحلة الشرقية». وفي الثاني عن «الأرخبيل» والأناضول والآستانة. اما في القسم الثالث فنجده متنقلاً بين جزيرة رودس ومدينتي يافا وبيت لحم الفلسطينيتين، وصولاً الى البحر الميت. اما القسم الرابع فإنه يخصصه كله لمدينة القدس - واسمها عنده اورشليم - ولا يكتفي بهذا، بل انه بعد تردد يفرد القسم التالي، الخامس، للحديث عن القدس نفسها ايضاً. اما في القسم السادس فإنه يحدثنا عن تجوله في مصر، قبل ان يكرس القسم السابع والأخير لرحلة يقوم بها الى تونس، تقوده في النهاية الى دياره فرنسا. وقد كان من الواضح في ذلك الحين ان شاتوبريان كان متردداً بعض الشيء من دون نشر تفاصيل تلك الرحلة «السباعية» في كتاب، اذ انه بعدما نشر «الشهداء» في عام 1807 محملاً إياها عناصر كثيرة مما جمعه من انطباعات وأفكار وصور... استغرقه الأمر اربعة اعوام قبل ان يقرر في نهاية الأمر نشر الكتاب، وكان اثناء ذلك انتخب عضواً في الأكاديمية الفرنسية. فما هو هذا الكتاب، بعد كل شيء؟ هو في الدرجة الأولى مجموعة نصوص تؤكد رؤية شرقية كان شاتوبريان حازها من قبل. فهو كان أغرم بالشرق وروحانيته وسحره منذ زمن. لذلك وحتى من قبل وضع أي قدم له في رحلته الشرقية، انكب على المكتبات وعلى كتب التاريخ يقرأ ويستزيد. كما انكب على لوحات الفنانين، وعلى قراءة الف ليلة وليلة، وعلى مراجعة كل حرف خطّه قلم عن ذلك الشرق البعيد - القريب - الساحر - المتعب، كما سيقول. من هنا حين سافر، كان من الواضح انه يعرف تماماً ماذا ينتظره. ومن هنا ايضاً نكاد نلاحظ الاختفاء التام لحس الاكتشاف والفضول في كتابه. بدلاً منهما هناك احساس من يتجول في ارض يعرفها، وسبق له ان تصور في خياله كل جزء من أجزائها. ولعل هنا يكمن ذلك الإحساس بشيء من الثقل، لدى القارئ، الذي يشعر في فصول وصفحات عدة بأن الكاتب، بدلاً من ان يتعامل مع ما يراه ويصفه، يثقل كاهل النص بالمعلومات والمعارف التاريخية... وخصوصاً بأسماء قد لا يعني معظمها شيئاً للقارئ الأوروبي. في اختصار، يبدو شاتوبريان هنا، مثل استاذ اصطحب تلامذته في رحلة خلوية او بين آثار. ثم، في كل مرة كان التلاميذ يحاولون ان يتفرجوا ليندهشوا، كان صوت الأستاذ يأتي شارحاً مفسراً محملاً بالحقائق والوقائع التاريخية، التي قد تتناقض تفاصيل بعضها، مع عفوية المنظر وجلاله. غير ان رؤية شاتوبريان الروحية لهذا الشرق، وإمعانه في ايراد التفاصيل الطريفة احياناً، يأتيان هنا للتعويض على أي احساس بالثقل. ولنتذكر هنا ايضاً، ان شاتوبريان نفسه، كان شرح لنا منذ مقدمة الكتاب ان ما يقوم به هنا انما هو نوع من الحج الى مهد الحضارات القديمة، نوع من الوقوف على الأطلال لتصور ماضيها ثم اخذ العبر. ومن هنا ذلك الطغيان في الكتاب لامتداح الماضي المجيد، لدى كل حضارة من الحضارات، في مقابل التنديد بكل ما يمت الى الحاضر بصلة. ومن هنا ايضاً ما نلاحظه في صفحات الكتاب من استعادة للذكريات الفنية والأدبية، وسط تأمل للأفكار الفلسفية والأخلاقية. ان شاتوبريان في بعض الأقسام يبدو مستمتعاً غاية المتعة بتذكر احداث بعينها حين يكون في مكان وقوعها بالتحديد. وهو اذ يتذكرها لا يفوته ان يتذكر ما كتب عنها من اشعار وروايات، وهكذا في مثل هذه المواقع يبدو مثل من يفتح ملفات فكرية ابداعية بأسرها. ولا سيما، حين يذكره موقع ما من المواقع هنا بأحداث روحية او تاريخية... وخصوصاً دينية، اذ ان شاتوبريان يعرف جيداً ان هذه المنطقة من العالم هي مهد الأديان السماوية، حيث كل حجر وكل نهر وكل بقعة صحراوية، تذكر بالأديان التي مرت وأصحابها. ومن الواضح ان هذا الجانب من دلالات كتابة شاتوبريان هنا، يبدو مرتبطاً كل الارتباط بكون الرجل يتحرك في المكان، ثم يحرك خياله وقلمه من حوله، وقد خيل إليه انه امتلك سر الماضي وسر الفكر الإنساني... وما عليه الآن إلا ان ينقل هذا السر الى الآخرين مشركاً إياهم في اكتشافاته. وهو من ناحية ثانية، يسعى الى اثارة عواطف قرائه في كل صفحة... والحال انه ينجح ونجح دائماً في المسعيين. بل انه يعتبر، الى حد ما، من اوائل الذين لفتوا انظار اوروبا الى القضية اليونانية حين كان شعب اليونان بدأ يناضل في سبيل استقلال بلاده عن الدولة العثمانية. كان كتاباً رائداً اذاً، هذا الكتاب لشاتوبريان. ورائداً بالتحديد من منطلق انه كان في بال معظم الكتاب الفرنسيين، وغير الفرنسيين، الذين اذ زاروا الشرق، كان واحداً من همومهم الأساسية ان يحاكوا هذا الكتاب ويتفوقوا عليه، ومن بينهم دي نرفال وفلوبير... غير ان اياً منهم لم يضاهِ المعلم الأول في المجال الذي اختاره هذا لكتابته. اما الوحيد الذي دنا منه، فكان كاتباً من نوع آخر: كان خادمه جوليان، الذي كان يرافقه في رحلته، وكان يدوّن يوماً بيوم ما كان يشاهده، ليضع في النهاية، هو الآخر نصاً، لم يطبع إلا بعد ذلك بعقود طويلة، وتحديداً في عام 1901، وكتب عليه ان مؤلفه هو «جوليان خادم شاتوبريان». ولقد حمل الكتاب العنوان نفسه الذي كان هذا الأخير اعطاه لكتابه. وفرانسوا - رينيه دي شاتوبريان (1768 - 1847) ولد في سان - مالو غرب فرنسا لأسرة ذات مجد قديم. وهو عرف لاحقاً بنشاطاته الفكرية والسياسية... وبرحلاته المتعددة. وعيّن في عام 1803 في منصب ديبلوماسي في روما، ممثلاً الحكومة الفرنسية، بعدما كان سجن واضطهد بسبب مشاركته في حرب الأمراء ضد الجمهورية... لكنه بعد اعدام الدوق انغيان، استقال ليبدأ بعد ذلك رحلته الشرقية. وفي عام 1815، بعد نشره كتاب «من بونابرت الى آل بوربون» هرب، إثر عودة نابوليون... ثم بعد سقوط هذا عين وزيراً، ليخلع عاماً بعد ذلك حين وضع كتاباً حدد فيه شروط عودة الملكية. وقد ظلت حياته السياسية بين مد وجزر حتى رحيله. بيد ان هذا لم يمنعه من مواصلة اصدار كتبه الفكرية والتاريخية، والتي سيكون اهمها «مذكرات من وراء القبر» كتابه الأشهر. [email protected]