تزدحم قاعة مسرح «ماتوران» الكبيرة في باريس كل ليلة بالمتفرجين الذين يأتون لمشاهدة «أوديسا جنسك» L›ODYSSEE DE TA RACE، وهو عمل استعراضي تقدمه الممثلة المغربية رشيدة خليل وحدها فوق الخشبة، غير أنها كتبت مضمونه وأخرجته بالتعاون مع مخرج مسرحي محترف. وتبلغ رشيدة من العمر 36 سنة. خفيفة الظل، تعرف كيف تجذب جمهورها من خلال أسلوبها الطريف في سرد مغامرات شابة مغربية تدعى فاطنة. وهي تتقمص طوال العرض الكثير من الشخصيات النسائية والرجالية وحتى الأطفال والمسنين الذين تلتقيهم فاطنة في حياتها اليومية، وذلك ببراعة فائقة تجعل المتفرج يتخيل حقيقة أنه في صحبة مجموعة من الأفراد وليس فقط امرأة واحدة تسرد له حكاية. واختارت رشيدة الضحك كي تعبر بواسطته عن قضايا اجتماعية حساسة، خصوصاً وضع المرأة في بلدها المغرب والمصاعب التي تتعرض لها شابة عربية مهاجرة عند وصولها إلى عاصمة كبرى مثل باريس، سواء من ناحية معاملة الناس لها أو عند محاولتها العثور على عمل أو في قرارة نفسها إذ حاولت أن تدمج بين ثقافتها الشرقية وتقاليدها الأصلية وبين الأسلوب المعيشي في بلد غربي. ولا تتردد رشيدة في تقمص شخصية باريسية بورجوازية تقليدية اسمها ماري-صوفي تدعي استقبال العرب بصدر رحب وتعيب عليهم نقطة واحدة هي كثرة وجودهم في كل مكان في العالم حتى في الأراضي المحتلة، ثم تضيف عبارة ثانية صغيرة جداً، هي «حب العرب الواضح للموسيقى وللضحك»، ما يعني أنهم لا يعرفون الاكتئاب النفسي مثل العدد الأكبر من الفرنسيين، فكيف يتفقون معهم إذاً؟ ولدت رشيدة في قرية مغربية صغيرة عاشت فيها صباها قبل أن تأتي إلى فرنسا مع عائلتها وهي مراهقة، وأن تقرر عقب إنهائها تعليمها المدرسي خوض تجربة المسرح عن طريق الانضمام إلى فرقة كان يديرها المخرج أحمد مدني في إحدى الضواحي الباريسية. واكتسبت الفنانة الشابة خبرة درامية عبر مشاركتها في الأعمال التي قدمتها هذه الفرقة، إضافة إلى كونها أولت اهتماماً كبيراً لعنصري الإخراج والإدارة المسرحية، ما جعلها تتفرع في نشاطاتها وتتدخل في إدارة شؤون فرق مسرحية أخرى، وفي محطة إذاعية باريسية مستقلة وأيضاً منظمة تهتم بإدارة بعض شؤون المغتربين في العاصمة الفرنسية. وشعرت رشيدة بضرورة تحويل ذكرياتها الطفولية في المغرب وخبرتها كمغتربة في فرنسا إلى كتاب. فراحت تدون كل ما أتى إلى ذهنها في هذا الخصوص، والمهم بالنسبة إليها كان التعبير عما تحمله في وجدانها منذ سنوات. وهكذا أنجزت كتاب «طريق الجهل» الذي طرح في المكتبات الفرنسية وعرف مقداراً من الرواج، إلا أنه لم يشبع حاجة رشيدة إلى التعبير عما تريد البوح به للعالم كله في شأن جذورها العربية وثم البلد الذي أتت إليه وبنت حياتها فيه، أي فرنسا. وإثر هذا التفكير مسكت رشيدة القلم مرة ثانية وألفت حكايات وروايات ومواقف بإيحاء واضح مما عاشته سابقاً وما تعيشه في واقعها اليومي. وهكذا اتخذ عملها مسار النص المسرحي بل الاستعراض الفردي الذي يشترط على الممثلة أن تكون قادرة على تقمص كل شخصياته المكتوبة والمرور السريع من الواحدة إلى الأخرى... كي تظل الإثارة على مستوى توقع المتفرج وكي لا يهبط انتباهه بالمرة ولا حتى لدقيقة واحدة. تدربت رشيدة على إنجاز مهمتها بأفضل طريقة فنية ممكنة، مستعينة بالنجم المسرحي غي بيدوس، المتخصص في الاستعراضات الفردية، والذي كان أبدى إعجابه الشديد أصلاً بموهبة رشيدة حينما شاهدها في مسرحية جماعية قبل سنوات. فلا عجب إذاً أن تمتلئ قاعة المسرح في كل ليلة بالباريسيين العرب والفرنسيين على السواء، وأن يكونوا النقاد كتبوا أحلى الكلام في شأن رشيدة وطاقتها الحيوية التي لا تهبط لحظة واحدة على مدار 90 دقيقة متواصلة. وتعرف رشيدة جيداً أن الانتقادات التي توجهها إلى كل فئات المجتمع تثير غضب بعض الذين يفتقدون إلى روح الدعابة. وهي تقرأ كلمات وعبارات جارحة تجاهها على شبكة الإنترنت من متفرجين لم يعجبهم كلامها، وبالتالي ينصحونها بالعودة المباشرة إلى بلدها المغرب طالما أن الوضع الفرنسي لا يعجبها، وتصرح رشيدة بأنها لا تبالي بحكاية عدم إثارة إعجاب الجميع طالما أنها تظل تتمتع بحريتها الفنية كاملة.