أقدم الحضارات على وجه الأرض غارقة في نهر المشكلات، وأهدرت عقوداً من الزمان من دون أن تحقّق رغبات أجيال تعاقبت لم تهنأ بالسعادة الدنيوية والراحة والنظر إلى المستقبل بثقة وطمأنينة، والأسباب تكمن في عقلية عسكر تزيّنوا بلقب الأحرار وفرسان الطلقة الأولى، واعتقلوا الوطن بدوائر الانضباط الأمني، وفرض التحية العسكرية، ونظرة لعذاب الفقراء والمحرومين والعجز الاجتماعي والاقتصادي على أنه واجب التضحية من أجل الوطن وحمايته. تَرِكَةْ الضباط الأحرار وجيل حرب أكتوبر، وطن مهزوم في التنمية والتعليم والصحة وحتى الزراعة ومُحطّم الدستور، والثقة في ما بين طبقات الشعب مفقودة؛ ماذا بقي من وطن علّم البشرية الكتابة وقدمها بالأقلام والورق قبل الميلاد، وحاضره يغرق في شبر دستور؟ ماذا دهاك يا وطناً ابتكر أنظمة الري قبل الميلاد تُقيّد إرادته – حاضراً – معونات البنك الدولي واتفاقية السلام الضائع لإطعام الشعب لقمة العيش؟ ماذا دهاك يا وطناً استلهم منه المؤرخون والعلماء المفهوم القانوني والحضاري لبناء الدول وفلسفة التعايش والتسامح، حذف حكامه – حاضراً – اسمه ومكانته من التاريخ وأعادوه يتعلم المشي من جديد بعد أن عقروا الحرية والأمان في أمجادهم الشخصية واختزال الوطن في بدلة مدنية عقيدتها عسكرية؟ الزمن فجر الثورة وكشف الغطاء، والزمن سيعيد كتابة تاريخ مضيء أو عدوى تعاسة تتنقل على سجادة حمراء تقف احتراماً لعزف نشيد الوطن: بلادي بلادي بلادي لك حبي وفؤادي، لكن أم البلاد لم تكن يوماً في حاضرها الغاية والمراد، ولا يراد لها مكانة الدرّة فوق جبين الدهر غرة كما كان يتمنى الراحلان الشاعر محمد يونس القاضي والموسيقار سيد درويش. عام ونصف عام على ثورة الربيع في كانون الثاني (يناير) ولا تزال أم الدنيا تواجه من يسعى لإخفاء التاريخ والحضارة وتدمير إرادة جيل شاب يرى في النفق المظلم نوراً وعَبّر عن همة وقدرة ورغبة لتحويله لشعلة تنهض بالأمة لمواكبة التطور البشري والتكنولوجي؛ لكنّهم كبّلوه وجعلوا من ميدان التحرير المتنفس الشعبي لتفريغ شحنة الطاقات البشرية الجديدة والهدف إعادة عجلة الإحباط للدوران وتعليق يافتات إنجازات العسكر في الميادين والمقاهي «ما فيش فايدة»! الوطن استفحل به الوهن والأوجاع الاجتماعية والاقتصادية، والوقت سيف سيُقَطّع أوصال ما بقي في الخزانة المصرية، وسيكشفها لفقر وعوز وحاجة وستعود لطرق أبواب الهبات والعطايا وتكبيل الاقتصاد بالقروض والديون؛ التفاوض مع العسكر ما بين كر وفر، حتى وصلت البلاد إلى مرحلة الانحباس الديموقراطي، فتقاطعت نتائج توابيت الماضي الانتخابية مع صناديق الانتخابات الحرة والنزيهة ولم يعد الحاضر بأحسن من ذاك الذي قبله ما دام المجلس العسكري متمسكاً بحراسة الثورة تحت شعار «إذا لم تكن معنا فأنت ضدنا». حدث انقلاب في معادلة الأمنيات والتوقعات الليبرالية في الانتخابات البرلمانية والشورية المصرية، فعلى رغم مقاومة الليبراليين الناعمة التي استمرت ثلاثة عقود تطالب بانتخابات حرة ونزيهة تُعبر عن إرادة وحرية الشعب في التصويت والاختيار، فإن تلك القوى المستقلة أو الحزبية الليبرالية أفصحت عن ثقافة ظاهرها المطالبة بالديموقراطية وباطنها صعوبة القبول والتعايش مع الأمر الواقع الذي فرضته إرادة الأغلبية، وهنا يتساءل بعض المراقبين عن الفرق بين هذا العهد وعهد رئيس مخلوع وصفوه بالديكتاتورية؟ بعد تجاوز نتائج الانتخابات البرلمانية والشورية، توقف المصريون أو أُجبروا على الوقوف أمام معضلتين: معضلة إعادة صياغة الدستور، والأخرى اختيار رئيس الجمهورية، وكأن الزمن سيعود بأرض الكنانة للوراء لقوى تريد لي ذراع الدستور لأهداف تخدم أغراضها وتوجهاتها، وأخرى لا تزال تحمل ثقافة الإدمان على مطاردة الأسماء ووضع مستقبل البلاد بين أيادي الأفراد في ظل غياب برامج انتخابية واضحة لخطط وبرامج اقتصادية واجتماعية وتنمية مستدامة. المشهد المصري التحضيري لصياغة الدستور الجديد والانتخابات الرئاسية يحدث في غياب تراتبية المد التاريخي والحضاري والاستفادة من دروس وعبر الأحداث التي مرت بها البلاد على الأقل خلال العقود الخمسة الماضية، ولن يكون الحكم قاسياً عندما نقول إن حالة التبعثر المصرية لا تزال حاضرة ومحبطة ومؤثرة في أوضاعها الداخلية ومحيطها العربي، ويبقى السؤال الثائر من مياه نهر النيل الخالد والشاهد على أم الحضارات؛ لماذا تظل مصر كبيرة وعظيمة بالتاريخ وتصغر عند مواجهة قضاياها الداخلية والخارجية؟ ولماذا لم تعد النظرة للأهرامات على أنها رمز للقوة والعزيمة والإصرار؟ وهل قتل حاضر المصريين ماضيهم؟ ولماذا لم يعد لهم من تاريخهم وحضارتهم نصيب؟ جيل سيصمت، وجيل سيُجيب، وجيل آخر سيلعن كثرة الأسئلة، أما العسكر فهم حراس الأسئلة، وهم من الإجابات حريصون على معرفة من يقف معهم ومن يقف ضدهم، ليس بالضرورة لقذفه في السجون، بل من باب العلم: كيف يفكر؟ وربما لماذا؟ * كاتب سعودي. [email protected] alyemnia@