أرادوها ثورة فتحققت الثورة. أرادوها تغييرًا للنظام فتحقق التغيير. أرادوها نصرًا فانتصروا في ميدان التحرير نصرًا مؤزّرًا. هذه هي إرادة الشعب المصري، الذي انتفض شبابه البواسل لإعادة الهيبة والحرية والمكانة المرموقة إلى أم الدنيا (مصر). لقد أثبت هؤلاء الشباب أنهم بعزيمة الرجال استطاعوا أن يصنعوا المعجزات، وحدث ذلك بالفعل بمظاهرات حضارية، وانتفاضة سلمية بيضاء من غير سلاح، ولا نار، ولا إراقة دماء، استطاعوا أن يحققوا ما أرادوه، وبحثوا عنه وقاموا بارتداء الزي الأمني، ونسقوا فيما بينهم، وكوّنوا اللجان، وتعهدوا بحراسة بلدهم، والحفاظ على منشآتها وأمنها بشكل حضاري راقٍ، ودحضوا فكرة أن العدالة يمكن تحقيقها من خلال العنف. أراد شباب مصر الديمقراطية الحرة، وأن يحصلوا على العدالة، وأن تبدد كل الفروقات والحواجز بين الطبقات، وأن يعيش المواطن المصري بعزة وكرامة.. وبالفعل قدموا للعالم أجمع درسًا لا يُنسى في الحرية والديمقراطية من خلال مشاركة جميع أطياف الشعب من إسلاميين وليبراليين ومسيحيين، وأطفال وشيوخ ونساء في قيادة هذه الانتفاضة التي كانت بلا قائد، فالكل فيها قادة تجردوا من أفكارهم وانتماءاتهم السياسية، وأصبح صوت الثورة هو الأعلى. نعم إن هذه الثورة ومن قبلها ثورة تونس دشنتا مرحلة جديدة في التاريخ السياسي للبلدين، حيث أظهرتا أن الفجوة بين المجتمع والسلطة كانت عميقة جدًا، وأن حقبة قمع المجتمع أو تغييبه أو التحكم به أو التسلط عليه باتت تنتمي إلى زمن آخر، وإلى عصر مضى وانقضى، وأن المجتمعات العربية مثل غيرها من المجتمعات؛ يمكن أن تتحرك وأن تثور على واقع القهر وامتهان الكرامة، والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية في بلادها، بغض النظر عن التوقيت الذي يصعب التكهن به، أو الشكل الذي يمكن تأتي عليه. فثورة الشباب المصري أثبتت أنها ثورة عفوية صادقة مباشرة، ليس وراءها أي تبعات أو دوافع سياسية خاصةً، شعاراتها ذات الطابع الشعبي الفكاهي، النابع من البيئة المصرية، والتي كانت واضحة للعيان، لذا سرعان ما حازت على ثقة وتأييد وتفاعل الجميع، كما أثبتت ثورتهم الهادئة التي لا تستفز ولا تستدرج، والصبورة والمصرّة على مطالبها، إن التغيير يمكن أن يحصل بالطرق الحضارية السلمية المشرفة، دون الحاجة للعنف وإراقة شلالات من الدماء، ونشر الخوف والرعب. لقد أظهرت هذه الثورة مدى الحب والترابط والتعاضد بين أبناء الشعب المصري الواحد، وتمثل ذلك في العلاقة الأخوية الترابطية بين الشعب والجيش، والجيش والشعب، فشاهدنا الوئام والعناق والهتافات الشعبية الموحدة في أحلك الظروف وأشدها في صور جميلة تجسد أن الهدف والطموح واحد نحو حياة وغد أفضل للمواطن المصري، وخير شاهد على ذلك مشاهد ميدان التحرير، ذلك المَعْلَم الذي سيظل رمزًا للحرية ومنبعًا للتضحيات والوفاء لهذا الوطن. ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا سيكون مستقبل مصر العروبة بعد هذه الثورة؟!!. لذا، أقول لكل مصري غيور على دينه ووطنه: إن ثورتكم البيضاء النزيهة امتداد لانتفاضتكم المباركة التي ستقلب مفاهيم كثيرة في العالم المتحضر والحديث، فكونوا على قدر المسؤولية التي تنتظر الانتقال السلمي إلى حكومة مدنية ضمنها الجيش الوطني، وهذا يستدعي تكاتف الجميع يدًا واحدة لخوض الاستحقاقات القادمة في انتخابات نزيهة وشفافة، وأن تسارعوا في تشكيل حزبكم السياسي بطابع 25 يناير لجني الثمار التي تستحقونها، وأن تحافظوا على أمنكم ومنشآتكم وتراثكم وحضارتكم من كل يدٍ عابثة تستهدف هذا الكيان. وأحب أن أوجه رسالة لكل من في مصر أن يتفاءلوا بمستقبل أفضل، وغدٍ مشرق، ووطن آمن مستقر، وهم يقرؤون قوله تعالى: (ادْخُلُوا مِصْرَ إن شَاءَ الله آمِنِينَ)، وسيجدون الحرية الحقيقية التي يبحثون عنها دائمًا، كما سيجدون الاحترام والعزة والكرامة التي طالما انتظروها.. وتعود مصر أم الدنيا.