كرر مستشار الأمن القومي الاميركي وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر، في مقال أخير له بعنوان «تعريف دور الولاياتالمتحدة في الربيع العربي» نشره في صحيفة «هيرالد تريبيون» (2 نيسان-أبريل 2012) في طبعتها الورقية (لم ينشر على الإنترنت)، الحديثَ عن مبدأين رئيسين معروفين يُسيِّران السياسة الأميركية في الشرق الأوسط: أمن النفط وأمن إسرائيل، لكنه كشف بشكل بارز أن المبدأ الأهم الذي يقف وراء هذه السياسة هو «منع ظهور أي قوة إقليمية تستطيع أن تجمع المنطقة حولها». ومع أنّ هذا المبدأ لم يكن سراً مكنوناً، إلا أن الأضواء لم تكن تسلَّط عليه بقوة كما بالنسبة الى المبدأين الآخرين، ويأتي تصريح شخصية في مكانة كيسنجر، الرسمية سابقاً وغير الرسمية حالياً، إنما الواسعة الاطلاع في الحالتين، يعطيه قوة إثبات حقيقية. والواقع أنّ هذا المبدأ، أو العقيدة الإستراتيجية، ليس عقيدة أو مبدأ أميركياً فحسب، بل هما المبدأ الأساس لكل القوى الكبيرة المحيطة بالمنطقة، من أوروبية وآسيوية (روسيا والصين)، إضافة إلى القوة الأميركية، البعيدة جغرافياً وإنْ ليس إستراتيجياً ومصلحياً عنها. كانت الصيغة الأولى لمقال كيسنجر، الذي نشره قبل ذلك في صحيفة «واشنطن بوست» (في 31 آذار-مارس 2012)، قد عبرت بوضوح عن المعنى العملي لهذا المبدأ، إذ جاء عنوان المقال «عقيدة جديدة للتدخل (الخارجي)» وهي عقيدة قديمة للاستعمار منذ القرن التاسع عشر في بلادنا. ولعل هذه العقيدة الإستراتيجية هي التي تفسر، أو تلخص جملة العوامل الخارجية التي تحاول منع أي محاولة -بغض النظر عن حجمها- لنهوض العالم العربي تحت أي شعار، أكان هذا الشعار دينياً، أو قومياً، أو رأسمالياً، أو اشتراكياً، وكذلك إجهاض الأيديولوجيات العربية المختلفة، وكأنها هي المسؤولة الأولى عن تسيير السياسات في بلادنا. وفي هذا جزء كبير من تفسير الأسباب الخارجية لفشل التجارب النهضوية، من محمد علي باشا إلى جمال عبد الناصر إلى تجارب أخرى أدنى كعباً وأقل جدية. وإذا كانت هذه هي سياسة القوى الكبرى في المنطقة، فإن المراهنات التي تتحمس بين الفينة والأخرى لدور إقليمي بارز لتركيا أو لإيران أو لمصر، تبدو عابرة في أغلب الأحيان وفي غير محلها، ولو تفاوتت الفترات الفاصلة بين الآمال والخيبات من حالة لأخرى. أما اليوم، فقد أصبحت الولاياتالمتحدة القوة الإقليمية الأبرز في المنطقة، مثلما هي قطب دولي على مستوى العالم. لذلك، لا دهشة من أن واشنطن، لا القاهرة أو أنقرة أو طهران، أصبحت منذ فترة محجَّة السياسيين العرب وغير العرب لتنسيق السياسات الإقليمية، إلى جانب الدولية. هذا لا ينفي بالطبع بعضَ الاستثناءات والتعديلات الثانوية أو الموقتة من آن إلى آخر لهذا الإطار العام، مثل سماح واشنطنلدمشق بدور أمني في لبنان خلال 1975-2005، بهدف تحجيم القوى الفلسطينية والوطنية اللبنانية، ثم ذهاب دمشق شيئاً إلى طهران وموسكو إضافة إلى واشنطن، خوفاً من سحب التفويض الذي كان ممنوحاً لها بعد إنجاز المهمات السابقة التي كانت أُوكلت إليها، ومحاولة طهران بناء منطقة نفوذ إقليمي لا نعرف بعد ما إذا كان سينجح أم سيفشل في نهاية المطاف. أما بقية المراكز الإقليمية، فقد يُسمح لها بالتحرك النسبي في هذا الاتجاه أو ذاك، وفي بعض الجيوب السياسية-الاقتصادية، لكن تحت سقف السياسة الأميركية وبضوء أخضر أو أصفر من واشنطن لفترات محسوبة. مع ذلك، فان للدول الإقليمية أحجاماً مختلفة، كما أن لها حصصاً غير متساوية في النظام العالمي. لذلك، من البديهي أن تأخذ كل من تركيا أو إيران -مثلاً- دوراً أكبر من دور كلٍّ من اليمن أو لبنان. والخلاف الجزئي الدائر اليوم بين طهرانودمشق وموسكو من ناحية وواشنطن من ناحية أخرى، هو على حجم الحصص لكل من هذه القوى، فإذا حصل اتفاق انتهت أزمة المنطقة، وإذا لم يتم اتفاق حصل الانفجار الكبير الذي سيلحق بالعرب وبإيران أضراراً تفوق أي أضرار تَلحق بالقوى الخارجية على أغلب تقدير. الحاكم العربي وهناك مبدأ آخر يلخص جملة العوامل الداخلية التي توائم لبَّ عقيدة الاستعمار الخارجي القاضية ب «منع تكوين قوة إقليمية»، ألا وهو مبدأ الحاكم العربي، القاضي ب «منع تكوين قوة وطنية»، فالحاكم يشعر -حتى ولو بدأ مسيرته السياسية والاقتصادية بقبول وتأييد شعبيين- بأنّ السياسات الخارجية تضغط عليه ضغطاً لا قِبَلَ له بمواجهته، فلا يلبث أن يعتبر أنّ الأولوية هي لما تشير به الإرادات الأجنبية أكثر منها للاستمرار في نهجه الاستقلالي الأول، ولذلك يعمل على تجريف الساحة السياسية والاجتماعية من أي مراكز سياسية أو اجتماعية قد تشكل، ولو على المدى الطويل، تحدياً أو بديلاً لسلطته، فيغدو شعار الحاكم المستبد، الذي أحرق سفنه مع مجتمعه وشعبه، هو ببساطة وكما شهدنا ونشهد «أنا ومن بعدي الطوفان»! وقد ذكر كيسنجر صراحة أنّ التزام سياسة واشنطن بعدم السماح ببروز قوة إقليمية في المنطقة، هو التزام يعلو، وربما يلغي أيَّ آلية لانتخاب السلطة الحاكمة في بلدان المنطقة، حتى ولو كانت ديموقراطية ومعبرة عن الإرادة الشعبية الحقيقية، فالديموقراطية ليس لها الأفضلية على المبدأ الاستراتيجي الذي تتبناه العاصمة الأميركية. من هنا، فان إصرار الحاكم العربي المستبد على الاستمرار في الحكم يفرض عليه مسايرة الاستعمار الخارجي، وهو لن يستطيع ذلك من دون انتهاج سياسة «استعمار داخلي» تسمح له بتركيز كل السلطة بين يديه وبين أيدي المقربين منه. والحاكم وإن فعل ذلك بالمعنى السياسي فحسب في السابق، إلا أنه طور أدوات القمع في سنوات ما بعد 1967 ليضيف المعنى الفئوي والمناطقي، وكذلك الاقتصادي والمالي، بحيث لم تعد هناك حدود واضحة بين الأمن المشروع والجريمة السياسية، وبين القطاع الخاص والقطاع العام، ولا بين القطاعين الخاص والعام من ناحية وبين خزينة الحاكم الخاصة من ناحية أخرى، كما أنه ابتدع أساليب وتشكيلات مقاتلة لا تحترم قوانين الدولة التي يرأسها هو بالذات، فإذا بنا ندخل إلى مرحلة «خصخصة الدولة» نفسها بعد أن شهدنا مراحل الخصخصة الاقتصادية لا لصالح القطاع الإنتاجي الخاص، بل لصالح السلطة الحاكمة وزبانيتها. ولم تعد السلطة تجد لمحاربة شعبِها ملاذاً إلا في التحالف مع القوى الأجنبية، ولو من وراء ستار أو من «تحت الطاولة»، كما يهمسون، ولذلك استطاعت استخدام كل أنواع القمع والقتل بوازع حقيقي من القوى الخارجية الكبرى، التي تقف موقف ال «كلية القدرة» بكل ما تحمله من دمار في حالات معينة، و «فاقدة القدرة» إلى حد الإيحاء بالعجز في حالات أخرى، عندما تجد أن مصلحتها محققة تماماً وتقضي بعدم التحرك من أجل نشر الديموقراطية في العالم! عين تفتح وعين تغمض إنّ المرء ليعجب أيضاً من موقف منظمات الدفاع عن المجتمع المدني الدولية، خاصة منظمات الدفاع عن حقوق المرأة في الغرب، التي تشن اليوم حملة –لا غبار عليها بالطبع– ضد العنف الأُسري، ولكنها تصمت صمت القبور عن عمليات الاغتصاب الجنسية الممنهجة التي تقوم بها القوات النظامية وغير النظامية في هذا البلد العربي أو ذاك لردع المواطنين عن التعبير عن آرائهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية. والأنكى أنّ من بين هذه المنظمات منظمات نسائية معروفة ومشهورة بتشددها في إثارة كل أمر، مهما يكن صغيراً، يتعلق بحقوق المرأة العربية، والمسلمة تحديداً. ولعلي لا أكون متجاوزاً إنْ أشرت إلى أن السبب الذي يقف وراء هذا الصمت هو أنّ المنظمات النسوية في الغرب ليست أقل عنصرية من الجو العام في أوروبا وأميركا، الذي يعتبر أن العنف العربي جزء عضوي من التركيب الثقافي والديني لمجتمعاتنا، وبالتالي لا حاجة إلى إضاعة الوقت في الاحتجاج على ممارسات هي في صميم طبيعة هذه المجتمعات! إن الاستعمار الخارجي شديد العقاب إذا ما خرج الحاكم عن الخطوط الحمر المرسومة له، وهو كثير التسامح والتبرير للحاكم ونظامه في حال التزامهما الفعلي السياسات المقرَّرة لهما، ولو قاما -لفظياً- برفع أكثر الشعارات المعادية للمصالح الغربية. ولكن الشعب، برجاله ونسائه، بشبابه وأطفاله، هو الذي يتلقى ضربات الاستعمار الخارجي مرة وضربات الاستعمار الداخلي مرات، وهو الذي يدفع الأثمان بالأرواح والدماء وبالكرامة وعزة النفس في الحالتين! * أستاذ التاريخ في جامعة البلمند - لبنان