في ليبيا بداية السبعينات من القرن العشرين، وتحديداً في مدينة بنغازي الشهيرة بفنونها الموسيقية والغنائية، بدأ الشاب أحمد فكرون، ولم يكن تجاوز السابعة عشرة، يحفظ ألحاناً وأغاني ليبية وعربية وعالمية كانت متداولة آنذاك، فكوّن فرقة موسيقية مع بعض الأصدقاء، قدمت حفلات في المدارس والنوادي وبعض المسارح. لكن طموح أحمد كان أكبر من فرقة محلية، فاستغل سفره للدراسة في لندن، لينخرط هناك في عالم الفن والتلحين والغناء، وشكّل أيضاً فرقة موسيقية جابت مدناً بريطانية وقدمت عروضاً على مسارح بريطانية معروفة مثل «ليز كليف هول». وقدم عرضه بآلات فرقة «كارفانس» الموسيقية ما لفت إليه انتباه الممثل والمذيع الانكليزي الشهير تومي فانس الذي اتفق معه بعد العرض مباشرة على تسجيل أعماله، فكانت الأسطوانة الأولى لفكرون بعنوان «أوعدني ونجوم الليل». وبعد انتشار أسطوانته في عواصم العالم، كباريس وطوكيو وغيرهما، عاد الى ليبيا ليحاوره المذيع الشهير علي أحمد سالم الذي أدى دور «بلال» في فيلم «الرسالة» للراحل مصطفى العقاد، في برنامج تلفزيوني، فقدّمه إلى المشاهد الليبي من خلال عمله الجديد الذي مزج فيه الكلمات الشعبية الليبية بألحانها المعروفة لدى الليبيين، إنما باستخدام آلات غربية كالغيتار والأورغ والإيقاعات الغربية. وعلى رغم مسيرته الطويلة، ظل فكرون مُقلاًّ في الإنتاج والحفلات في ليبيا بسبب التضييق على فنه من جانب نظام القذافي الذي اعتبر دخول الآلات الغربية على الموسيقى الليبية محاولة لتشويه الهوية واستلابها، بل بلغ الأمر ببعض أزلام النظام المنتمين إلى اللجان الثورية أن حطموا كل الآلات الموسيقية الغربية في المدارس ومعاهد الموسيقى. يضاف إلى ذلك أن فكرون لم ينخرط في موجة الغناء لتمجيد الحاكم. إذاعات الثوار بثّت أغانيه وإثر اندلاع «ثورة 17 فبراير»، شعر فكرون بأن لحناً نشازاً توقف، وأن الفن الليبي الذي شوّهه النظام قد يستعيد ألقه. وفي خلال زيارته الخاطفة لمسقط رأسه بنغازي، التي انطلقت منها الثورة، التقته «الحياة» في «ميدان الحرية»، حيث تحدث عن تجربته وآماله. ينفي فكرون أنه كان صامتاً خلال فترة إقامته فى ليبيا، «فبعد عودتي من الخارج، حاولت تشكيل فرقة موسيقية وتقديم العون إلى فرق أخرى، خصوصاً الشابة، من خلال إقامة مهرجان سنوي للموسيقى، لكن المحاولات باءت بالفشل، ومع ذلك قررت أن أتحدى، فصرت أغني وأسجل أعمالي في استوديو داخل بيتي ثم أحاول إيصالها إلى الناس بطريقتي. عملت ضمن الإمكانات المتاحة، لكن الحواجز تكاثرت. شعرت وأصدقائي بالمؤامرات التى حاكها النظام ضدي... إلى أن انتشر استخدام شبكة الإنترنت، فانتقلت بأعمالي إلى العالم الافتراضي، وساعدني ذلك كثيراً». ولكن، حتى على الانترنت، حورب فكرون، وحجب الموقع الذي يسوّق أعماله، وهو محجوب إلى يومنا هذا، كما يقول، «كما عمدوا إلى قرصنة أعمالي وتقديمها في شكل رديء حتى لا أستفيد من مردودها المادي، إضافة إلى التعتيم والضغط علي بوسائل لا داعي لذكرها. فقد كنا نعيش في خناق ضيق، والتعبير لا يكون إلا همساً». ويكشف فكرون أنه منذ بدايته الفنية، قبل أربعة عقود ولغاية عشية الثورة، «لم يتوقف النظام عن محاولة استدراجي وشرائي، وظلت المطاردة مستمرة حتى اندلعت الثورة». وفرح كثيراً بسماع أغنياته تبث على إذاعات الثوار الجديدة، «وعندما زرت مصراتة، سمعت من الأصدقاء أن أغنية «يا بلادي» كانت تبث يومياً عبر إذاعة مصراتة، وأنها كانت تنعش في نفوسهم الأمل، خصوصاً خلال الحصار الذي فرضته كتائب القذافي والمرتزقة على مدن عدة». الغيتار... منذ الأندلس ويروي فكرون بأسى كيف أشاع أزلام النظام السابق في تلك الفترة، أنه قتل خلال قصف لقوات «الناتو»، كما «دهمت كتائب الطاغية بيتي، وقلبوه رأساً على عقب، وسرقوا حتى الأجهزة الفنية، ما سبّب لي إرباكاً في العمل ما زلت أعاني منه حتى الآن». يحكي فكرون عن تجربته: «بحثت عن الجديد في كل المصادر، ومنها ذاكرتي السمعية منذ الطفولة، وعدت إلى أنغام حلقات الذكر في الزوايا الصوفية، وأعدت زيارة الموسيقى العالمية التي قادتني إلى شراء آلة الغيتار التى ألهمتني لوناً شرقياً جديداً. والغيتار أصله القيثارة الأندلسية، إذاً الآلة ليست غريبة عنا، وانتشرت في أوروبا فى القرن ال13 بفضل الأندلس، خلال فترة تفاعل الحضارات الشرقيةوالغربية». وعلى رغم الصعاب التقنية التي ما زال يعانيها، ينكبّ فكرون على العمل، بل يبدو أكثر شغفاً بالإنتاج في هذه المرحلة الجديدة من تاريخ البلد الذي أحبّه ولم يستطع أن يكون الفنان الذي يريد أن يكونه في ربوعه. إلا أن هذا الوضع يتغير، وهو في صدد إنجاز أغنية تقول كلماتها: «بنغازي/ مهما عليك نتباعد/ كيف ننساك وانتي الأمل الواعد/ فى غربتي/ وين تخطري/ تسيل دمعتي/ وتبان صورتك/ وصورة أمي/ وحنين وشوق/ وحكاوي تاخذني/ لشوارعك القديمة/ لأيامك الحلوة/ لبيوتك وحواريك/ للضحكة السمحة/ من وسط القلب...».