إذا كان اعتراف مؤتمر أصدقاء سورية في دورته الثانية التي عقدت أخيراً في اسطنبول وشارك فيها ثلاث وثمانون دولة، بالمجلس الوطني السوري ممثلاً شرعياً للشعب السوري، يعدُّ خطوة في الاتجاه الصحيح نحو سحب الشرعية عن النظام الاستبدادي القمعي في سورية وممارسة المزيد من الضغط الدولي عليه، فإنه يطرح في الوقت نفسه، سؤالاً من الأهمية بمكان، حول صلة هذا الاعتراف بالعلاقات الديبلوماسية التي تربط عدداً من الدول المشاركة في ذلك المؤتمر حتى الآن، بالنظام السوري. أفلا يترتب على هذا الاعتراف قطعُ العلاقات مع النظام السوري، أو على الأقل تجميدها أو تعليقها أو خفضها إلى أدنى مستوى؟ وإلا فكيف يعقل أو يجوز أن تعترف الدول المشاركة في مؤتمر اسطنبول، بالمجلس الوطني السوري ممثلاً شرعياً للشعب السوري، مع بقاء سفارات بعض منها مفتوحة في دمشق؟ أفلا يقتضي الموقف الجديد الذي اتخذته هذه الدول، أن يتطابق مضمون القرار الذي وافقت عليه والتزمته في شأن الاعتراف بشرعية المجلس الوطني السوري وبتمثيله الشعب السوري، مع قرارها السيادي الذي يتعلق بالاعتراف بالنظام الحاكم الذي يقتل شعبه بوحشية بشعة وهمجية ضارية؟ لأن بقاء سفارات هذه الدول مفتوحة في دمشق، هو إقرار منها بالأمر الواقع وتأكيد اعترافها بالنظام. وهذا قرار سيادي على كل حال. ولكن احترام القانون الدولي والعمل بمقتضياته يعلوان على سيادة الدول طبقاً لأحكام ميثاق الأممالمتحدة. أم يا ترى قرار مؤتمر اسطنبول غير ملزم، مثله مثل البيان الرئاسي لمجلس الأمن بشأن الانتفاضة في سورية؟ إن بقاء سفارات بعض الدول التي شاركت في مؤتمر اسطنبول مفتوحة في دمشق، ينطوي على تناقض لا مبرر له. وإذا كانت السياسة تتطلب أحياناً الوقوع في التعارض في المواقف والتناقض في القرارات، نزولاً على الضرورات واستسلاماً للضغوط، ففي الحالة السورية التي بلغت درجة عالية من المأسوية، لا يجوز بأي حال من الأحوال، التصرف بما يتنافى والالتزام بالقوانين الدولية، وبمبادئ حقوق الإنسان، وبالقيم الأخلاقية والتعاليم الدينية التي تمنع التغاضي عن الجرائم التي ترتكب ضد الإنسانية، وعدم اتخاذ الموقف المناسب في الوقت المناسب إزاء من يرتكبون تلك الجرائم البشعة. وهو الأمر الذي يتطلب قدراً كبيراً من الشجاعة السياسية للخروج من هذا المأزق الذي توجد فيه الدول التي لا تزال تقيم علاقات ديبلوماسية عادية مع نظام دمشق الخارج عن القانون الدولي والمتحدّي للشرعية الدولية. إن قطع العلاقات مع النظام الطائفي الاستبدادي الجاثم على صدر الشعب السوري المنتفض على الطغاة المجرمين الذين يمعنون فيه عذاباً يومياً قتلاً وتعذيباً وتدميراً وتخريباً وتجويعاً وامتهاناً للكرامة، هو أقل ما يجب أن تقوم به دول العالم أجمع، لحصار الفئة المجرمة في دمشق في أضيق الدوائر، تمهيداً لتخليها عن الحكم والفرار بجلدها إذا استطاعت إلى ذلك سبيلاً. فلو سارعت الدول التي اجتمعت في مؤتمر أصدقاء سورية جميعاً، إلى إغلاق سفاراتها وسحب سفرائها وتعليق علاقاتها مع دمشق، لكان في ذلك التمهيد لإسقاط هذا النظام الطائفي القمعي الذي لا يزال يتحدى المجتمع الدولي، ويمتنع عن تنفيذ النقط الست في الخطة التي طرحها كوفي عنان مبعوث الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية. وقد بدا واضحاً حتى الآن أن هذا النظام لن يذعن للإرادة الدولية، ولن يرعوي عن غيّه، ولن يكف عن ممارسة القتل والتعذيب والتهجير في شكل يومي، ضارباً عرض الحائط بكل المبادئ الدولية والقيم الإنسانية والنداءات الموجهة إليه من دول العالم لوقف الحرب التي يشهرها ضد شعبه المطالب بالحريّة والكرامة والعدالة. وسيظل هذا النظام يراوغ ويحاول كسب الوقت مولغاً في دم شعبه، ما لم تتضافر جهود المجتمع الدولي في عمل مشترك تحت غطاء الأممالمتحدة لإسقاطه، حتى يقيم الشعب السوري الأسس القوية لدولته المدنية الديموقراطية التعددية التي تحتكم إلى القانون وتخضع لدستور توافقي تجتمع حوله كل مكونات الشعب السوري، لا فرق بين معتقداتها ومذاهبها وأعراقها. إن الضرورة تقتضي تفعيل البيان الصادر عن مؤتمر اسطنبول والعمل على تنفيذ بنوده على الأرض، مع مواصلة السير في اتجاه استصدار القرار المناسب من مجلس الأمن في ضوء التقرير الذي سيقدمه السيد كوفي عنان إليه عن مهمته في المنطقة. ولا شك في أن مبعوث الأممالمتحدة وجامعة الدول العربية قد وصل إلى الإقناع بأن النظام السوري يماطل ويراوغ ولا يلتزم بشيء، بل يتحدى المهمة التي أنيطت به ويتحدى المجتمع الدولي برمته. إن الشعب السوري في محنته، يتطلع اليوم إلى أن يُعقد الاجتماع الثالث لمؤتمر أصدقاء سورية، داخل التراب السوري وليس خارجه، بعد إسقاط النظام، حتى تكون لهذا المؤتمر الآثار القوية التي تساعد في بناء الدولة السورية الجديدة، على أنقاض النظام الطائفي الفاسد، وحتى يستأنف هذا الشعب دورة حضارية جديدة يربط بها الحاضر بالماضي ويستشرف المستقبل من خلالها، وحتى يكون مصير الطغاة المتجبرين في سورية رادعاً لأي طاغية يقمع شعبه، ولا يراعي حقوقه في الحياة الحرة الكريمة. والعرب والمسلمون وأحرار العالم أجمعون، يتطلعون إلى مبادرات عملية من أصدقاء سورية للوقوف إلى جانب الشعب السوري، منها دعم المجلس الوطني السوري ممثله الشرعي، وفتح ممرات آمنة لتقديم الإغاثة إلى المواطنين السوريين، ومنها أيضاً المبادرة إلى إغلاق السفارات العربية والإسلامية والغربية في دمشق فوراً ومن دون تردد. ولا يضير أبداً موقف إيران الطائفي ومن لفَّ لفها من أتباعها في المنطقة، ولا موقف روسيا والصين الانتهازي، ولا موقف إسرائيل المتواطئ مع هذا النظام سراً والمدافع عنه علانيةً، لأن دماء الشهداء وأنين الثكلى والأرامل وصيحات المعذبين في أقبية السجون والمعتقلات هي التي ستهزم، بعون الله، كل المجرمين بحق الشعب السوري الصامد، وسيبزغ فجر الحرية والخلاص قريباً، وإن غداً لناظره قريب. * أكاديمي سعودي