سارع أعضاء من هيئة كبار العلماء، لتبيان خطأ ما حدث من فتية الجنادرية، الذين وصفوا أنفسهم بالمحتسبين، كما أعلنت «هيئة الأمر بالمعروف» ألا علاقة لها بهؤلاء؟ فمن هو المسؤول عن هؤلاء؟ ومن كانوا يمثلون؟ فهؤلاء الفتية ما حملوا إلا شعار حماية الدين والعرض والأخلاق، وجاؤوا ليهدوا الغافلين، ولم يتوقعوا بعد حملتهم هذه إلا أن يصبحوا أبطالاً ويحمد صنيعهم، فلماذا صار فعلهم مذموماً تبرأت منه المؤسسات الدينية، وقبض على بعضهم؟ من الجيد أن ما حدث قد حدث في مهرجان الجنادرية، لأنه مهرجان يهتم بالتراث الشعبي، ولا يعرض إلا الحرف الشعبية، وفنون العمارة القديمة وتراث المناطق المختلفة، وموسيقاه تقوم على وقع الطبول والدفوف، كالعرضة النجدية والمزمار الحجازي والدحة الشمالية والخطوة الجنوبية. أقول من الجيد أن يحدث هذا في مهرجان الجنادرية هذه المرة، لأن الحملات الغوغائية التي سمت نفسها احتساباً، كانت تنجح في الأعوام الماضية في تشويش الرأي العام، بإشاعة المعلومات الخاطئة والمبالغات والتهويلات، فيتعاطف الناس معها، لكن هذه المرة كان هناك مليون شاهد. قبل انطلاق مهرجان التراث والثقافة في الجنادرية، تم حشد التهويلات ضده في المواقع الإلكترونية، فجعلوا منه مرتعاً للرقص والاختلاط على طريقة النوادي الليلية، وجعلوا من تصرفات عفوية فردية هزّها الطرب على إيقاع دف انحلالاً خلقياً لن يقومه إلا هجمة يسمعها كل من في المكان. فجاء 50 فتى يرشدون مليوني زائر وأكثر إلى أن أخلاقهم قد نزعت، وأن غيرتهم على أعراضهم قد بردت، ويُعلِّموا المجتمع المحافظ كيف تكون الحمية وحفظ الأعراض، يشككون في أخلاق المجتمع كله لصالح ضوابط شرعية لا يضعها سواهم ولا تستقيم أخلاق الناس دونهم. الشباب هو سن التطرف إن كان يميناً أو يساراً، وهؤلاء الفتية لم يخطئوا فكبيرهم الذي اتكأ خلف المنبر وصلى بهم، هو من قال لهم إن المسلمين الذين يخافون على دينهم لا يخرجون إلى الجنادرية، ويجب أن يمنعوا نساءهم من الخروج، وأن ما يحدث في الجنادرية هو من اللعب واللعب حرام. فصدقوه وجاؤوا يعبرون بحماسة المؤمن المخلص عما سمعوه، والطالب من هؤلاء لا يمر في المناهج الدراسية بتلك القصة التي حمل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم أم المؤمنين عائشة على كتفيه، كي تتفرج على رقص الأحباش، لكنه تعلم أنه لا يوجد غير موقف واحد من الموسيقا واللعب هو التحريم، فلماذا تستنكر عليهم أن تفور دماؤهم إذا ما سمع الواحد فيهم دفوف السامري أو إيقاعات الخطوة الجنوبية؟ لست ممن ينادي بتكميم الأفواه ومنع الناس من عرض رؤاهم مهما تشددت وغالت، لكني ضد أن تعمم هذه الرؤية فتصبح هي مناهج التعليم كلها والكتب المفسوحة وحدها، وتحتكر منابر المساجد فتؤثر في فكر البسطاء وتوهمهم أنها الرؤية الوحيدة للدين، ومن اختلف عنها خرج عن الدين أو انحرف. للناس الحق في أن تعبر عما تراه صحيحاً في الفضاء العام، لكن من حق الناس أيضاً أن يضبط هذا الفضاء بعدالة التعبير وتوازنه، وقوانين تمنع التمييز فيه والتكفير وتمنع حشد الكراهية والعداء. من حق الناس أن يمكنوا من التعرف على الاجتهادات المتعددة والرؤى الخلافية المغالي منها والمتسامح، وأن النبي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، وليختار كل ما يطيق وما يتطابق مع خلقه وسعته، أما أن يعطي الفكر المتشدد المنابر التي يحتشد فيها المصلون خمس مرات في اليوم، كي يصورا للناس أن كل محفل ثقافي مؤامرة على أخلاق الناس وعلى تقواهم فلا لوم على الشباب إن تحمس وما انتبه أن السياسة توازنات وأولويات. فتية الجنادرية هم ضحايا شيوخ الفكر المتشدد، الذين أرادوا أن يستعرضوا أمام الناس قوتهم، فجعلوا من فضاء الجنادرية مسرحاً لهم، لكن من سوء حظ هؤلاء الفتية أنهم فشلوا في تمرير مزاعمهم هذه المرة، وعليهم أن يحصروا نشاطهم في معارض الكتب فلا أحد يدافع عادة عن قراء الكتب. [email protected] badryahalbeshr@