ما إن تطالع عنوان المجموعة القصصية الجديدة للكاتب المصري مكاوي سعيد حتى تمسك مفتاح قراءة حكاياتها التي تقطر بالأوجاع والأحزان، وتتهادى على مهل، صانعة جواً مقبضاً، لا يمنعك من التعاطف مع تلك الشخصيات الموزعة على أعمار شتى. وتروق لك بساطة اللغة، ويعجبك بعض الصور الموصوفة أو المرسومة بعناية، والنهايات المفارقة التي تمنحك قدراً معقولاً من الدهشة. وإضافة إلى هذه الأمور المتعلقة بالشكل، فإن عنوان المجموعة ومضمونها ربما يتماشيان مع حال الأسى والحيرة التي سيطرت على المجتمع المصري في السنوات الأخيرة جراء محاولة إجهاض ثورة يناير وحرفها عن مسارها، وهي الأجواء التي أبدع فيها الكاتب مجموعته عبر سنتين من الكتابة. في «البهجة تحزم حقائبها» (دار نون) لا يكتب مكاوي سعيد عن عالم لا يعرفه، بل يلتقط ببراعة تفاصيل حياة عايشها وكابدها وتأملها بروية، وسحب شخوصها وطقوسها على الورق لينسج منها حكاياته. تشمل المجموعة إحدى عشرة قصة، أولاها أخذت عنوان «ثلاثة أشكال لأبي»، وفيها طفل ضعيف يواجه غشم أب متجبّر، ويتحايل على الإفلات من العقاب غير المستحقّ وترويض الخوف الذي ينتابه على الدوام. والقصة الثانية «أحياناً تعاودنا الدهشة» تسرد حكاية من تلك التي تجري في وسط القاهرة حيث شاب لا مهنة له سوى مراقبة أحوال غريبة قد يكون عليها المشاهير في مطاعم فخمة ليتلقط لهم صوراً ويضعها على صفحتيه على «فايسبوك»، و«تويتر»، وبالتالي يتحول إلى مصدر لتهديدهم، فيكرهونه ويتحاشونه، إلا أنهم لا يلبثوا أن يتعاطفوا معه في النهاية حين يخذله أصدقاؤه ولا يأتون للاحتفال معه بعيد ميلاده في المطعم، فيصبح ضحاياه جميعاً أصحابه. والقصة الثالثة «لم يحدث مطلقاً» تحكي عن شاب لديه جوع جارف إلى أن يعيش حالة حب مع فتاة في مثل سنه، فيكابد من أجل هذا ويتعثر ويواجه الخيبات المتلاحقة. والقصة الرابعة «المتحول» تحكي عن شخص مضطرب عقلياً يعتقد أن كائناً خرافياً هو الذي سرق لوحة «زهرة الخشخاش» من أحد متاحف القاهرة، وهي حكاية حقيقية شغلت مصر قبل ثورة يناير. وتحكي القصة الخامسة «الهابطون من السماء» عن صبي صغير يتسبب من دون قصد في وفاة طفل آخر، فيحلّ الجفاء بين أسرتين جارتين وتظل أصابع الاتهام تتجه إليه رغم براءته، فيتباعد أصدقاؤه عنه وكذلك زملاؤه في المدرسة لتشاؤمهم منه. والقصة السادسة «لا أحد يقدر على قهرها» عن فنانة تشكيلية بوهيمية تسعى إلى التحقق وتخشى من رفض المجتمع للصورة العارية التي ترسمها ولا تجد نفسها إلا حين تطلب منها أم شهيد أن تعيد رسم صورة ابنها على جدار في «شارع محمد محمود» الذي ارتبط بحركة الغرافيتي النابتة من رحم ثورة يناير. أما القصة السابعة التي تأخذ عنوان المجموعة «البهجة تحزم حقائبها» فتتحدث عن طفلين متحابين جمعتهما المدرسة وفرقتهما فتاة، إذ إن الانطوائي الثري ظفر في النهاية بحبيبة البسيط، فسافر معها إلى أميركا وترك للآخر الألم والوحدة. والثامنة التي أخذت عنوان بطلتها «صابرين» فتتحدث عن واحدة من بنات الشوارع وجدت نفسها في ميدان التحرير وعلى أطرافه وقت الموجة الأولى للثورة، فمارست حضورها الإنساني وسط أبناء الطبقتين الوسطى والعليا في لحظة تحقّق لم تخطر لها على بال. والقصة التاسعة وهي أكثر القصص تكثيفاً وشاعرية ونزعة للتفلسف عنوانها «الزيارة»، تحكي كيف يرى وليد للتو الدنيا التي حوله وتلك التي عاشها في شهر فقط قبل أن يغادر إلى السكون الأبدي، ساخراً من الأحياء. والعاشرة «آخر لياليّ الصيفية» عن قصة حب عابرة بين طفل وممرضة. والأخيرة عنوانها «لم تترك خلفه وروداً» تحكي عن مراهقين ترابطا بقوة، فأحدهما يسرّي عن الآخر قصص حبه الفاشلة، والثاني يقف إلى جانب صاحبه في موت أبيه، وينتهي الأمر بموت العاشق الذي يروق له دوماً اصطياد الفتيات المفجوعات في الحب من على كورنيش النيل. يغلب على هذه القصص الحس الإنساني للراوي، الذي يبدو في معظمها «بطلاً إشكالياً» يحكي بضمير الغائب، كراوٍ عليم، وأحياناً بضمير «الأنا»، من دون أن يفقد في الأحوال كافة هذه السمة. فهو يدخلنا دوماً في قصص فرعية لتتوالد الحكايات، ما يفقد بعض القصص التكثيف المطلوب أو البؤرة المركزية التي تدور حولها الحكاية، ويجعل مقتضيات الرواية تسيطر بعضها على بعض. ومنها بالفعل قصص كان من الممكن أن تمتد إلى روايات كاملة، وأخرى كان من الممكن أن تكون بورتريهات لشخصيات من الحياة، وهي طريقة اعتادها الكاتب في عملَيه «مقتنيات وسط البلد»، و«أحوال العباد». وعلى تميّزها لا تبدو هذه المجموعة، وهي السادسة في مسيرة كاتبها، سواء في شكلها أو مضمونها، مختلفة عن كثير من أعماله، فهي إن كانت تضيف رصيداً جديداً من الشخصيات إلى العالم الواقعي الذي يستلهم منه قصصه، وترسم جزءاً من الجدارية التي يصنعها على مهل لحياة وسط القاهرة في ربع قرن على الأقل، بشخوصها وأماكنها وتفاعلاتها البشرية، فإنها لا تحمل أي مغايرة تجعلنا نقول إن الكاتب يجرب أشكالاً جديدة أو يبتكر أسلوباً آخر عن ذلك الذي انتهجه في أعماله السابقة، بخاصة روايته البديعة «تغريدة البجعة».