عندما شاهد أهل «كان» «ماندرلاي» وخرجوا، كالعادة منقسمين حياله، كان السؤال الذي راودهم هو: ماذا بعد؟ ما الذي سيقوله لارس فون تراير في الجزء الثالث من هذه الثلاثية الموعودة؟ ولكن قبل أن يفكروا بالجواب جاءهم تصريح من هذا المخرج الدانمركي الاستفزازي يقول انه قرر – ولأسباب غامضة – ان يصرف النظر في الوقت الحاضر عن إنجاز ثالث أجزاء الثلاثية. اثر ذاك سرى الهمس بأن المخرج يفضل أولاً أن ينجز مشروعاً كان يشغل باله منذ سنوات طويلة ويؤجله دائماً. وأكد الهمس ان المشروع يحمل عنوان «عدو المسيح» انما دون أن يعرف أحد من هو عدو المسيح هذا وماذا يفعل ولماذا يستحق من لارس فون تراير فيلماً. كان ذلك في عام 2005. والحقيقة أن «عدو المسيح» اضطر للانتظار أربعة أعوام أخرى قبل أن يتحقق، ويعرض في «كان» عام 2009، ليهاجمه كثر، ويمدحه كثر أيضاً ويصبح «حدث المهرجان» بالمعنيين السلبي والإيجابي. وإذا كان هذا الانقسام الحاد في النظر الى فيلم من أفلام فون تراير عندما يعرض للمرة الأولى، قد أصبح عادة منذ سنوات طويلة، فإنه هنا تجاوز حدود المعقول الى درجة أن كثراً من مناوئي الفيلم قالوا ان صاحبه قد انتهى هذه المرة فعلاً. وانه لن تقوم له قائمة بعد الآن، إن لم يبادر الى إعادة تقويم إنتاج سنواته الأخيرة، أو ربما استعادة مشروعه المتعلق بإنجاز آخر أجزاء ثلاثية «الولاياتالمتحدة الأميركية». وهم استدلوا على هذا الحكم من خلال السقوط الكبير الذي كان من نصيب مشروعين أقدم عليهما فون تراير قبل «ما تدرلاي» ثم بينه وبين «عدو المسيح»، ولا سيما من خلال ثانيهما. فإذا كان بعض النقاد الأكثر نزوعاً الى قبول الأعمال التجريبية قد استساغوا فيلمه المجزأ الى فقرات («خمس انسدادات») والذي كان عمل عليه على شكل نزوة تكريمية لم تعرض إلا تجريبياً، فإن فيلمه التالي ل «ماندرلاي»: «رئيسهم جمياً» والذي حققه دانمركياً خالصاً، لم يعجب أحداً. ليس لأنه فيلم فاشل ولا يستحق المشاهدة، بل لأن أحداً ما كان في إمكانه أن يؤكد انه حقاً فيلم للارس فون تراير. فهذا الموضوع البيرقراطي الكوميدي الذي يدور حول مدير مؤسسة جبان اختار أن يحضر تحت اسم مستعار كي يتمكن من التلاعب بموظفيه ومستقبلهم المهني، فاختار ممثلاً كي يمثل دوره في المكتب حين تدنو ساعة التصفية، هذا الموضوع لا يمت بصلة الى سينما فون تراير. ومع هذا ثمة في الأسلوب، لا في الموضوع، نوع من الإشارة الى عودة ما، يمارسها فون تراير في هذا الفيلم الى أسلوب «دوغما 95» الذي كان قد ابتعد عنه كثيراً. بل أكثر من هذا: بدا الفيلم كله وكأنه تجربة يقوم بها فون تراير، للتجديد في عالم السينما، تجربة تقوم على محاولة تقليص أهمية الإنسان في التصوير لصالح بعد آلي تقوم فيه الآلة (الكاميرا هنا) بالهيمنة على العمل ككل... ولا سيما في مجال تحديد الكاميرا نفسها للأمكنة التي يتحرك فيها الممثلون داخل الديكور، الذي بني أصلاً تبعاً لمواصفات تم التوصل اليها من خلال الكومبيوتر. وهذا ما جعل المشاهد تبدو مرتجلة وكأن الكاميرا تصور أحداثاً حقيقية تجري أمامها، دون أن يكون للمخرج يد في تحديدها. استفزاز وتجريب إذاً، في هذا السياق على الأقل، بدا فون تراير أميناً لاستفزازيته وتجريبيته. بل حتى انتقائيته. طبعاً استقبل نقاد أدركوا هذا البعد في الفيلم، عمل لارس فون تراير الجديد هذا عام 2007، بترحاب، ولكن فقط انطلاقاً أولاً من تجريبيته المحمودة، وثانياً من عودة المخرج الى الالتقاء مع تيار كان هو أحد كبار مبتدعيه. لكنهم كذلك استقبلوه كخطوة ستقود الى عمل تال للمخرج، يعيده – موضوعياً وأسلوبياً معاً هذه المرة – الى ابتكاراته السابقة. ومن هنا، حين أعلن فور عرض «المدير» أن لارس في صدد تحقيق مشروعه القديم عن «عدو المسيح» توقع الجميع أن تكون العودة كبيرة. ولكن حين عرض الفيلم في «كان»، بدا على الجميع أول الأمر وكأنهم فوجئوا سلباً. وبعد قليل بدا للبعض أن ثمة في الأمر سوء تفاهم، بل حتى سوء فهم واضح. ذلك أن ما ظهر في الفيلم لدى المشاهدة الأولى لم يكن أكثر من سطح أحداثه. أما عمقه الفلسفي المرتبط بمفاهيم تعود الى القرون الوسطى، فإنه تأخر بعض الشيء في الوصول الى البعض... لكنه لم يصل أبداً – بل بدا مغلقاً تماماً – بالنسبة الى البعض الآخر. والحال أننا، عند كتابة هذه السطور ولم يمض على عرض الفيلم أكثر من أسابيع، لا زلنا عاجزين عن معرفة ما الذي ستكون عليه النظرة الى هذا الفيلم بعد حين، وإذ يكون فون تراير قد انكبّ على تحقيق فيلم تال له. القلق... القلق في انتظار ذلك، يمكن ان نقول من دون مجازفة، أن «عدو المسيح» يحمل حقاً، وفي عمقه، بصمات لارس فون تراير، بل قد يكون الفيلم الأكثر تعبيراً عنه من نواح عدة. ذلك ان استعراض مسيرة سينما فون تراير، منذ بداياتها حتى اليوم، وتفحّص المواضيع التي تطرق اليها والالتباسات التي تحفل بها هذه المواضيع، هذا الاستعراض، يقول لنا ان هذه السينما، من خلال بعدها الاستفزازي، والقلبات الراديكالية التي تحدث في منتصف كل فيلم، تقريباً (قلبة في الأحداث أو في سيكولوجية الشخصيات، أو حتى في البعد الإيديولوجي للفيلم)، تبدو سينما قلقة مفتقرة الى أي يقين، كما هي الحياة نفسها... كما هي حياة الإنسان نفسه. حيث، ومهما كانت غرابة الموضوع، أو استفزازيته، ومهما كانت تجريبية اللغة السينمائية في أي فيلم من أفلام لارس فون تراير، من «عنصر الجريمة» الى «عدو المسيح»، يبقى لهذه السينما – على تنوعها وانتقائيتها – غرابة الحياة نفسها وقلقها. ولعل هذا القلق هو الشيء الذي أراد فون تراير – حتى الآن على الأقل – أن يعبّر عنه أكثر من أي شيء آخر. وفي يقيننا أنه تمكن دائماً من إيصاله الى متفرجيه – وأحياناً على رغم منهم – سواء أحقق أفلاماً بوليسية أو وجودية أو سياسية أو ميتافيزيقية. وسواء أجعل أحداث أفلامه تدور في القاهرة أم الدانمرك أم الولاياتالمتحدة أم غيرها. وغالباً في أماكن لم يزرها أبداً. وسواء أجعل منها أفلاماً بسيطة كوميدية، أم أفلاماً مغرقة في تراجيدياتها. في كل هذه الحالات ثمة شيء واحد يعرفه لارس فون تراير، وهو أن كل فيلم من أفلامه، ومهما كان شأنه أو قيمته، ومهما كان من شأن قبول الآخرين به، أو رفضهم إياه، انما هو محاولة متجددة لاعادة اختراع فن السينما.