مائتا سنة على ولادة الروائي البريطاني شارلز ديكنز، زمن كاف وسبب قوي للاحتفاء به طوال هذا العام، هو الذي يقول الإنكليز عنه إن منافسه الوحيد على لقب «أديب الأمة المفضل» شكسبير نفسه فقط. لا عجب في هذا الرأي فالدراسات والكتب ومواقع المدونين تضاعفت إلى حد أن لا أحد قادر على قراءتها ومتابعتها كلها. ليس هذا فقط فبين حين وآخر يفاجئنا باحث بكتاب جديد ينبش في جانب من سيرة حياته، وكأن الرجل عاش حيوات لا حياة واحدة. هذه الشهرة الواسعة للروائي البريطاني ليست بظاهرة حديثة، فقد حقق شهرة مفاجئة وهو في سن الرابعة والعشرين عندما أصدر روايته الأولى «أوراق بكويك»، وراحت شهرته تتسع مع كل رواية جديدة ينشرها حتى باتت مدينة لندن تعرف من خلال كتبه وكما نقلها في أعماله، لندن باتت تشبه ما يكتبه عنها وليس العكس. المؤرخ الأميركي فرانسيس باركمان زار المدينة عام 1843 وكتب، «يهيأ لي أنني زرت هذا المكان من قبل، عربات حي هاكني، الإعلانات السيارة، ومئات التفاصيل التي يبدو أن شخصيات ديكنز قد تقمصتها». يقول روبرت فيرهيرست مؤلف السيرة الذاتية الجديدة المعنونة ب «أن تكون شارلز ديكنز» التي صدرت نهاية العام المنصرم، إنه استقصى في بحثه عن كيفية تحول هذا الرجل الذي كان مراسلاً صحافياً مغموراً إلى أشهر روائي في العالم خلال خمس سنوات. وفي كتاب آخر بعنوان «شارلز ديكنز: سيرة حياة»، تذكرنا الكاتبة كلير تومالين بأنه فقد والده إلى السجن في وقت مبكر بسبب تراكم الديون عليه، فاضطر شارلز وهو الصبي ابن الثانية عشرة لأن يشتغل في مصنع مع عمال وصبيان من خلفية شديدة الرثاثة، الأمر الذي ترك ندبة على روحه بقيت معه طويلاً وأثرت في علاقته بأمه، لأنها تدخلت لإرجاعه إلى المصنع بعد أن تشاجر والده في أعقاب خروجه من السجن مع المسؤولين عن المصنع بسبب الابن. وانعكست تلك التجربة في شكل واضح أيضاً على موضوعات رواياته التي تناولت حياة الأطفال المشردين واستغلالهم في العمالة بأبخس الأثمان وفي ظروف صحية واجتماعية سيئة. ومن أهم الروايات التي توثق لتجربته في العمل في المصنع رواية «ديفيد كوبرفيلد». عاد شارلز لفترة قصيرة إلى المدرسة وتركها مرة أخرى في سن الخامسة عشرة. عمل موظفاً مستخدماً ثم صحافياً، وعندما دعي إلى كتابة رواية لم يتردد وبدأ ينشر رواية «أوراق بكويك» مسلسلة وقد لاقت قراءة واسعة. وكانت الصحف لا تزال تكتب عنها عندما صدرت روايته الثانية «أوليفر تويست» وتلتها رواية «نيكولاس نيكلبي». إضافة إلى الكتابة الروائية كان يشرف على تحرير مجلة وبقيت هي مهنته طوال عمره. كذلك كان يعمل في النشاط الخيري ويجمع التبرعات لمصلحة أصدقائه والأطفال الفقراء أو اليتامى ليبقى بعد ذلك لسنوات في صورة الأب الراعي. إلا أنه في مقابل هذا النجاح كانت لديه كثير من المشاكل مع عائلته. وتكشف السير الذاتية التي نشرت عنه أنه كان دائم الاستياء من زوجته لأنها لا تكف عن الحمل (11 طفلا في 15 سنة)! كان يستاء أيضاً من أبنائه لأنهم حظوا بحياة الطبقة المتوسطة التي لم يحظَ هو بها. وقد كتب مرة لشقيقه يشكو من ابنه الذي بات يثقل عليه بسبب ديونه: «بدأت فعلياً أتمنى لو أنه يموت». وعندما وقع في حب فتاة بعمر أولاده لم يكتف بأن ينفصل عن زوجته لأكثر من عقدين من الزمن بهدوء، بل راح يحكي عن سلبياتها كأنه يريد أن يقنع نفسه قبل العالم بعلاقته بالمرأة الأخرى. الباحثة تومالين تذكرنا بأنه على رغم علاقته المتوترة مع عائلته فإنه بقي رجلاً دافئاً رقيق القلب جذاباً، لا يتردد في تحمل الأعباء من أجل الآخرين حتى أولئك الذين قد لا يراهم ثانية. ومن بين الحكايات التي تروى عنه، أنه بعد أن اشترك مرة في هيئة محلفين بقضية حكم فيها على المتهم بالسجن، راح يتابع بنفسه حصول المتهم على ما يكفي من طعام وحاجيات. ويروى أيضاً عن بعض معارفه كيف بدا مرة متوتراً لأن ابنته علمته رقصة البولكا كي يرقصها في عيد ميلادها لكنه نسيها، فقضى الليلة السابقة على الحفل يتدرب عليها حتى وقت متأخر. لقد نجح ديكنز في أن يرتبط بقارئه بطريقة لم يسبقه إليها أحد آخر وقلة بعده نجحوا في هذا الأمر. إلا أنه بقي على رغم ذلك لغزاً محيراً ولا تزال تصدر عنه السير الذاتية وكل منها ينبش في زاوية من حياته كأننا نتابع أشخاصاً وليس شخصاً واحداً. من ذلك أن بريطانيا تحتفل بهذا الكاتب الذي ولد في 7 شباط (فبراير) 1812 وتوفي في 9 حزيران (يونيو) 1870 عن 58 عاماً، وهو عمر يفاجئ المتابع بسبب ضخامة حجم حضوره في الحياة الواقعية لكأن الرجل عاش قرناً من الزمن ومن النتاج الأدبي والصحافي. الاحتفال سيكون مكثفاً ومستمراً طوال العام الحالي ولن يفلت من متابعة جانب منه أي شخص في بريطانيا. فمرور مئتي سنة على ولادته وأكثر من مئة وأربعين سنة على رحيله لم تمته في أذهان الناس، والعالم لم يكف عن تحويل أعماله إلى مسرح وسينما ودراما تلفزيونية وإعادة طباعة كتبه التي لا تختفي من محلات بيع الكتب أبداً، ولا تكف عن أن تفتح شهية، ليس البريطانيين فقط، بل العالم أيضاً على إعادة قراءته واستلهامه عاماً بعد عام. إن تاريخ هذا الأديب كأنه لن يكتب بصورة نهائية لما يتم نبشه طوال الوقت من سير حياته، ويذكرنا روبرت فيرهيرست بأن حياة ديكنز كانت تعج بالتفاصيل غير التقليدية من اسمه الذي هُجِّئ خطأ في شهادة ميلاده إلى الرسائل التي كان يتركها لأبنائه إذا ضبطهم يستخدمون لغة سيئة. أما شهرته التي عاصرها فلم يحظَ بها أي كاتب في سنوات حياته، كان الشخصية الأشهر في لندن يراه الناس يتجول في أحيائها وشوراعها يستلهم الأحداث والشخصيات. كأنما كان الأديب المنتظر منذ سنوات طويلة ووصل إلى أمته في الوقت المناسب. عندما قرأت الملكة فيكتوريا رواية «أوليفر تويست» أعجبت بها وطلبت من رئيس وزارئها لورد ملبورن أن يقرأها هو أيضاً. وتذكر كتب السيرة بأن القراء الذين كانوا يتابعون رواية «دكان الفضول العتيق» مسلسلة في إحدى الصحف، كتبوا له مئات الرسائل يرجونه فيها ألا يقتل «ليتل نيل» أحد شخصيات الرواية. لقد كان على تماس مع قرائه من أعلى المستويات حتى أقلها. إلا أن للعلاقة هذه حدوداً نقف عندها، إذ حاول ألا يكشف عن جوانب من شخصيته أو تفاصيل حياته التي بقيت سراً، لذا، حاول الباحثون لعشرات السنين الكشف عنها في الدراسات المختلفة، من مثل علاقته بزوجته وعائلته والكشف عن مزيد من التفاصيل عن فترة طفولته إلخ... مفككين في الوقت نفسه الصورة المثالية عن هذا الكاتب، بدءاً من التشكيك بصورة «الجنتلمان» إلى هيئته التي تبين أنها كانت تميل إلى القصر وليس كما توحي الرسوم. وهو طلب في الوصية التي فتحت بعد وفاته ونشرت في مقالة صحافية ترثيه وتناقلها الناس عبر البرقيات آنذاك، أوصى أن لا يكون موضوعاً لأي احتفالية، لا نصباً تذكارياً ولا أي استغلال لاسمه في مبنى معين أو تجمع ما، ولا كتب عنه، إلخ. البريطانيون تجاهلوا الوصية طبعاً طوال السنوات الماضية، وهاهم أعدوا برنامجاً غنياً للاحتفال بمئويتي ولادته، فإضافة إلى الكتب المتعددة التي من بينها كتاب يبحث في علاقته بالمسرح، هناك وثائقيات ستعرض في القنوات التلفزيونية إضافة إلى دراما مستمدة من أعماله على شكل حلقات لقناة بي بي سي أنفق عليها بسخاء، الأولى عن روايته «آمال كبيرة» والثانية عن رواية «الحياة الغامضة لأدوين درود». وهناك فيلم سينمائي يبحث في علاقته السرية الطويلة بالممثلة إيلين ترنان. على ذلك ستكون صورته في كل مكان في بريطانيا ولن يفلت منها مقيم ولا زائر، بسبب تعدد الفاعليات والمطبوعات بهذه المناسبة الخاصة بمن هو المنافس الوحيد لشكسبير على لقب «أديب الأمة المفضل».