تجدد الجدل خلال الاسابيع المنصرمة حول عروبة لبنان واتسع نطاقه اذ اشتركت فيه مراجع دينية ومراجع زمنية، ودخل الجدل ساحة الصراع الانتخابي والتنافس النيابي وتكوين الكتل البرلمانية وتشكيل الحكومة المقبلة، كما تخلل مناقشات فكرية وسجالات صحافية ومبارزات تلفزيونية. هل يعني ذلك ان فكرة العروبة التي تراجعت تراجعا كبيرا في لبنان وفي المنطقة العربية استعادت حيويتها وتأثيرها على الرأي العام اللبناني؟ هل يعني ذلك ان لبنان واللبنانيين يقفون امام خيارات رئيسية مستمدة من الفكرة العربية وانهم مطالبون باتخاذ مواقف منها؟ المساحة التي احتلتها التصريحات المتنوعة حول عروبة لبنان في الإعلام المرئي والمكتوب والمسموع توحي بأن هذه الفكرة قد عادت، بالفعل، لكي تحتل حيزاً مهماً من اهتمامات النخب السياسية والمواطنين في لبنان. وحيث ان لبنان لعب دورا مهماً في نشر هذه الفكرة في المنطقة العربية، ولأن بينه وبين المنطقة علاقة تفاعل حميمة، فان الاهتمام اللبناني بها يوحي بأن هذه الفكرة استعادت بعض ألقها في البلدان العربية عموما. بيد ان من يتابع الجدل حول هذه المسألة والمواقف الذي برزت تجاهها بشيء من التأني، يصل الى استنتاج مغاير. فهذه الفكرة التي كانت تشكل بمخزونها المعرفي والقيمي اساسا لتحديد مواقف وسياسات القيادات السياسية والدول العربية، باتت تستخدم بصورة انتقائية ولأغراض ظرفية وعلى نحو يتعارض مع اهدافها الاساسية. اثيرت مسألة عروبة لبنان قبيل الانتخابات اللبنانية في معرض التحذير من التحدي الايراني. وتساوت هذه التحذيرات مع مخاوف ترددت في اكثر من بلد عربي حيال هذه الظاهرة مما اضفى على التحذير صدقية وأحاطه بالاهتمام. ولقد انطوى هذا التحذير على بعض المبررات. ذلك ان ايران هي اليوم، حقا، قوة اقليمية صاعدة. نمو القوة الايرانية لا يعبر، في الاساس، عن «سوء نية» ايرانية تجاه الغير وتجاه الجيران. كفى الايرانيين ان يحبوا بلادهم وان يسعوا الى استثمار ثرواتها الطبيعية والبشرية حتى يصبحوا قوة ذات شأن في المنطقة. وكفى حكام ايران ان يتطلعوا الى تعزيز قوة بلدهم حتى تصير لهم مكانة دولية. في سعيهم من اجل تنمية بلدهم وتعزيز مكانتها فللإيرانيين ان يختاروا واحدا من طريقين: طريق يمر عبر بسط نفوذ ايران على الدول العربية المجاورة، والطريق الثاني يمر عبر التعاون مع هذه الدول. الطريق الاول قد يقتضي العمل على إضعاف هذه الدول حتى تصبح مكشوفة امام التدخل الخارجي والايراني تحديدا. الطريق الثاني يتطلب احترام ايران والدول العربية معاً مبادئ حسن الجوار والمصالح المشتركة والقرابة الثقافية والدينية التي تجمع بين العرب والايرانيين. ما هو العامل أو العوامل التي تجعل طهران تجنح الى هذا الطريق او ذاك؟ في تاريخ العلاقة بين الطرفين لعب العامل الجيو - استراتيجي، الى جانب عوامل اخرى، دورا مهما في تحديد السياسة التي اتبعتها طهران تجاه جيرانها العرب. عندما كان العرب يحافظون على شيء من التعاون والتفاهم في ما بينهم، وعندما كانت القاهرة او بغداد او محور مصر - السعودية - سورية تشكل عصب الاجماع العربي، لم يكن للصعود الايراني طعم التحدي الذي يثير المخاوف في المنطقة العربية. الصعود الايراني اليوم بات امرا يثير القلق عربيا. وهذه المخاوف تتصل اتصالا وثيقا بالتدهور المحزن الذي يعاني منه النظام الاقليمي العربي وبتبدل في موازين القوى بين العرب والايرانيين، ففيما تعزز ايران قوتها ومكانتها الاقليمية تصل المنطقة العربية الى ذروة تفككها. فمن هو المسؤول عن هذا الوضع؟ وكيف يمكن تصحيحه؟ وهل يساهم شعار «بلدي اولاً» الذي تعتنقه اطراف عربية ومنها تكتل "لبنان اولاً"، في تصحيح الاوضاع العربية والاقليمية؟ تتحمل الاطراف الدولية والاقليمية والمحلية المعادية لفكرة العروبة الدور الاكبر في إضعاف النظام الاقليمي العربي، وإنهاك الدول الرئيسية فيه. من بين هؤلاء يجد المرء بعض الفاعلين في ايران وخاصة بين انصار الحكم الامبراطوري السابق. ولكن هؤلاء مهما بلغت سلبيتهم تجاه العرب فإنهم لا يحتلون مرتبة عالية بين الذين ناصبوا العروبة العداء، وحاربوها بكل وسيلة فكرية وسياسية واقتصادية وعسكرية مثل الحركة الصهيونية وادارة جورج بوش-ديك تشيني. تصحيح هذا الوضع يقتضي حماية الفكرة العربية ومؤسساتها ومشاريعها من العدوان المستمر الذي تشنه قوى الآرابوفوبيا عليها. هذه القوى موجودة في اسرائيل والبيئة الاطلسية قبل اي بلد آخر. فضلا عن ذلك فان اعادة الاعتبار الى الفكرة العربية يتطلب تنزيهها مما علق بها من نزعات استبدادية وقهرية، وتأكيد طابعها الديموقراطي والاصلاحي الذي رافق ولادتها في بداية القرن العشرين. كذلك يقتضي تصحيح هذا الوضع بناء كتلة اقليمية عربية متماسكة تلتزم بالمبادئ الكونفيدرالية. وكما هو معلوم ومعروف في علم السياسة فإن الانخراط في أية منظومة دولية او اقليمية يتطلب التضحية بشيء من المصالح والتخلي عن قسط من السيادة الوطنية من قبل سائر الاطراف التي تنضم الى هذه المنظومة لقاء المكاسب البعيدة المدى التي تعود على كل طرف من هذه الاطراف. بهذا المعنى يصبح تأسيس مثل هذه المنظومات والتكتلات بمثابة استثمار طويل الامد، وضمان لمستقبل البلاد وأمنها واستقرارها. لو قال حكام اندونيسيا والفيليبين وماليزيا وسنغافورة وتايلاند عام 1967 «بلدنا اولاً» لما قامت رابطة دول جنوب شرق آسيا (آسيان) ولما تمكنت من الاضطلاع بدور مهم في احتواء النزاعات في جنوب شرق آسيا. ولو قال حكام الارجنتين والبرازيل «بلدنا اولاً» عام 1991 لما قامت سوق اميركا الجنوبية المشتركة (ميركوسور)، ولما حولت علاقة التناحر بين البلدين الى علاقة تعاون اقليمي وثيق وتنسيق على كل صعيد. لو قال الجنرال ديغول «فرنسا اولاً» فحسب ولم يقرن تعلقه الصريح بمجد فرنسا وسيادتها بالحرص على التعاون مع الجيران الاوروبيين وببناء «اوروبا موحدة من الاطلسي الى الاورال»، لما قامت السوق الاوروبية المشتركة. فهل لشعار «بلدي اولاً» او «لبنان اولاً» الذي اعتمدته الكتلة النيابية الاكبر في لبنان معنى مختلف؟ نعم، يقول المساهمون في تكتل «لبنان اولاً» والمتعاطفون معه. اولوية لبنان لا تنفي دوره الاقليمي، فلبنان هو، كما يقول زعيم «القوات اللبنانية» سمير جعجع، هو جزء اساسي من المحيط العربي، ومن ثم فانه لا يكون ضده اذا اعطى الاولوية لمصالح شعبه كما هو الامر في الدول العربية الاخرى. وشعار «لبنان اولاً» هو من باب التأكيد على أن مصالح الدولة اللبنانية هي فوق مصالح الدول الاخرى «كائنة ما كانت»، كما اوضح النائب احمد فتفت. ان هذه التوضيحات لا تقلل من قيمة ووجاهة الانتقادات التي وجهها النائب وليد جنبلاط، زعيم الحزب التقدمي الاشتراكي الى شعار «لبنان اولاً» كأسم لاكبر تكتل نيابي لبناني، عندما حذّر من الظلال السلبية التي تعلق بهذا الشعار ومن تناقضه مع الفكرة العربية. ان اللبنانيين هم حقاً جزء من المحيط العربي، ولكنهم ليسوا كلهم مؤيدين للفكرة العربية، كما جاء في تعقيب لرئيس الحكومة السابق سليم الحص على جدل لبنان والعروبة. بعض اللبنانيين كانوا مؤيدين لهذه الفكرة، وقد عبّروا عن هذا الموقف خلال المراحل الأولى لتأسيس النظام الاقليم العربي. ولكن البعض الآخر كان ضدها فعمل بحمية على ان يستأثر بتمثيل لبنان في المراحل اللاحقة واضطلع بدور رئيسي في تكبيل النظام الاقليمي الوليد بالقيود الثقيلة وحرمانه من الفاعلية. كان اصحاب هذا الموقف جزءا من المحيط العربي مثلما كانت مارغريت ثاتشر، رئيسة حكومة بريطانيا السابقة والثاتشريون، «في قلب اوروبا». كانوا في قلب القارة ليس بقصد تحقيق التكامل بين دولها ولكن للحيلولة دون اكتمال المشروع الاوروبي وتطوره. اما التأكيد على اولوية الدولة اللبنانية فانه مطلوب في كل لحظة في مقابل العصبيات الطائفية والمذهبية الجامحة التي استولت على العقول، وفي مواجهة سائر الدول التي تنال من السيادة اللبنانية. ولكن هذا التأكيد لا يدلنا على موقع لبنان من الدعوة العربية، ولا على موقف كتلة «لبنان اولاً» تجاه مشاريع التعاون العربي، ولا على المبادرات التي سوف يتخذها هذا التكتل النيابي من اجل تحريك هذه المشاريع وانقاذ المؤسسات الاقليمية العربية من الحال البائس الذي تعاني منه. الشعار الذي اعتمدته اكبر كتلة نيابية في لبنان يكرس هذه الحال ويؤكدها. * كاتب لبناني