قال السيد وليد المعلم، وزير الخارجية السوري، قبل أيّام: «الحل الأمني مطلب جماهيري»؛ وهو قول صحيح لا غبار عليه، بشرط أن نفهم ما الجماهير، وكيف تحدد مطالبها، وكيف تعبر عنها... لقد وضعت الثورة الوطنية الديموقراطية، السلمية، حداً فاصلاً بين الشعب و «الجماهير»، كان لا بد من أن يوضع منذ وقت طويل. «الحل الأمني مطلب الجماهير»؛ أما مطلب الشعب السوري فقد بات واضحاً جلياً، لا لبس فيه ولا غموض ولا تردد: إسقاط هذه السلطة الغاشمة، وتغيير النظام الشمولي، ومحاكمة المجرمين والفاسدين، من قمة هرم السلطة إلى قاعدته، وما يترتب على ذلك من إجراءات دستورية وقانونية وتنظيمية وإدارية وتربوية وثقافية وسياسات داخلية وخارجية. مفهوم الجماهير أحد المفاهيم المفتاحية لمعرفة طبيعة السلطة السورية وبنيتها وتحليل خطابها. الجماهير بالتعريف مصطلح شمولي يدل على جموع غير منسوجة من أفراد لا يجمعهم سوى الامتثال والخوف، ألغى القمع الشخصية القانونية لكل منهم، بإلغاء مبدأ المواطنة، أي تساوي المواطنات والمواطنين في الحقوق المدنية والسياسية، ثم ألغى شخصيته أو شخصيتها الإنسانية، فحوّل الأكثر موالاة والأكثر خوفاً إلى فاسدين ووشاة ومخبرين تافهين، وحوّل المجرمين منهم إلى «شبيحة» يقتلون ويدمرون وينهبون بدم بارد، وأشاع لدى البقية الباقية روح العزوف واللامبالاة. مصطلح الجماهير يدل إذاً على نسق فكري وسياسي وأخلاقي هو النسق التسلطي أو نسق الاستبداد المحدث. الثورة السورية في أحد أهم وجوهها خروج من الجماهيرية ومن «عصر الجماهير». الظاهرة الجماهيرية من أبرز العلامات الفارقة، التي تميِّز الأنظمة الشمولية أو التسلطية، أو أنظمة الاستبداد المحدث. فالجماهير التي تحدث عنها السيد المعلم، لا تُعرّف بذاتها، لأن لا ذات لها، ولا بإرادتها، لأن لا إرادة لها، ولا بمطالبها، لأن لا مطالب لها، بل تُعرَّف بالسلطة الشمولية التي تحركها بالترهيب والترغيب، وبأيديولوجية هذه السلطة وقيمها وأخلاقها. وتُعرَّف بتبعيتها وسديميتها وقطيعيتها. الظاهرة الجماهيرية هي التجسيد العياني لمبدأ الخوف، الذي لا يقوم الاستبداد إلا به وعليه. «القيادة الحكيمة»، التي تحوز الرهبة والقداسة، هي «ذات» الجماهير المستلبة، و «إرادة الجماهير»، التي لا إرادة لها، وهي «المعبرة عن مطالبها وآمالها وطموحاتها»، ولا مطالب لها ولا آمال ولا طموحات. «القيادة الحكيمة» هي الذات التي تريد وتفكر وتدبر وتحكم وتتحكم وتهب وتمنح، والجماهير هي الموضوع، تمتثل وتشكر، وتطلب ما يطلب منها أن تطلبه، وتفدي القائد بالروح والدم، في حين أنها أول من ينفضُّ عنه عندما يترنح، ويوشك على السقوط، كما بينت كل التجارب المشابهة (لا ينسى السوريون والمتابعون من غير السوريين، لا مسيرات الشكر كلما كان القائد يمنُّ على «الجماهير» بمنحة أو هبة مهما تكن ضئيلة، ولا مهرجانات البيعة و «مهرجانات الفرح». وهم يعرفون اليوم كيف تُنظَّم المسيرات المؤيدة، التي ترسم الحد الفاصل بين الجماهير والشعب). أما الشعب، الذي يقف، اليوم، في وجه السلطة الشمولية بأركانها الثلاثة: الإرهاب والأيديولوجيا والإعلام، كما شخَّصتها حنة أرندت، ويتخطى الظاهرة الجماهيرية التي أنتجتها هذه السلطة،... فيُعرَّف بذاته، وإرادته الحرة، ومطالبه المنبثقة من فكره وروحه وحاجاته الجذرية ومعنى وجوده ومقتضيات مستقبله. الشعب بالتعريف هو مجموع المواطنات الحرائر، والمواطنين الأحرار، المتساوين في الكرامة الإنسانية وفي الحقوق المدنية والسياسية، وفي الكرامة الوطنية، والذين ينتجون أشكال حياتهم الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية والأخلاقية، ويجعلون من الاختلاف والتفاوت وحدة وطنية قوامها المساواة والحرية. «الحل الأمني مطلب الجماهير» يعني أنه مطلب قيادة الجماهير، مطلب «القيادة الحكيمة»، ويبدو أنه مطلبها الوحيد، ومطلبها الأخير. مفهوم السلطة السياسية قد يكون خادعاً ومضللاً هنا، إذ لا سلطة في سورية سوى سلطة ما يسمى «القيادة»، وقد كفّت عن كونها سلطة سياسية منذ وقت بعيد. ليس في سورية سلطة تشريعية، ولا سلطة تنفيذية، ولا سلطة قضائية، ولا «سلطة رابعة»، سوى سلطة «القيادة» التي تجمع في يدها سائر السلطات، وتعيِّن ممارستها وآليات عملها، وتعيِّن خطابها أيضاً، وما أدراكم ما «القيادة» ومن القادة! فلا يذهبن الظن بأحد إلى قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي، القومية أو القطرية، أو إلى قيادة الجبهة الوطنية التقدمية العتيدة. السيد وليد المعلم يدرك أكثر من الجميع أنه ليس وزير خارجية، كغيره من وزراء الخارجية في الدول المتمدنة، بل مجرد موظف تابع للسلطة الأمنية / العسكرية، كسائر زملائه السوريين، وواحد من مثقفي القيادة «الحكيمة»، والناطق باسم حكمتها، كغيره من الناطقين والمحللين السياسيين على القنوات الفضائية، الذين تتحدث القيادة من خلالهم. هو رجل مثقف وكاتب، لا يُشك في ثقافته، ولكن، أول من يستجيب للحركة التوتاليتارية، وأول من ينفضُّ عنها، كما أشرنا، هم الجماهير والمثقفون، وفق حنة أرندت أيضاً، ووفق التجارب المشابهة في غير مكان. المثقفون هم القوة الموازية لقوة الجماهير في النظام الشمولي، والمكمِّلة لقوة الإرهاب، أو قوة جهاز الإرهاب، بالمفرد والجمع؛ إذ يشغل المثقفون الوظيفتين الأيديولوجية والإعلامية، (التربية والتعليم عدم وخواء، لا يعول عليهما، إلا لإنتاج الظاهرة الجماهيرية مادياً، والثقافة تركيب هجين من عناصر قومية وإسلامية واشتراكية، لا قيمة فعلية لها إلا من حيث وظيفتها في إنتاج الظاهرة الجماهيرية أيديولوجياً وإعلامياً، والقضاء أقرب إلى القضاء والقدر)، فلا يستهجننَّ أحد التصاقَ المثقفين بالقيادة الحكيمة وقائدها الرمز، ولا يستهيننَّ بكلفة الخروج عليهما أو الانشقاق عنهما. التخارج بين الشعب والسلطة الشمولية والظاهرة الجماهيرية التي أنتجتها هذه السلطة، والذي تحدث عنه بعضنا قبل ربيع دمشق (2000 – 2003) وفي أثنائه وبعد ذبوله، تحول اليوم إلى قطيعة حققتها الثورة السورية عملياً، ولا بد من أن يحققها المثقفون المستقلون الأحرار فكرياً وسياسياً وأخلاقياً، قطيعة نرجو أن تكون شاملة وجذرية، لكي تعبر سورية إلى مستقبل ديموقراطي، وإن على طريق من الآلام. * كاتب سوري