تتطور بلدان عربية ويتكاثر عددها، «متذكرةً» ما يفترض أنه «مرحلة» منقضية من تطورها السياسي والاجتماعي والحقوقي. أعني مرحلة الحكم السلطاني التقليدي الذي يقوم على المبدأ السلالي وعلى نزوع نحو الانتظام «الطائفي» للمجتمع، فضلا عن «الاستبداد». التعبير الأخير يعني حكماً يستند على «العرف»، متشدداً حيال أية تشكيلات سياسية منافسة، لكنه «ليبرالي» اجتماعياً. ليس الاستبداد قمعاً منفلتاً بالضرورة، لكنه انفلات من القواعد المطردة عموماً. وفرص التعسف والاعتباط واسعة فيه. والمقصود بالانتظام الطائفي تشكل المجتمع في صيغة جماعات مغلقة على ذاتها، تتميز عن غيرها على أسس اجتماعية ثقافية، ولا تكاد تتفاعل في ما بينها، حتى لو لم تكن هذه الجماعات مللا دينية أصلا. هذا الضرب من الانتظام الاجتماعي يجعل الاستبداد بلا مخرج. من جهة يغدو حلا لمنازعات أهلية يحتملها الانتظام الطائفي دوماً. ومن جهة ثانية تنزع المقاومات المحتملة للاستبداد إلى التشكل في صيغة أهلية أو مللية. صعود الإسلاميين في البلدان المشار إليها قبل ثلاثة عقود أو أكثر مؤشر على ذلك (بقدر ما هو أيضاً عنصر أساسي في تشكل الحكم السلطاني المحدث). وضعف التشكلات المعارضة غير الأهلية مؤشر مكمل. لكن كيف يحدث أن «تتذكر» المرحلةَ السلطانية البلدانُ العربية التي بدت قبل حين غير مديد من الدهر الأكثر تقدماً بين نظيراتها؟ نخمن أن هناك سببين وراء ذلك. الأول هو أنه لم تتحقق في الإطار الاجتماعي الثقافي العربي قطيعة محرِّرة مع الثقافة والذهنية السلطانية والبنى الاجتماعية التي تختزن تلك الثقافة، بما في هذه خصوصاً نوعية المعرفة الدينية المعممة عبر أجهزة التأهيل الديني، وبما فيها الموقع الذي يشغله الدين في الحياة العامة في أكثر بلداننا. تقوم العشيرة على القرابة وعلى طاعة شيخها وعلى المسؤولية الجماعية، والطائفة على القرابة العقدية وعلى سلطة رؤسائها الدينيين وعلى الخصومة مع غيرها، وتحمل الإسلامية المعاصرة في تعاليمها ومرجعيتها ذاكرة سلطانية متأصلة وتصوراً مللياً للمجتمع ودينياً للعالم. الحضور العاصف لإيديولوجيات عصرية لم يكد يؤثر على هذا المستوى الاجتماعي الثقافي الأعمق، بل لعله حجب استمرارية الأشياء نفسها. لطالما شابهت الأحزاب السياسية الحديثة «طوائف»، ولطالما كانت إيديولوجياتها أشبه ما تكون بعقائد دينية. وهو ما ينال من أهليتها للفوز في الصراع ضد تلك المركبات الاجتماعية الثقافية، بل لعلها مهيأة للاندراج فيها دونما ممانعة كبيرة. تسمى البلدان العربية المذكورة جمهوريات، لكن هل هناك ثقافة جمهورية في أي منها؟ هل هناك دلالة واضحة للمبدأ الجمهوري؟ لمفهوم الشعب؟ للسيادة الشعبية؟ للمواطن؟ لا شيء من ذلك. وإنما لذلك لا توجد حواجز ثقافية وفكرية وقيمية من أي نوع تحول دون التحول إلى ما سماه سعد الدين إبراهيم «الجملكية». هذا التعبير غير موفق في ما أرى. فهو يضمر امتزاج الجمهورية بالملكية، الأمر الذي لا يخفق في إبراز هزال عريق للمبدأ الجمهوري فقط، وإنما يعجز أيضاً عن قول أي شيء دال عن طبيعة هذه «الملكيات» الجديدة. لقد اقترحت في غير مكان مفهوم الدولة السلطانية المحدثة الذي يحتاج مزيداً من النقاش والتوضيح، لكنه ربما يساهم في تفسير التحول السلس نحو هذا الضرب من الحكم. أما تفسير الأمر ب «الاستبداد» والخوف وحدهما، ففوق أنه لا يوفر شرحاً مقنعاً للاستبداد ذاته، فإنه يبدو «سياسوياً» ومحدوداً. ولعل الأيام تدخر لنا فرصاً لمزيد من الوضوح في هذا الشأن إن سارت الأمور في مصر وتونس، وكذلك ليبيا وربما اليمن، على الدرب الذي كانت سورية طليعية فيه. ونرجح أن امتزاج التدويل العميق، الخشن والمستمر، لإقليمنا، والريع الاستخراجي الهائل الذي حظي به كثير من دوله، قد عطلا إمكانية اختراق اجتماعي وسياسي وثقافي «تقدمي»، وأسهما في تعفن ما تحقق منه هنا وهناك، كما منحا استقلالية كبيرة وغير مستحقة لأطقم حكم معدومة الكفاءة، فكان أن أبقيا حاضرنا معاصراً لماضينا. في المحصلة، تطورنا نحو مرحلة منقضية لأن هذه لم تنقض فعلياً. لقد بدا أنها طويت إيديولوجياً وسياسياً، إلا أن انطواءها الظاهري هذا لم يدوّن في البنى الاجتماعية وفي الثقافة، الأمر الذي أبقى عودتها احتمالا وارداً دوماً. لكن ما الذي جعل هذا الاحتمال الوارد واقعاً محققاً؟ هنا نلتقي السبب الثاني: إرادة الخلود أو البقاء الأبدي في السلطة. الحكم السلالي هو الحل الطبيعي لمشكلة الخلود غير المتاح للأشخاص. بنية الحكم هذه التي تعلي من رابطة الدم ومن الأصل وروابط المعشر وعلاقات المحسوبية أو الزبونية هي ما يُفعِّل الانتظام الطائفي للمجتمع كي يشبهها، فيحصِّنها ويطبِّعها ويضمن دوامها. هذا فوق أنه يبدو أن التشكلات الطائفية (الروابط الأهلية التقليدية والتجمعات المغلقة الحديثة اللاسياسية) هي الأطر الاجتماعية الأنسب للتكيف مع التعسف السلطاني وللاحتماء منه ولالتماس المنافع والخيرات في ظله. الى ذلك أيضاً أن رعاية الروابط الأهلية واللاسياسية سياسة مقصودة، في ما نرى، للحكم السلطاني المحدث. يسعنا القول، تالياً، إن الانتظام الطائفي هو الحل للوضع السلطاني بقدر ما هو الحل للتنازع الطائفي المحتمل دوماً هنا. وعلى هذا النحو تتشكل دائرة مغلقة، يغذي الحكم السلطاني الاستبدادي فيها التشكلات العمودية الأهلية أو المحدثة التي تتبادل التغذية معه، ما يضعف إمكانية الخروج منها. كيف يمكن كسر هذه الدائرة؟ استناداً إلى التحليل أعلاه تكتسب الانتظامات الطوعية العابرة للروابط الأهلية أهمية كبيرة جداً. يبدو منطقياً أنه كلما تكاثرت وتكثّفت التفاعلات الاجتماعية القائمة على الطوعية والفردية، وعلى الاستقلالية، ونازعت صيغ التفاعلات «الطبيعية»، كانت فرص ترسخ الاستبداد والحكم السلالي أضعف. هذا ما يبدو أن الحكم السلطاني المحدث مدرك له تماماً، لذلك تجده يعمل على تفكيك هذه الصيغ «المدنية» أو استتباعها وتعطيلها. لكن هذا يبقى المجال الأكثر أهمية لإضعاف الهياكل السلطانية. أما المزيد من معرفة هذه التشكيلة السياسية الغريبة، أصولها وبنيتها وآليات عملها وعوامل استمرارها ومواطن اختلالها...، فأمر مرغوب دوماً. وقد يكون ما تتيحه المعرفة المرغوبة من إحاطة ب «قوانين» هذا النظام، أمراً جزيل الفائدة عملياً من أجل تحويله أو كسر دوائره.