يكتب شهريار مندني بور، وهو ناقد سينمائي وروائي إيراني وباحث في جامعة هارفرد، روايتَه «قصة حب إيرانية تحت مقص الرّقيب» -منشورات الجمل- مراوغاً ومناوراً ومخاتلاً عين الرقيب بيتروفيتش التي لا تكلّ عن متابعة ورصد كل كلمة أو رمز أو إيحاء يُستشف من نصه الروائي أنه يدور حول رغبات الجسد ونزواته، وعواطف العشّاق والمحبّين، وآراء النّاس في إدارة البلاد والسياسة الاقتصادية. الرواية التي تتشابه في موضوعها عن الرقابة مع قصة روائي إيراني آخر، هو أمير حسن جهل تن في «طهران مدينة بلا سماء»، تنسج عُرى حركة صراعية معقدة تدور بين النزعة الدينية الأيديولوجية المفروضة والسلطة الأخلاقية المتزمّتة المتعنّتة من طرف، ومن طرف آخر نزعة التفرّد والاستقلالية والانعتاق الفكري وحرية التعبير والتخييل، التي يمثّلها الكاتب من خلال عملية الإبداع الأدبي، والخطاب الروائي السّاخر الذي يؤلفه. ويقوم الكاتب مندني بور على صعيد بنية الرواية، بالتسلل أو الانزلاق بين مستوى وآخر «Metaphase». كما يترجم المصطلح لطيف زيتوني في معجمه الروائي. تسلّل من مستوى النص الروائي إلى مستوى القارئ. ومن عالم القصة وشخصياتها الوهمية، إلى عالم القارئ، حين يدعوه الكاتب إلى مشاركته، هادماً التخوم بين الواقع والمختلق، فيسائله ويستشيره، ويتجاذب وإياه أطراف الحديث، ويحثه على التفكير معه، وعلى طرح الأسئلة التي تدور في خلده حول ما يكتب. وعليه تبدو الرواية قصة افتراضية، أو هي مؤجلة إلى حين اكتمال بناء سياقاتها وحبكتها وحواراتها، وتشكيل ملامح شخصياتها. وكل ذلك لمخادعة الرقابة الشرسة المتغلغلة في أعمق خصوصيات الشخصيات، منقّبة في سرائرها وضميرها، وفي ما يعتريها من خواطر وخيالات. وعندما يروي السارد، فإنه يخيِّر القارئ بين أكثر من احتمال وأكثر من صياغة، ويعيد تشكيل فضاء الرواية على أكثر من وجه وطريقة. الرواية مشروع غير ناجز، ما دام قلم الرقيب يهدّد بشطب كل كلمة، أو موقف ينبئ عن عدم مراعاة القواعد والمعايير والسنن الكفيلة بضبط إيقاع المجتمع الإيراني في حدود مرسومة بعناية، فالمنظومة الرقابية الصارمة التي رسّختها سلطة الملالي تتحكّم في مفاصل الحياة كلها، بل يستبطن كاتب الرواية نفسه شخصية الرقيب بيتروفيتش فيضع خطاً وسط العبارات والجمل المطبوعة التي يحسب أنه سيحذفها لو اطّلع عليها. وبهذه المناورة، يمارس الكاتب عملية حجب شكلي، في حين أنّه يفضح أمام القارئ كل ما يدور في ذهن الرقيب، وكل ما يدل على نضوب مخيلته، وتحكّم العقد الجنسية فيه، وذعره من كلمة حرية. ويبلغ بيتروفيتش درجة من التعنّت الأخلاقي المضحك، حين يحذف من قصّة صديق للكاتب جملة تقول: «الأوراق تتساقط من الأشجار وهي ترقص»، لأن كلمة «ترقص» تُعتبر سوقية ومحرّمة شرعاً. ويد الرقابة الطويلة لا تمتد إلى الكتب المحلية فحسب، بل إلى كتب ومنشورات أجنبية، فتقطع صفحات وصوراً. وتنزع أسماء المحلات والمطاعم إذا ما أوحت بأسماء أميركية او أجنبية، كما حصل مع صاحب مطعم أقفل، لأنه وضع على واجهة مطعمه حرف M الذي يذكّر بشبكة مطاعم ماكدونالدز الشهيرة. والتهمة الجاهزة هي زعزعة القيم الدينية والثقافية والأخلاقية للمجتمع الإيراني. وذروة السخرية في رواية شهريار مندني بور، هي أن الرقيب المسؤول عن الإذن بعرض الأفلام أو منعها رجل كفيف، ويعيش رُهاب المشهد الجنسي الذي لا يراه، إنّما يسمعه. أخطبوط الرقابة هذا ذو أذرع عديدة ومتشابكة، فهو يحدّد أذواق الناس في اختيار أزيائهم، ويلزمهم باللون الداكن القاتم والأسود، ويحرم عليهم كل ما يبرق أو يلمع، بل يفرض على الناس أن ينتعلوا أحذية سوداء، لا سيما النساء، حتّى لتغدو عملية إظهار المرأة جمالها نوعاً من الكفاح، على ما تقول سارا بطلة الرواية. وجسد المرأة على وجه أدق هو الذي يخضع إلى اقصى متطلبات السلطة الدينية، التي تقيّده بأغلال التقاليد الصارمة. وتحاصر الأنثى بكل المحرّمات، وتمنعها من كل حركة أو تصرّف أو تعبير يخالف، أو يتعدى حدود الفضاء الجسدي الذي رسمت تفاصيله بعناية الأيديولوجية العقائدية المتشددة. وعلى رأس هذه الحدود ارتداء الحجاب، لذا فإنّ سارا حين تخلع حجابها وسط المارّة، تمثّل فضيحة في أعينهم. لكن حركتها هذه، تُشعرها في قرارة نفسها بذروة الإحساس بالحرية. وبصفته ناقداً سينمائياً يتهكم مندني بور من الأفلام والمسلسلات الإيرانية التي تعرضها التلفزة الحكومية لنساء محجبات، لا يمكن واقعاً وعقلاً أن يغطين رؤوسهن في منازلهن، أو في كل الأوقات، كما لا يستطيع فتى أو فتاة إيرانيان أن يقفا على الرصيف، ويحدّق أحدهما في عيني الآخر. وتتمكّن هذه الأذرع الرقابية من الامتداد الى الأحوال الشخصية، والافتئات على حقوق الأبوّة والأمومة، فتفرض على الأهل الانصياع في تسمية أولادهم إلى لائحة مختارة من الأسماء الإسلامية دون غيرها. وتتوجس شرّاً حتّى من أسماء إيرانية عريقة، مثل دارا، أحد كبار ملوك إيران قديماً، اعتقاداً منها أنّ من يسمّي هذا الاسم هو ظهير الملكية البائدة. بيد أنّ السعي لخلق مجتمع تطهّري، لا يتحقق على أرض الواقع، وينمو بدلاً منه مجتمع مزدوج الوجه. وازدواجية الحياة في إيران سمة بارزة، حتى أنّ فضائيات عربية وأجنبية صوّرت الحياة الاجتماعية في مدن إيرانية، لا سيما العاصمة طهران، فكشفت عن مظهرين مختلفين: أحدهما في الخفاء، والآخر في العلن، وأبرزت ممارسة ازدواجية المنظومة السلوكية والقيمية، واختلافها بين الفضاء الشخصي والفضاء العام، إذ عندما يحتجب الرقباء، او تضعف قبضتهم، تُمارس الرذيلة، ويسود الفساد الأخلاقي والنفاق السياسي والديني، وتُدار شبكات الدعارة، ويزدهرالاحتكار والتهريب، وتتبدّل الأدوار، ويُوقع الموظفون زملاءهم بتهمة مناهضة الثورة، فيطردون ليحلوا مكانهم، كما فعل سندباد، الذي وشى برفاقه، وأصبح صاحب حظوة لدى رؤسائه، وحاول التودّد من سارا حبيبة دارا، وإغراءها بثروته التي جمعها من احتكارات الاستيراد والسلع المغشوشة. في «قصة حب إيرانية» يتقاطع هذان الوجهان في متن الرواية، وفي صلب عملية كتابتها بالطريقة التي تميّز بين الكلام المراقب من السيد بيتروفيتش وبين الكلام المتحرّر الذي يعبّر فيه السارد عن عواطف أبطاله وأفكارهم الطليقة. تعدّ «قصة حب إيرانية» على ما فيها من سوداوية سليلة القصة الإيرانية الشهيرة «البومة العمياء» لصادق هدايت، التي يذكرها الكاتب أكثر من مرّة في مطلع روايته. و «البومة العمياء» استلهمت المناخات الكابوسية والفنطازية في روايات كافكا، خصوصاً تصويرها المآل المأسوي الذي يتربّص بالإنسان المعاصر. كذلك نرى «دارا» بطل مندني بور، وهو يعاني غربة نفسية عميقة، واستيهامات متخيلة تزيده بؤساً وكآبة ووحدة، في ظلّ تحوّل سياسي واجتماعي مأزوم، تقوده عقليات دينية متحجرة، بيد أنّ رواية مندني بور ذات ثراء ثقافي باذخ، فالكاتب يغنيها بتعقيباته وحواشيه وتأويلاته ومعلوماته التاريخية والمعرفية واللغوية والشعرية، لا سيما ثقافته السينمائية والقصصية المتطورة، وموازنته بين الفنّ والأخلاق، وتعدّد مستويات سرده الذي يتراوح بين الواقعية والواقعية السحرية، وبين النمط الروائي الموروث، وتيارات الرواية الحديثة، بما فيها تيار اللاوعي. وهو هنا يلعب لعبة الواقع والخيال، فتلتبس الحادثة بالفكرة، والماثل المدرك بالمتصوّر، والماضي بالحاضر، والظاهر بالمضمر، كل ذلك بأسلوب ساخر يردّد صدى «غوغول» في «النفوس الميتة». وفي وصفه لظروف حياة الإيرانيين في ظل حكم الملالي اليوم، وما يكتنفها من حَجْر على الآراء والسلوك، نكتشف كم هي معاناة الإيرانيين صعبة، في بلد فقد وجهه الحقيقي، وفقد القدرة على استعادة ماضيه الحضاري، ومواكبة الفكر الحديث الذي يرتكز على مبدأ الحرية.