نبدأ من ان التاريخ هو سجل أعمال الإنسان على الأرض لآلاف السنين، وهو حجر الزاوية في عملية معرفة حالات البشر والطبيعة، فمن التاريخ نحصل على العبر والدروس في نشوء الحضارات واضمحلالها، ومن التاريخ القديم، على سبيل المثال، نتعرف إلى تطور الكثير من العادات والممارسات. وهناك قدرة عند بعض الباحثين على متابعة التأثيرات والتغيرات النفسية للكثير من الطقوس البدائية لمعرفة القيم عند البشر في مختلف عصورهم، ولكل ذلك أهمية قصوى في معرفة حاضر الإنسان. ومن الدروس التي يجب أن نتعظ بها من دراسة التاريخ هي أن نتجنب أخطاء الماضي وعثراته، ونتفهم مشاكل العصر الحالي بمقارنتها بحالات متشابهة وقعت في الماضي. ومن خلاله نتذوق حضارات الأمم الأخرى وما لديها من ثروات فكرية وتراث. فالإنسانية ترتبط بماضيها ارتباطاً وثيقاً أو كما قيل: التاريخ كله تاريخ الحاضر. وغايتنا من دراسة التاريخ التعرف إلى الإطار الذي نعيش فيه وأحوال المجتمع الذي نحياه. أصبحت للتاريخ اليوم أهمية كبيرة في حياة الأمم والشعوب، وصارت له مكانة عظيمة في مناهج المدارس على اختلاف مراحلها. ولعل سبب ذلك هو التغير والتقدم الشاملان اللذان عمَا نواحي الحياة البشرية. وقديماً كان التاريخ فناً من الفنون أو فرعاً من فروع الأدب، وهناك من يرى أن المؤرخ اليوناني هيرودوت هو أول المؤرخين الذين بذلوا عناية في الوصول إلى الحقائق وتدوينها من خلال قيامه بالأسفار وجمع الأخبار، فكان مجهوده أول خطوة في سبيل البحث التاريخي، إلا اننا نرى أن سكان الشرق الأدنى منذ العصر السومري اهتموا بتدوين التاريخ واستمروا فيه وما زالوا. فقد شهدت المنطقة في العقود الأخيرة اهتماماً متزايداً بالتاريخ تولد من فقدان الثقة بالكثير من الأطروحات التاريخيّة الموجودة التي جاء بها مؤرّخون أجانب وضعوها أغلب الأحيان خدمة لأهداف سياسيّة معيّنة، فهي إذن لا تصلح لأن ُتكشف بها الجذور. وبما أنّ إعادة البحث في الجذور، تعني إعادة قراءة الماضي، ثمّ كتابته وفق نظرة جديدة نابعة من نتاج عصرنا هذا، فقد نشط مؤرّخون ومفكّرون في إعادة كتابة تاريخنا كلّ بحسب منظوره المعاصر، فنشطت محاولات لإعادة كتابة حقب وحوادث، إمّا من طريق تحديد مدارسه وإبراز معالمه وأما من خلال تتبّع أعمال المؤرّخين العرب البارزين. إلاّ أنّ معظم تلك المحاولات كان يركّز على العصور الإسلاميّة المتقدّمة، ولا يصل بدراسته إلى العصور المتأخّرة، أي إنّه لم يكن يتجاوز القرن الخامس عشر في أكثر تقدير، أي إلى بداية الحقبة العثمانيّة. ولعلّ مرجع ذلك يعود إلى أنّ عصور الازدهار الثقافيّ والحضاري تبقى أكثر جذباً للمؤرّخ المعاصر، من عهود الركود، كما يقول مؤلّف الكتاب (دار الورّاق للنشر - لندن 2009). كما أنّ وفرة مصادر تلك العصور واستقرار مناهج دراستها، يسهّلان على المؤرّخ عمله في رصد نشاطاتها على نحو لا يجده مؤرّخ العصور المتأخرّة التي اتسمت بضعف الصلات الثقافيّة وغلبة الهيمنة السياسيّة والأجنبيّة. وهكذا يقع المؤرّخ، في شرك إنتقائيّة غير علميّة، مع أنّ تاريخ الأمّة تجربة حيّة لا تتجزّأ ولا تنقسم، ولا يجوز انتقاء حقبة منها دون أخرى، أو أن يبرز منها جزء وتخفى أجزاء، فعندها لن يكون باستطاعته أن يكوّن نظرة ذاتيّة مستقلّة وموضوعيّة وعلميّة. ويتّضح عندها عظم الجريمة التي يرتكبها المؤرّخون، بقصد أو بغير قصد، بتشويه علم التاريخ بما يحشونه به من نظريات فلسفيّة ليست، في الأكثر، في جانب الخير العام، ولا في جانب الحقيقة والحقّ. إذ لا يمكننا ان نمزج الفلسفة التاريخيّة بالتاريخ، ونطلق على هذا لقب علم ثابت خالص من دون أن نعرّض معارفنا للتشوّش الذي يحول دون بلوغنا الفائدة التي نتوخّاها. وإذا كانت بعض الجهود بذلت لدراسة كتابة التاريخ في العصر العثمانيّ، في بعض الأقطار العربيّة، فإنّ دراسة كهذه للتاريخ والمؤرّخين العراقيّين، في هذا العصر، ما زالت تنتظر من الباحثين ما تستحقّه من جهد وتتبع. وهذا ما دفع المؤلّف إلى معالجة هذا النقص وسدّ الفراغ، لا سيما ان فائدته لا تقتصر على النواحي الفكريّة النظريّة، فحسب، كما يقول، وإنّما تمتدّ لتشمل النواحي العلميّة أيضاً. فهو، أي الكتاب، سيكون دليلاً للباحث في تاريخ العراق الحديث، يهديه إلى المئات من الكتب والرسائل التاريخيّة، ممّا وضعه مؤرّخو العراق في هذا العصر. وتشكّل مصادر أساسيّة لدراسته وبحثه. ومعظم تلك المصادر ما زال مخطوطاً، بعيداً من فرص استثماره في دراسة، أو الإفادة منه في بحث، فضلاً عن إحيائه بالتحقيق والنشر. لذا فقد تتبع المؤلّف ما ألّفه العراقيّون في مجالات التاريخ والتراجم والسِيَر، في القرون الأربعة الأخيرة، فرصد أسماءهم، وتتبّع تراجمهم وما يتّصل بها من المعلومات الضروريّة الموضحة لبيئة المؤرّخ وثقافته واهتماماته، وعُني بكل مؤلّفاتهم والتعريف بها، والتبسّط في الكلام على ما يستحق التفصيل منها ممّا وصلت إليه يداه. وبيّن ما طبع منها، وهو يزيد على الربع بشيء يسير، كما يقول، وتتبّع النسخ الخطيّة لما لم يطبع، فبيّن مَواطن وجودها وتواريخ نسخها، وما إلى ذلك من معلومات. أمّا الكتب الضائعة فقد نوّه المؤلّف بالمصدر الذي أشار إليها بجلاء. وجعل المادة التي توافرت من كل أسماء المصنّفات ومعرفة محتواها أساس دراسة مفصّلة عن تطوّر حركة كتابة التاريخ في العراق إبّان القرون الأربعة الأخيرة، وبيان المؤثرات العامّة التي أثرّت في هذه الحركة إيجاباً وسلباً، وآثارها في مناهج الكتابة وأساليبها. يبلغ عدد المؤرّخين الذين شملتهم الدراسة نحو 383 مؤرّخاً منهم 67 مؤرّخاً غير معروفي الاسم، كتبوا نحواً من 927 كتاباً في التاريخ والتراجم والسِير، غالبيتها المطلقة مكتوبة بالعربيّة. أمّا ما كُتب بغيرها فإنّه يبلغ 129 كتاباً، 20 منها بلغات أوروبيّة، وعلى النحو الآتي: الفرنسيّة 15، الإيطاليّة 5، اللاتينيّة 4، الإنكليزيّة 1؛ والبقية باللغات المحليّة في العراق وجواره، على النحو التالي: السريانيّة 24، الكرديّة 32، الفارسيّة 4، ولا يتجاوز عدد الكتب المؤلّفة بالتركيّة، وهي لغة الدولة والسلطان 45 كتاباً، وهذا يؤكّد حقيقة أنّ أغلب ما كُتب في مجالات التاريخ المختلفة كان بالعربيّة، على رغم الهيمنة الأجنبيّة التي استغرقت بضعة قرون. ومن أصل مجموع الكتب التي هي مدار هذا الكتاب، فإنّ ثلثها فُقد، فلم تُعرف له نسخة ما، وربّما عثر على جانب من هذه الكتب في المستقبل، وثلثها الآخر وَجد له سبيلاً للطبع، بغض النظر عن كونه نُشر محقّقاً أو لا، بينما ما زالت البقية في عداد المخطوطات التي تُعرف أماكن حفظها ولكن لم ينبرِ أحد لتحقيقها ونشرها بعد. ولا شكّ في أن هذا العدد الكبير من الكتب الخطيّة، الذي يبلغ نحو ثلث ما ألّفه العراقيّون في تاريخ بلادهم، يستدعي من المؤرّخين جهداً كبيراً ومضاعفاً من أجل العمل على إخراج هذه الكتب إلى النور، لتوظيفها في دراسات تاريخيّة جديدة من شأنها أن تلقي ضوءاً على تاريخنا في أثناء القرون الأربعة الأخيرة، وهي حقبة لا تزال في حاجة إلى مزيد من الضوء لكشف ما هو خاف منها. الطبعة الأولى من الكتاب صدرت في ثمانينات القرن الماضي، فيما تميّزت الطبعة الحالية بزيادات كثيرة شملت إضافة مؤرّخين لم يُدرَجوا في الطبعة الأولى، وإضافة مؤلّفات تاريخيّة لهذا المؤرّخ أو ذاك، والإشارة إلى مَواطن بعض المؤلّفات الخطيّة ممّا كان غير معروف من قبل، والتنويه بما طبع من تلك المخطوطات، أو أعيد طبعه، في خلال المدّة التي أعقبت صدور الكتاب المرّة الأوّلى، هذا فضلاً عن تصحيح تواريخ وفيّات بعض المؤرّخين، أو إكمال معلومات مهمّة وردت في تراجمهم، وإعادة تسمية بعض خزائن المخطوطات بأسمائها الجديدة. كما تضمنت الطبعة الجديدة صور المؤرّخين ممن لحق بعصر التصوير الفوتوغرافيّ أو بنماذج من مخطوطاتهم التاريخيّة بحيث بلغ الكتاب في طبعته هذه ضعف حجمه في طبعته الأولى. قسمّ المؤلّف العهد العثمانيّ إلى ثلاثة عهود، امتدّ العهد الأوّل من الفتح العثمانيّ عام 1534 إلى بداية حكم المماليك عام 1749. أمّا العهد الثاني فهو عهد حكم المماليك الذي امتدّ حتّى عام 1831. أمّا العهد الأخير فامتدّ حتّى خروج الدولة العثمانيّة من العراق عام 1918. مع فرض العثمانيّين سيطرتهم على العراق عام 1534 وبموجب نظام الإقطاع العثمانيّ المعروف بالتيمار قُسّمت نواحٍ من البلاد إلى وحدات إقطاعيّة ومُنحت وارداتها للفرسان المحاربين وتُركت البقية للملاّك المحلّيين والأوقاف وللقبائل المحليّة. وشكّلت هاتان القوّتان، صورة الحياة العامّة في العراق طوال العهد العثمانيّ الأوّل من 1534 حتّى 1749. وعليه يمكن القول إنّ القرنين الأوّلين من العصر العثمانيّ في العراق كانا بالمجمل حقبة استئناف المؤسّسات الثقافيّة، بنشاطها القديم الذي هو خلاصة الموروث الإسلاميّ من دون ان تضيف عليه إضافة حقيقيّة سوى أعداد متزايدة من الشروح والحواشي والتعليقات. وكان تزايد عدد المدارس المُلحقة بالمساجد أو المستقلّة عنها عاملاً في ظهور فئة جديدة من العلماء وطلبة العلوم الدينيّة ساهمت في صوغ الحياة الفكريّة، ومن ضمنها الموقف من العلم عموماً، والكتابة التاريخيّة بوجه خاص. ولا أدلّ على ذلك من أنّ نحو ثلثي كتبة التاريخ في العهد العثمانيّ الأوّل كان ممن ينتمي إلى هذه الفئة حيث اختلط التاريخ بعلوم الدين على نحو لم يعد ممكناً تمييزه عنها. أمّا الفئة الأخرى التي قدر لها أن تسهم في صوغ الحياة الفكرية في هذا العهد، فهي فئة الشعراء والأدباء الذين شكلوا اتجاهاً آخر في كتابة التاريخ في العراق ُوجد في فن السيرة الأدبية. وكانت طبيعة ثقافة هذه الفئة الأدبية تختلف عن طبيعة ثقافة العلماء بأنها أكثر تحرّراً وأقل ارتباطاً بالمناهج التقليدية التعليمية، ولكنها أكثر تأثراً بآداب الأمم الأخرى ولغاتها. إلاّ أنّ ظهور بوادر الشخصيات المحليّة للولايات العراقية في أواخر العهد العثماني الأوّل كان إيذاناً بظهور أولى المحاولات لكتابة التاريخ (لذاته) أي بعيداً من المؤثرات الدينية أو الأدبية. ولعلّ أوّل كتاب تاريخ من هذا النوع هو «زاد المسافر ولُهنَة المقيم والحاضر» الذي ألّفه فتح الله إبن علوان الكعبي حوالى عام 1683، إلى أن ألّف الأديب والعالِم البغدادي أحمد بن عبدالله الغرابي أواخر القرن السابع عشر أوّل كتاب تاريخ مرتّب على طريقة الحوْليات مجرّداً من شوائب العلوم الأدبية والدينية الأخرى، وأرّخ فيه للإسلام منذ ظهوره حتّى زمانه. ومع بداية القرن الثامن عشر وضع أديب بغدادي هو مرتضى نظمي زاده كتاباً بالتركيّة يُظهر ما لحق بكتابة التاريخ من نضجٍ، ويُعدّ الأوّل من نوعه في العصر العثمانيّ، أرّخ فيه لمدينة بغداد منذ تأسيسها وحتّى أيّامه. ومع بداية هذا القرن ظهرت كتب الرحّالة التي أدّت إلى نتائج ذات شأنٍ في كتابة التاريخ. ويُظهر المؤلّف معطيات إحصائيّة تُفيد أنّ عدد المؤرّخين العراقيّين الذين برزوا في هذه الحقبة ممّن اهتدى إليهم، بلغ 41 مؤرّخاً، كتبوا 55 كتاباً في التاريخ، وأنّ 8 من تلك الكتب كان بالسريانيّة و8 بالتركيّة وواحداً بالفارسيّة والبقية بالعربيّة. وفي العهد العثمانيّ الثاني بداية منتصف القرن الثامن عشر، يتابع المؤلّف مراحل تطوّر كتابة التاريخ بمنهجٍ مقنع وأسلوبٍ شيّق فنتعرّف إلى مراحل جديدة بدأت مع تحوّل العلماء إلى كتابة (السيرة السياسيّة) من خلال كتابة تواريخ معاصريهم من الولاة والحكّام، والتي كانت بمضمونها تاريخ المدينة. ثمّ تحوّلت الكتابة التاريخيّة إلى كتابة تاريخ المدينة بذاته. ثمّ ظهرت كتابة تاريخيّة من نوعٍ آخر هي عبارة عن رسائل في ذكر حوادث سنة أو سنتين. لينتقل بعدها الاهتمام بكتابة التاريخ إلى الحكّام أنفسهم الذين شجّعوا هذه الحركة الناشطة ليُصار بعدها إلى إيجاد (مؤرّخ رسميّ للدولة) بحيث أصبحت تُتاح للمؤرّخ معلومات ومعطيات ووثائق لا تتاح لغيره من الكتّاب. ولفتت الظاهرة القبليّة اهتمام الكتّاب فبدأت تظهر الكتب التي تتناول أنساب القبائل العربيّة وأصولها وتفرّعاتها. وبلغ عدد المؤرّخين الذين أحصاهم المؤلّف لهذه الحقبة 74 مؤرّخاً كتبوا 130 كتاباً منها 119 كتاباً بالعربيّة بينما لم يزد عدد الكتب المؤلّفة بالتركيّة على 10 كتب وبالسريانيّة كتابين. ونصل مع المؤلّف إلى العهد العثمانيّ الأخير الذي يبدأ من منتصف القرن التاسع عشر إلى أوائل القرن العشرين إذ شهدت العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر مولد معرفة جديدة هي فهرسة المخطوطات والتعريف بها. ولعلّ اوّل محاولة معروفة في هذا المجال، هي ما قام به عالِم بغداد وأديبها نعمان خير الدين الآلوسي البغدادي في كتابه الذي عنونه «فهرست مكاتب بغداد الموقوفة» عام 1878 ثمّ تولّى نفر من المؤرّخين العراقيّين، وللمرّةالأوّلى، نشر عدد من المخطوطات المحققة. وقد ولّدت العناية بفهرسة الكتب اتجاهاً نحو تأليف معاجم للكتب والمؤلّفين. ولم يكد القرن التاسع عشر يشرف على الانتهاء، حتى شهدت كتابة التاريخ في العراق تطوراً آخر له أهميته ودلالته، تمثّل في قيام أوّل محاولة للتأليف في تاريخ العالم. وتُعدّ محاولة حسين بن جعفر المنجم البغداديّ الأولى من نوعها في العصر الحديث. وكمحصّلة أخيرة، فإنّ عدد المؤرّخين العراقيين الذين برزوا في خلال هذه الحقبة بلغ 271 مؤرّخاً ألّفوا 755 كتاباً. وبلغ عدد الكتب بالتركيّة 37، وبالكرديّة 32، وبالسريانيّة 14، وبالفارسيّة 3، والفرنسيّة 15، واللاتينيّة 4، والإيطاليّة 5، وبالإنكليزيّة 1. بمعنى أنّ ما كتب بغير العربيّة يصل إلى 110 كتب، وهي نسبة عالية، يشغل معظمها ما كتبه المؤرّخون المسيحيّون باللغات الأوروبيّة التي تعلّموها وليس بالسريانيّة، لغتهم الأمّ.