كتب الكثير عن الانتخابات الرئاسية التي لم تنته فصولاً في الجمهورية الاسلامية، وما رافقها من فرز سياسي واصطفافات. غير ان الظاهرة الأبلغ دلالة، انما استوت في الحقل المجتمعي، وتمثلت في الخروج عفوياً على النموذج الاجتماعي السائد، والقيود المفروضة على الحراك. أبدت شرائح واسعة، بلغت الملايين، حيوية مشهودة، قلما عكسها الاعلام ، ولربما فاجأت أيضاً غالب المعنيين بالشأن الايراني في الداخل والخارج بسواء. الحال، ان جماهير المحتجِّين على النتائج تخطت الحدث الانتخابي الصرف، وتحدَّت السلطات القائمة رغم المحاذير. وكيفما أعلنت الحصيلة النهائية او انتهت الى تنصيب أحمدي نجاد في سُدّة الرئاسة، يبقى الأثر العميق الذي خلفته عملية الاقتراع، وانساب في شرايين النسيج الشعبي بما يشبه انتفاضة مخملية حاصل صناعة وطنية خالصة، اتسمت بالمشهدية الحضارية الديموقراطية الأصيلة. على مدى عقود ثلاثة، عملت أجهزة الثورة الاسلامية جاهدة بغية خنق التعبيرات الشعبية وإجلاسها طقوسية نظامية تلبية لحاجات السلطة، وإقراراً ظاهرياً بالحماسة والتأييد للمرشد الأعلى، المعصوم على قاعدة ولاية الفقيه. صحيح ان حقبة الرئيس خاتمي سمحت بإبراز حيز ضيق من الحريات، وأعطت اشارات عابرة التقطتها الأسرة الدولية دون أن ترفق بمفاعيل ملموسة على صعيد القيادة والمسار السياسي. لكن تجربة الانفتاح أجهضت في الداخل، قبل ان تخمد وتمحى عملياً، مع انتخاب أحمدي نجاد القادم من الحرس الثوري والمغمور نسبياً لولاية أولى، ما أفضى الى امساك المتشددين بمقاليد الادارة والمجتمع، واسكات الاصلاحيين بعد تشرذم وضياع. ولقد هيأت الأزمة الاقتصادية الضاربة في الجمهورية، لمزيد شعبوية وتعبئة ريفية أتقنها وعوَّل عليها المحيطون بالمرشد، فغدت الجمهورية مطية للسلطة الدينية، وغابت عنها التكاوين والملامح التي أرادها جيل الثورة الأولى من الآباء المؤسسين. اي ان ثمة انقلاباً جرفَ الطابع المدني، وجفف منبعه ومنسوبه، لتختزل الصلاحيات بين أيدي جماعة غير منتخبة، تعيد انتاج السلطة في دائرة ضيقة تتبع تعاليم المرشد وفتاواه، سندها الولاء والطاعة، وقوامها تراتبي استنسابي عطفاً على معايير الانتساب للحاضنة المحافظة، بمختلف تلاوينها ودرجات تشددها التي تمنح الامتياز. ضاق المجتمع الايراني ذرعاً بمحظورات ومحرّمات دخيلة على تاريخه وتقاليده، وهو صاحب الحضارة العريقة مدعاة الفخار. فمن وصاية الباسيج على الأخلاق، الى تزمت المصمّمين فاقدي المرجعية الفقهية والاجتهاد، مروراً بكافة نوازع محاصرة الحياة المدنية والمدينية المعاصرة، باتت المنظومة السياسية، بحلتها الراهنة السائرة الى القطع مع الوكالة الشعبية والتمثيل بالتفويض الحرّ، مثابة عائق اوقع يوميات شعب ايران ونخبه في دوامة الانصياع الزائف، وأبعده عن مجريات المعاصرة وصناعة القرار. وحيث توسلت الأجهزة ما ألفته طبائع الاستبداد، بدا لفئات واسعة أن الجمهورية فقدت بريقها وانحنت، وغدت في عزلة عن مقاصدها وغاياتها الأساس، يحاكي المسؤولون فيها رعايا بلغة الاملاء، ويلقِّنونهم كيفية التقشف والسلوكيات على غرار الأنظمة الشمولية ، عكس ما توخته العملية الثورية التي أطاحت بالشاه والسافاك. لذا، خرج الملايين الى الشوارع ينادون بالحرية والرفاه، ويطالبون بولوج درب الديموقراطية والتخلي عن نزعة الاستبداد ومحاولة تطويع الارادة المجتمعية قسراً، بوسائل العنف المعنوي والمادي المحفوف بالإكراه. ولئن تناول المحافظون مشاركة زهرة رهنا ورد زوجة المرشح موسوي، فقد هدفوا مجمل دور المرأة ومشاركتها في هذا السياق. فما عاد خافياً ان العامل النسوي عرَّى القهر الممارس بصورة قروسطية في مجال العلاقات ، بوصفه تمييزاً ذا وجه عنصري ، يضاف الى التنكر لحقوق الشباب عامة والأقليات العرقية المغيّبة عن لوحة الصدارة. إن هوة منظورة تفصل اليوم بين غالبية المجتمع الفاعلة وحراس الهيكل المناهضين للتواصل مع العالم، وللافادة من مبتكرات الحداثة وأنماطها. على هذا النحو، يجري استخدام العزّة القومية عازلاً ، ولاجِماً لاندفاعة الفئات العمرية وتوظيف الملف النووي مانعاً للمساءلة في ميدان الاقتصاد. ومن خلال تعقب التدابير التي اتخذتها سلطات طهران، يتبين مدى الاغلاق المبرمج، واللجوء الى أدوات القمع، تمهيداً لانتقال جارٍ بخطى حثيثة من التحريم الى التجريم، بموآزرة الماكينة الاعلامية الرسمية المنشغلة في طمس الوقائع وتلفيق التهم عقاباً لمن جاهر برأيهِ، أم خالف القيم المتحجرة والتعليمات. لن يغيِّر في أمر الحراك المجتمعي، إقبال على إلقاء الدرس الأصولي بغية اطفاء شعلة الاحتجاج. فكل فرض هوياتي بالقوّة مصيره الفشل، وما احتجاب الرفض لوهلة، الا مقدِّمة لاختزان دوافعه في جوف المجتمع، ومراكمة المآخذ والضغائن المشروعة، الى ان تأتي ساعة التعبير مجدداً وتنطلق صفارة التغيير من حيث لا يتوقعه النظام. هكذا شواهد التاريخ في غير دولة وقارة، لا تحدّها معادلة متقادمة لفظت الجانب المدني وأسهبت في الاتكاء على الغيبي والماضويات. لقد كسب أحمدي نجاد جولة السباق الرئاسي، على المستوى السياسي ضمن ضوابط النظام وهرم السلطة، سوى أن الخلود الى المفهوم الوظيفي في عهدة المرشد عاجز عن اطعام معوز والحدّ من البطالة، ناهيك عن انزال الهزيمة بقوى اجتماعية مؤثرة، نفحَ فيها الاحتجاز، ومعاندة أمانيها وتطلّعاتها، روح الاعتراض وطلب تغيير بنيوي آت لا محال. هو الفارق في الدرجة والنوع بين قوانين السياسة وتلك العائدة للاجتماع، محدث المفاجآت والصدمات. كل الدلائل تشير الى إهمال ورثة السلطة في طهران المحددات القويمة السليمة، وهروبهم الى الوراء. يكمن الخطأ الأكبر في إغفال حقيقة الاحتقان، واختلاق الذرائع في اللحظة لكبت مشاعر الجماهير واسكاتها. على هذا المنوال، يسعد قادة إيران بإنحسار المواجهات، ويغيب عنهم ان المعاناة ولاّدة تحوّلات عميقة لدى الصابرين تشي بسوء الحال وببقاء النار تحت الرماد، ريثما تطفو على سطح المجتمع بأشكال غير معهودة وتقتحم المجال. * كاتب لبناني.