يبدأ العام الجديد 2012 مُثقلاً بالكثير من الهموم والجراح والأزمات معظمها يتم ترحيله من العام الماضي وما سبق. لكن النزيف السوري هو الأخطر. ولا حاجة بنا الى قرّاء الفناجين أو المشعوذين للتشديد على أن الآتي من الأيام والأسابيع والشهور يحمل الكثير من المفاجآت، منها السار للبعض، وغير السار للبعض الآخر. بعد ما يقرب من عشرة شهور، ما الذي يجري في سورية؟ نظام يترنّح ويصرّ على البقاء بأي ثمن إنفاذاً لكامل مواصفات «الحلّ الأمني» ولا خيار أمامه سوى «الانتصار» في هذه المعركة وإلاّ فالنهاية الأخرى معلومة. في المقابل، معارضة تحوّلت الى معارضات في الداخل والخارج غير متفقة على الأهداف النهائية، وبعد كل الذي جرى ليس في إمكان المعارضين ولا المعارضات التوقف هنا من دون بلوغ نتائج واضحة أو محدّدة. وتكمن المفاجآت في الكثير من المواقف، فلا النظام توقع أن يُواجه بالذي يواجه به، وفي المقابل لم يتوقع الثائرون على النظام أن يبقى «صامداً»، بقطع النظر عن الخسائر من أي نوع ولون. وآخر فصول ما يجري في سورية، حتى كتابة هذا المقال على الأقل، وجود عدد من المراقبين العرب في مختلف المدن والمحافظات السورية للاطلاع على ما يجري ميدانياً، أو لوجستياً بلغة العسكريين. لكن مهمّة المراقبين العرب بالغة الصعوبة من حيث الوقوف بدقة على حقائق الأمور، ولرفع تقرير الى الجامعة العربية. ومن المقرّر أن يعقد وزراء الخارجية العرب اجتماعاً طارئاً يوم غد الأحد للتداول في التقرير الأوّل الذي رفعه المراقبون عن مشاهداتهم و «انطباعاتهم» عمّا تمكّنوا من رؤيته. وقد لوحظ بوضوح أن الوضع الأمني شهد تصعيداً كبيراً منذ وصول طليعة المراقبين، وهذا التصعيد أتى من جانبين: جانب السلطة لإظهار «فداحة وفظاعة» ما يرتكبه الثوّار، وجانب المعارضين الناقمين على النظام، لإظهاره في موقع المعتدي. وبقطع النظر عن النتائج التي يمكن أن يتوصل إليها المراقبون، فليس هناك من آمال كبيرة أو عريضة مرتقبة لعمل المراقبين. لماذا؟ لأكثر من سبب وفي الطليعة أن ما كُتب قد كُتب وأن الأطراف التي قدّمت المظلّة العربية لأي عمل خارجي تعلم جيداً ما هو المطلوب منها وفقاً للسيناريو المعدّ والذي يقضي ب «إنهاء خدمات» النظام السوري مهما كلّف الأمر من «تضحيات» مقابل النظام الذي يخوض معركة تنازع البقاء وهدفه شديد الوضوح وهو تغيير نظام بشار الأسد بأي ثمن. والصورة كما تبدو تدعونا لاستحضار قول مأثور: «مَن راقب الناس مات همّاً»، واستبداله بآخر ينص على أن «مَن راقب العرب مات همّاً»! وأكثر تحديداً... مَن راقب سورية هذه الأيام مات همّاً وغمّاً. ووفق ما بلغته المشهدية السورية يمكن تسجيل ما يأتي: أولاً: لا يمكن ما يحدث أن يتوقف عند هذا الحدّ، أي العمل على بقاء النظام الحالي مع «انفتاح» على المعارضة... بل المعارضات والتي تنقسم الى فروع وتوجهات عدّة، منها المحلّي ومنها الإقليمي ومنها الدوليّ. بل إن مَن خطّط لهذه الأحداث ماضٍ في تحقيق أهدافه حتى النهاية وفي الطليعة «اقتلاع» نظام الرئيس بشّار الأسد. والبقية تأتي في وقت لاحق. ولعلّ سوء التقدير للموقف العام أوصل الوضع السوري الى ما هو عليه. وبناءً على ما تقدّم لا يمكن تصوّر نهاية وشيكة للنزيف الكبير القائم. ثانياً: بدا واضحاً أن الجامعة العربية، أو ما تبقى منها، تؤمّن المظلّة لأي دخول إقليمي ودولي على خط الحلول. ومواقف الدول تؤكد ذلك وسط حال الانقسام القائمة: فريق يريد منح النظام «فرصة أخيرة» للحلّ، فيما فريق آخر ماضٍ في مخططه القاضي بإسقاط النظام السوري ورموزه. وتقود هذا الفريق قطر عبر رئيس الحكومة ووزير الخارجية الشيخ حمد بن جبر آل ثاني، والذي تبدو على ملامحه آثار عدم الاقتناع بما يجري، وهو يتلو بيانات الجامعة العربية. أما الجامعة فلم يبقَ منها إلاّ التسمية المستمدّة من اسم وكنية أمينها العام نبيل العربي والذي يبدو أنه يقف في منطقة وسطى تطلق عليه النار في غير اتجاه. يُضاف الى ذلك التخبط في المواقف والتصريحات التي تصدر عن هذا الطرف أو ذاك. وفي إطار تسجيل بعض المتغيّرات يُلاحظ بعض «الهدوء» النسبي في موقف تركيا، حيث يبدو أن التدخل الايراني نجح، نسبياً، في تخفيف بعض الأعباء عن سورية من طريق إحياء التعاون الإقليمي بين إيران وتركيا، في ضوء المتغيّر الجديد الذي يتجلّى بانسحاب القوّات الأميركية من العراق، وما ينطوي على هذا التطوّر من صراعات إقليمية ضمن إطار مَن يملأ الفراغ الأميركي. والجواب واضح، وهو أن إيران هي «الوريثة الطبيعية» للولايات المتحدة في العراق. ولوحظ فور مغادرة آخر جندي أميركي العراق نشوب نوع جديد من الحروب الأهلية بين رئيس الوزراء نوري المالكي ونائبه، مع الانضمام الواضح لأياد علاّوي الى الجهة المعارضة بقوّة للمالكي. ولوحظ «لجوء» طارق الهاشمي الى كردستان العراق التي تنعم بالهدوء معلناً عدم ثقته بالقضاء العراقي واستعداده للمحاكمة أمام القضاء الكردي. ومَن الذي يقوم بمهمّة إصلاح ذات البَين بين الفصيلين الشيعي والسنّي في العراق؟ إنه نائب الرئيس الأميركي جو بايدن الذي أقنع الكونغرس بالتصويت الإيجابي على تكريس انقسام العراق الى ثلاث دويلات: كردية في الشمال، وشيعية في الجنوب، و «الجيب السنّي» في الوسط. وفي معرض مقاربة ما يجري في سورية والتطوّرات الأخرى في المنطقة يتضح بجلاء انزلاق الأمور الى مرحلة متقدمة من «مخطط تقسيم المنطقة وتفتيتها». وعندما صرّح رئيس وزراء تركيا «السلطان» رجب طيّب أردوغان أنه لا يريد أن يرى سورية مقسّمة، جاءه الجواب عبر لجوء الأكراد الأتراك الى التصعيد وتجديد المطالبة بالاستقلال الذاتي. ولعلّ هذا المؤشر، إضافة الى غيره من المعطيات، يفسّر هذا «الانحسار» النسبي في الموقف التركي المعارض لنظام الرئيس بشار الأسد. ثالثاً: لقد علمنا حتى الآن ما الذي جرى، لكنّ الأهم ما الذي سيجري؟ في هذا السياق وبعد مرور وقت طويل أو لنقل غير قصير من الأزمات، على جميع الأطراف المتداخلة في الأزمة السورية إجراء عمليّة خلط أوراق جديدة، وإعادة تقويم لكل النواحي حيث يبدو الجميع في حال إرباك شديد وتخبط، وصولاً الى تقديم طروحات جديدة تتوافق مع معطيات المرحلة وتبعات المتغيّرات التي تسود أجواء المنطقة، لأن رهان كل طرف على سقوط الطرف الآخر لم يعد يلبي ضرورات ما هو سائد على الصعيدين الإقليمي والدولي. وعليه يمكن أن نشهد في وقت ليس بعيداً ظهور بوادر مواجهات ومعالجات المرحلة، أكثر من انتظار المعارضات السورية لانهيار النظام اعتماداً على حلفاء أطلسيين أو غيرهم، وأبعد من رهان النظام على الانقسام القائم داخل صفوف المعارضة بين الداخل منها والخارج، علماً أن ما حدث في الأيام القليلة الماضية عكس وجود شروخ واضحة في مواقف هذه المعارضات، مع ضرورة التنبه لئلا تكون هذه المعارضات ذخيرة حيّة لمطامح أو مطامع غربية بوجه الإجمال. ونسجل في هذا المجال أن الدوائر الأميركية لا تزال تدرس إمكانية منح تأشيرة دخول وإقامة للرئيس اليمني علي عبدالله صالح على أراضيها... ولو لأسباب صحيّة! رابعاً: إن أنهار الدماء التي سالت ولا تزال على الأراضي السورية من موالين ومعارضين لا يمكن أن تستمرّ في هذا الشكل وسط كل هذه الأجواء البركانية السائدة في المنطقة، إذ تحوّلت المواجهات بشتّى أنواع الأسلحة الى حرب استنزاف يتحمل تبعاتها أبناء الشعب السوري بقطع النظر عن ولائهم ومواقعهم في هذه الفترات المفصلية في تاريخ المنطقة. خامساً: وسط هذا التأجيج الخطر والسائد من المحيط الى الخليج صدرت دعوة تحمل الكثير من الأهمية ومن الدلالات، وهي ما أعلن عنه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز من حيث دعوة دول مجلس التعاون الخليجي الى الاتحاد في ما بينها، اتقاءً للأخطار الماثلة أمام الجميع والتي عرض لها أمام القمة الاستشارية الأخيرة لدول الخليج العربيّة والتي عُقدت في الرياض، قبيل نهاية العام الماضي. ولهذه الدعوة الكثير من الأبعاد التي تستند الى رؤية واقعية للأمور وسط الأحداث المتسارعة. يحدث كل هذا، والآتي يبقى هو الأعظم، في خضم حال من السباق والتنافس على مَن يمتلك الحق الحصري للمصالح الغربية إجمالاً، والأميركية تحديداً في المنطقة. وأن دولة قطر التي لعبت دوراً «قيادياً» في إسقاط حكم معمّر القذافي، وتكريس سلطة حلف شمالي الأطلسي، ليست بعيدة من التحرّكات الراهنة والاضطلاع بدور «متقدم» في مسيرة الأحداث. تتحدّثون عن «الحل العربي»! هل يمكن الاعتماد على دور لهيئة أو مؤسسة لم تعد قائمة إلاّ باسم أمينها العام؟ ويبقى القول: إذا لم يسارع العرب الى القيام بدور استدراكي، فهناك مَن يعمل باسم العرب ونيابة عنهم بالوكالة أو بالأصالة. * إعلامي لبناني