في المقال السابق بعنوان «هنا دمشق: الوثائق إن حكت» استعدنا فيه المذكرة التي رفعها زعماء الطائفة العلوية الى سلطات الانتداب الفرنسية في حينه، أعلنوا فيها ما حرفيته... «إن الشعب العلوي الذي حافظ على استقلاله سنة فسنة بكثير من الغيرة والتضحيات الكبيرة في النفوس هو شعب يختلف بمعتقداته الدينية وعاداته وتاريخه عن الشعب المسلم، ولم يحدث في يوم من الأيام أن خضع لسلطة الداخل» (الحياة 4 شباط/فبراير 2012). وانتهينا الى القول... «في معرض التذكير ببعض المواقف التي إندلعت مع اندلاع الثورة في سورية، قول ل «السلطان» رجب طيّب أردوغان: «لقد دقت ساعة التقسيم في سورية». وها هو الرئيس بشار الأسد يشير للمرّة الأولى الى «أن ما يجري في سورية يتخطى أزمة النظام الى العمل على تقسيم سورية». وحتى كتابة هذه السطور، يستطيع الرئيس الأسد أن يزعم أن العالم العربيّ، بل والعالم بأجمعه (تقريباً) في كفة، والحكم في سورية في كفة أخرى. وقد أكّدت الأحداث بكل جوانبها الدرامية والمأسوية أن لا المعارضة أو المعارضات السورية توقعت أن تطول هذه الأزمة ولا الحكم في سورية توقع ذلك بهذا التفصيل القاتل. وفي ضوء التطوّرات اللوجستية والسياسية وكل هذه التداعيات الظاهرة على مسرح الأحداث في سورية، لا بل من طرح السؤال الذي يختزل الكثير من التساؤلات وهو: إلى أين تتجه الأمور من المرحلة التي بلغتها؟ - أولاً: إن ما يجري في سورية معركة حياة وتنازع بقاء ومصير، وعليه فإن أي حل اتجهت فيه الأزمة الخطيرة لن يقوم على تسوية معيّنة، بل ستكشف هذه التطوّرات عن مشهدية جديدة في سورية وبالتالي في المنطقة. - ثانياً: هل حدث خطأ في الحسابات أو في التقدير بين فريق النظام الحاكم، وفرقاء المعارضة السورية، بحيث إن رهانات هذا الجانب أو ذاك وقعت في الأخطاء القاتلة التي نشهدها في كل يوم؟ - ثالثاً: صحيح أن الفيتو الروسي، ومعه الصيني، قدّم غطاء مهماً لنظام بشار الأسد في المعركة الديبلوماسية القاسية التي شهدتها أروقة مجلس الأمن الدولي، لكن الوجه الآخر لهذا الفيتو وما تبعه، رسم وضعاً جديداً في المنطقة أعاد لعبة التجاذب وشد الحبال السياسية بين الغرب الأميركي منه والأوروبي. وعليه لم يعد في الإمكان التوصل الى حل لما يجري من دون الأخذ في الاعتبار نتائج فصل من فصول الحرب الباردة، تذكّرنا بما كان قائماً قبل حقبة التسعينات وقبل سقوط الاتحاد السوفياتي، وما شهده العالم بعد ذلك من «الأحادية» في المواقف التي استأثرت بها الولاياتالمتحدة. وفي هذا السياق لاحظنا مهندس الموقف الروسي للأزمة في سورية، وزير الخارجية سيرغي لافروف يقول لمفاوضيه الأميركيين والأوروبيين إن ما حدث في ليبيا لن يتكرر، وفي ذلك إشارة إلى استئثار حلف شمال الأطلسي بالحل الذي اقتلع معمّر القذافي من جذور حكم تواصل على مدى إثنين وأربعين عاماً. وهذا يعني، في لغة المصالح، أن روسيا حريصة على الحصول على «حصتها» مما يجري في سورية. ولعلّ من هذا المنطلق نفهم العتب الذي عبّر عنه خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، عندما هاتفه الرئيس الروسي ديمتري ميدفديف: «كان عليكم التشاور معنا قبل إقدامكم على استخدام الفيتو لمرتين... والآن لا ينفع الحوار مع النظام السوري». ومن هذا الموقف السعودي الحازم والصارم، لا بدّ من أن تأخذه موسكو على محمل الجد، من حيث التفكير بمستقبل العلاقات العربية – الروسية، لذا ترددت معلومات إثر الاتصال الهاتفي الذي جرى بين الملك عبدالله بن عبدالعزيز والرئيس ديمتري ميدفديف، تفيد بأن روسيا – ربما – تعمل ولو في شكل تدريجي على التغيير في موقفها المؤيد بقوّة الى جانب دمشق. ولكن لن يكون التعويل كبيراً على مثل هذه المتغيرات من جانب المعارضات السورية، الداخل منها والخارج، والذي بات واضحاً اختلاف الأهداف بين «معارضات الداخل» و «معارضات الخارج»، وأزمة الثقة القائمة بين مختلف هذه الأطراف حول كيفية التعاطي مع المواجهة مع نظام بشار الأسد. وحدث خلال الساعات القليلة الماضية انقسام واضح بين مختلف اتجاهات المعارضة السورية مع مطالب بعض «الأجنحة» فيها بأن الحل للوضع المأسوي القائم لم يعد ممكناً إلاّ باللجوء الى الحل العسكري! لكنّ السؤال المنطقي والطبيعي تعليقاً على هذا المطلب: ما هي الدول التي سترسل قوّاتها الى سورية ومع معارضة النظام كي تدافع عن المعارضة أو عن فريق من السوريين بوجه الفريق الآخر؟ وفي هذا السياق تتردد تصريحات على لسان القادة العسكريين الغربيين ومنهم رئيس هيئة الأركان المشتركة للجيوش الأميركية والتي تستبعد كلياً اللجوء الى الخيار العسكري، لأن «سورية غير ليبيا». إذاً، ما هي رهانات الأطراف السورية من الآن وحتى إشعارٍ آخر؟ - رابعاً: لم يعد هناك الكثير من الخيارات للخروج من النفق المظلم في سورية. ويقول وزير خارجية فرنسا ألان جوبيه ل «الحياة»: «إن موقف الروس سلبي وإن خطر الحرب الأهلية في سورية مرتفع جداً؟». وهكذا تستمر المواجهة بين مَن أطلق عليهم بشار الأسد ذات يوم... «أنصاف الرجال»... ورأس النظام الذي هو على استعداد تام للتضحية بكل شيء مقابل البقاء في الحكم مهما كلّف الثمن. إن الشعب السوري على اختلاف ألوانه وأطيافه يئن من الذي يجري، ومدينة حمص، كما معظم المدن والساحات السورية تصرخ: «... هل تخلّى عنّا العالم»؟ إنّ الواقعية السياسية تقتضي من جانب كل المعنيين بشأن ما يجري في سورية، وبقطع النظر عن الانقسامات الحادّة القائمة، فيما أحد فصول «لعبة الأمم» يجري أمام كلّ الأسماع والأبصار، هذه الواقعية تدعو الى التبصر بما هو آتٍ من تطوّرات لأن بورصة الحلول لا تحمل الكثير من المخارج التي يمكن أن تُبقي على مَن وما تبقّى في سورية في حدود الحياة الآن، فاللائحة محدودة ويمكن قراءتها كالآتي: إمّا أن تستمر المواجهات بشتّى أنواع الأسلحة الماديّة منها والإعلامية، وهذا يعني دخول الأزمة في حرب استنزاف طويلة يمكن أن تستهلك كل الطاقات المتوافرة على الساحات السورية وتنتهي باستسلام فريق تجاه الآخر، أو تتحوّل المواجهة القائمة الى حرب أهلية لا تبقي ولا تذر ولكن بعد خراب سورية... (البصرة تجاوزتها الأحداث). وأمّا الحل الأخير المرتسم في الأفق السوري، الجنوح نحو حالة تقسيمية سيكون بلوغ مثل هذه المرحلة أبغض الحلال. وهذا الحلال إن وجد. وفي سياق ربط التطوّرات، العربي منها والإقليمي والدولي، وفي مواجهة إعصار التقسيم الذي يعصف بشدة هذه الأيام، يجب التذكير بالواقع الآتي: مع اندلاع شرارة الحروب الأهلية في 13 نيسان (ابريل) من عام 1975 في لبنان، بدأ معها تسويق فكرة تقسيم المنطقة ولكن أمكن بفعل تطوّرات معيّنة أن توقف هذا المخطط في حقبة التسعينات مع التوصل الى «اتفاق الطائف»، والذي سعت إليه المملكة العربية السعودية لوقف النزيف اللبناني. وانتقل المخطط التقسيمي بعد ذلك الى العراق، وها هو «يتكرّس» مع انسحاب آخر جندي أميركي تاركاً للعراقيين مصارعة الكثير من الهواجس وفي طليعتها تنظيم العلاقات بين بغداد كعاصمة مركزية للقطر العراقي، وسائر القوى الساعية الى انتزاع الحكم الذاتي وغيرها من تعابير المرحلة التي أوقعت المنطقة في أتون الصراعات الطائفية والمذهبية، وهذا هو أخطر أنواع الصراعات والمواجهات. والآن... انتقل المخطّط التقسيمي نحو سورية، ولا يجدي نفعاً الوقوف خلف شعارات ومواجهات لنفي حدوث مثل هذا الاحتمال، بل يجب العمل على تجنيب هذه المنطقة ويلات ما ينتظرها في الآتي من الأسابيع والشهور والسنوات. وعندما يصبح الحكم هو الهدف الأخير المبتغى مهما بلغ الأمر من أثمان باهظة، من جانب فريق، ورغبة فرقاء آخرين في خوض معركة يريدها البعض حفاظاً على ما تبقى من سورية، فيما يتم استخدام أطراف أخرى لتحويل الحروب القائمة من الزخيرة البشرية الحيّة الى معركة شخصية وتصفية حسابات أكثر منها صراعاً على الأهداف الوطنية. هذا ما يحدث حالياً... وما زال المطلوب وبإلحاح شديد الاستمرار في ربط أحزمة المقاعد وسط الأنواء والأعاصير التي تعصف بالمنطقة. وليس باستطاعة أي طرف الاكتفاء بأن «ينأى» بنفسه عما يجري ليكون في الموقف الآمن والسليم. فكل المنطقة لم تعد سالكة ولا آمنة، ليبقى الآتي هو الأعظم. ويسأل الناس ببساطة وسذاجة أحياناً: هل هناك ما هو أعظم مما حدث؟ في لعبة الأمم يا سادة يسقط الصغار في لعبة الكبار. * إعلامي لبناني