لم يكن 2011 عاماً عادياً في تونس، بل كان الاستثناء سيد الموقف بكل المقاييس وعلى كل الواجهات. اكتسب بعض الفنانين شرعية ثورية، وفقد فنانون آخرون، عُرفوا بحضورهم وجماهيريتهم، مكانتهم لدى المتلقّي وإن بنسب متفاوتة. إذ شكلت الأسابيع الأولى للثورة فرصة حاسب من خلالها التونسيون فنانيهم فاعتُبر البعض خائناً أو جباناً، فيما التُمس العذر للبعض الآخر. وليس غريباً إصدار الجمهور التونسي أحكامه على عدد من الأسماء المعروفة، بحكم الصمت الذي التزمه أصحابها، ليس خلال فترة حكم الرئيس السابق فحسب، بل حتى في أيام الغليان والبطش بالثائرين. ولم تصدر المواقف المؤيدة للمدّ الشعبي إلّا من جانب قلّة قليلة من الفنانين، فيما غاب الكثيرون عن الخطوط الفنية والثقافية الأمامية ضمن الاحتجاجات. على مستوى الموسيقى، كانت الغلبة واضحة للمجموعات الموسيقية الملتزمة التي لطالما قُمعت ومُنعت في ظل نظام زين العابدين بن علي. وأصبح حضور الفرق، التي تقدم الأغنية الملتزمة أو البديلة أو السياسية، كما يسميها البعض، قويّاً جداً، وبات من المنتظر، في برمجة أي مهرجان أو تظاهرة ثقافية، أن نقرأ عن حفلة لهذه الفرقة أو لذاك الفنّان. أسماء بعينها راحت تتكرر وتتجول في طول البلاد وعرضها لتقديم حفلات قد يؤمّها الجمهور وقد لا يفعل. وأصبحت مجموعات «البحث الموسيقي»، مثلاً، و «عيون الكلام» و «الحمائم البيض» و «أولاد المناجم» مطلوبة في شدة لتقديم عروض موسيقية وغنائية. كما برز الفنان الشاب بيرم كيلاني الملقب ب «بندير مان»، إذ تابعه الكثيرون وحرصوا على الاستماع إلى جديده باستمرار، نظراً إلى طرافة الطرح في أعماله الغنائية وطريقته الخاصة في تقديم أفكار يتشاركها الجميع في الشارع التونسي. ولمع أيضاً نجم المغنية المقيمة في باريس آمال المثلوثي التي شاركت في التظاهرات قبل هرب الرئيس المخلوع. خذلان «الراب» وفي حين انتظر كثيرون أن يزداد نجم مغنّي «الراب» صعوداً، حدث العكس، فانحسر ظهورهم وقلّ جديدهم. حتى «بسيكو أم»، أو «الجنرال» الذي ملأ الدنيا وشغل الناس قبل الثورة بأسابيع عندما اعتقل بسبب نشره أغنيته الشهيرة «رايس البلاد» على «فايسبوك»، تضاءل حضورهما. وقلّ، في شكل لافت، حضور أهمّ الأسماء في فضاء «الراب» في تونس، مثل محمد صالح بلطي ووجدي ماسكوت، وهما الوجهان اللذان اشتهرا خلال السنوات الأخيرة. وفي المقابل، وبعد ما يمكن اعتباره مرحلة «الصدمة» والفراغ الذي ساد البلاد على مستوى الإنتاج الفنّي، قدّم عدد من المطربين التونسيين المعروفين أعمالاً جديدة، كانت غالبيتها أغانيَ وطنية، لكنها لم تحقق رواجاً في الفضائيات التونسية الحكومية والخاصة، وحتى على مستوى الإذاعات، بل يكاد الجمهور العريض لا يعرفها. وهذا ما جعل الكثير من المغنّين يبدون استياءهم من قلة مرور أغانيهم الجديدة، في حين تمرّ الأغاني الشرقية، متهمين المؤسسات الإعلامية التونسية بالمحاباة وكأن شيئاً لم يتغيّر في البلاد. وأمام انحسار الأغاني العاطفية، لم تشهد تونس سوى عدد قليل من الألبومات الجديدة، لعلّ أهمها ألبوم «هايمة» لعبير نصراوي و «لو تنسى» لشهرزاد هلال. وفي هذا الإطار تقول الفنانة سنيا مبارك، صاحبة المسيرة الموسيقية المهمة والتي ترأست مهرجان الموسيقى التونسية لعدد من الدورات، إن «المشهد الثقافي يسير اليوم على وقع السياسة، ولا يمكن في حال من الأحوال أن نتجاهل المسار التاريخي الذي دخلته تونس منذ 17 كانون الأول (يناير) 2011، وأعتقد أن ثمة فنانين كسبوا شرعية ثورية بعد انتصار الثورة مباشرة، وتمكّنوا من توظيف الفنّ كوسيلة مهمة للتعبير، مثل أغاني «الراب»، وقد تابعنا أعمالاً لافتة في هذا الإطار». وتضيف مبارك أنها سعت إلى تقديم عمل، خلال الأيام الأولى لنجاح الثورة، اعتبرته بمثابة هدية لشباب تونس الذي ثار على الديكتاتورية: «اتصلت، يوم 14 كانون الأول (يناير) بالشاعر الراحل محيي الدين خريف، في ساعة متقدّمة من الليل، لأطلب منه أبياتاً كتبها، فلحّنتها ونشرتها على موقع فايسبوك، بعدما سجّلتها في بيتي، كانت بعنوان «ثورة الصامدين»، واعتبرتها أقل ما يمكن تقديمه». وحول ما تتوقع أن يكون عليه المشهد الموسيقي، تقول: «الآن يبدأ المشهد الموسيقي والفنّي عموماً التشكّل، أي مع اتضاح الرؤية السياسية العامة للبلاد، لأن الأمور تغيّرت، ولم يعد الفنان تحت سُلطة الحاكم الواحد. وأتمنى أن نشهد أعمالاً مهمة خلال المرحلة المقبلة، وأن يأخذ الفنان موقعه الحقيقي كناقد وحاسّة مستقلّة، ما يمنحه فاعلية أكبر في مجتمعه». الفوتوغرافيا تسبق التشكيل مسرحياً، يبدو الأمر أفضل نوعاً ما. أُنجزت أعمال كثيرة خلال الأشهر الماضية، كما واصل بعض المخرجين أعمالاً بدأوها وتوقفت خلال الثورة، فيما أعاد البعض الآخر إنتاج أعمال سابقة. فقدّم لطفي عبدلّي مسرحيته «صنع في تونس» أو «Made in Tunisia» مع إضافات تتماشى وما تشهده تونس، مع أنّ المسرحية حملت، منذ نسختها الأولى، بُعداً نقدياً لاذعاً، أثار حولها الجدل خلال جولتها في 2010. وفي كل الحالات يرى متابعون كثر للحركة المسرحية التونسية أنّ الثورة لم تنتج أعمالها بعد، وربما يعود هذا إلى عدم مواكبة المسرحيين، ومثلهم الموسيقيون، للمرحلة الاستثنائية التي تمرّ بها تونس، وفق آراء لمتابعين، وحملت آخر المسرحيات توقيع «فضاء التياترو» تحت عنوان «الخلوة»، فتفاعلت مع ما عاشته تونس في موسم الانتخابات وما رافقها من أجواء سياسية مشحونة. ويتحدث الكاتب والناقد المسرحي، عادل النقاطي، عن المشهد المسرحي التونسي بعد الثورة فيقول: «بعد نجاح الثورة، وتوقف كل شيء ما عدا الحالة الثورية التي تواصلت لأشهر، خرجت مسرحيات كان قد بدأ إنتاجها قبل 14 (كانون الثاني) يناير، ولم تستكمل بنيتها المسرحية، فأنجزت وعرضت، كمسرحية «سارس» ل «نواقيس المسرح» من إخراج الجيلاني الماجري. كما بدأت فرق أخرى إعادة تقديم أعمالها القديمة. فافتتح مهرجان الحمّامات الدولي مثلاً بمسرحية «تحت برج الديناصور»، للمخرج الراحل عبد الوهاب الجملي، وقدّمت فرقة مركز الفنون الدرامية في الكاف عملها الأخير في مهرجانات صيفية عدة». ويتابع: «اختار بعض المخرجين تقديم أعمال فردية تواكب الثورة، كمسرحية «خويا ليبر»، للمخرج منير العرقي وتمثيل جمال مداني، وأخيراً خرج الممثل فؤاد ليتيم على الجمهور بمسرحيته الفردية «مونولوغ السبسي». ويؤكد النقاطي أن «الثورة لم تنتج حتى الآن أعمالها، وما زال بعض المخرجين في مرحلة استيعاب اللحظة التاريخية التي ذهبت بالرقابة، ولعلها بذلك عسّرت مهمتهم، فلم تعد المراوغة مبررة، وتغليف المحتوى السياسي بخطاب آخر لم يعد يثير أحداً». فالحرية تحدٍّ فني أيضاً، على ما يبدو، إذ يخشى الفنان الوقوع في فخ الرسالة المباشرة، وفي الوقت نفسه لا يسعه الاطمئنان التام إلى أساليب التورية ما لم تكن مسبوكة فنياً. المشهد الثقافي في تونس، بعد «ثورة الياسمين»، ولئن سقط في شبه غيبوبة خلال الأشهر الأولى، أفرز الكثير من المعارض التشكيلية والفوتوغرافية، كان أولها معرض الفنان عبدالباسط التواتي بعنوان «حديث الجدران»، حيث قدم شهادة توثيقية للثورة عبر صور التقطها بكاميرته ل «الغرافيتي» على الجدران. ولقي المعرض إقبالاً لافتاً، نظراً إلى طرافته، ما جعله يكرّر التجربة مع الثورة الليبية. ويبدو أن المعارض الفوتوغرافية فاقت معارض التشكيل لأسباب عدة، ربما أهمها نزوع الغالبية إلى التوثيق الحي والمباشر الذي يتيحه التصوير، بدل الدفع بالحدث في اتجاه فكرة تعالجها اللوحة بطريقة هذا الفنان أو ذاك. وقد تكون «مرحلة الاستيعاب» التي تحدّث عنها النقاطي كفيلة بإطلاق نتاجات الفنانين التشكيليين خلال الأشهر وربما السنوات المقبلة. هكذا، تتجلّى ملامح المشهد الفنّي في تونس على مدى عام كامل، شهد فترات فراغ طويلة، لينطلق بعدها الحراك الثقافي في أشكال متنوعة تشي بمرحلة ثرية يترقبها الفضاء التونسي العام.