السجن، المنفى، أو تجميد العمل... ثلاث عقوبات لم ينج من إحداها أصحاب الأغاني الملتزمة سياسياً في تونس قبل الثورة. فإن لم يسجن الفنان، مثل حمادة بن عمر الملقب بالجنرال، فسيمنع من الغناء مثل الفنان نبراس الشمام، أو سينتهي به الأمر في المنفى مثل بيرم الكيلاني الملقب ب «بندير مان»، وفي أحسن الأحوال ستمنع أغانيه من البث عبر وسائل الإعلام التونسية مثل آمال المثلوثي. وكل ذلك لمجرد أنهم حاولوا التعبير عن واقعهم بكلمات ولحن وأداء. يتفق كثيرون من المهتمين بالأغنية الملتزمة في تونس على أن نظام زين العابدين بن علي سعى إلى تخريب الذائقة الفنية. بالنسبة إلى نبراس شمام، مؤسس مجموعة البحث الموسيقي، الأغنية الملتزمة في زمن بن علي دفعت ثمناً باهظاً لالتزامها. فمجموعته، التي تأسست عام 1979 في مدينة قابس، تعرضت للحصار مرات لا تحصى، «ووصل بهم الأمر إلى تجميد وظيفتي 15 سنة، وطردت منها لمدة سنتين في تسعينات القرن الماضي». وعلى رغم الحصار، ظل الشمام، مثل كثيرين في تونس، يعمل ضمن أطر مختلفة لتتوقف فرقته نهائياً عام 1995. الى «رايس البلاد»... وخلافاً لفرقة البحث الموسيقي التي ناضلت مع شباب السبعينات والثمانينات، للشباب التونسي اليوم أغنية ملتزمة من نوع آخر، لا سيما «الراب» الذي يعبرون من خلاله عن رفضهم الواقع الاجتماعي والسياسي. و«الراب» شكل موسيقي مختلف، لكنه لم يهمل اللحن والجمل الموسيقية إلى جانب الكلمة الهادفة والإيقاع الحماسي. فأصبح «الراب» مثل «الورم» الضارب عميقاً، إذ فشلت حكومة بن علي في انتزاعه، واستطاع هذا الفن على حداثته أن يؤدي الرسالة التي يحتاجها الشارع في عهد الديكتاتورية، لكنه عرّض أجرأ فنانيه للملاحقات، كما حصل مع «الجنرال» الذي اقتاده عناصر من البوليس السياسي إلى دهاليز وزارة الداخلية ليمكث فيها أياماً، قبل الثورة مباشرة، بعد ان توجه إلى شخص الرئيس بن علي في أغنية «رايس البلاد» قائلاً: «رايس البلاد، هاني اليوم نحكي معاك، باسمي واسم الشعب الكل، اهبط للشارع وشوف». التعتيم الإعلامي والتغييب عقوبة أخرى كان النظام يسلطها على الأصوات المعروفة بجرأتها مثل آمال المثلوثي التي تقول إن نظام بن علي لم يمنعها يوماً من الغناء لكنه منع بث أغانيها في الإذاعات والتلفزيونات فاقتصر نشاطها على النوادي الشبابية. أما منير الطرودي، الذي منع إعلامياً أيضاً، فاختار لنفسه وسيلة «فايسبوك». الطرودي، صاحب أغنية «سيب صالح يا عمار» التي أطلقها على خلفية حملة «عمار 404» المناهضة للحجب الذي مارسته الحكومة على الكثير من المواقع الإلكترونية. أما بيرم الكيلاني الملقب ب «بندير مان» فكانت أغنياته تنتقد النظام بطريقة مباشرة، وهو ابن المعارض محمد الكيلاني ويقيم في المنفى. يقول إنه اختار لقب «بندير مان» (أو رجل البندير) لأن «البندير» آلة موسيقية تشبه الطبلة وترمز عند التوانسة إلى التهليل للحاكم والإشادة بكل ما يقوم به. «بندير مان»، كغالبية الشباب الثائرين، عُرف من طريق «فايسبوك» وكانت أشهر أغنياته قبل الثورة «ما تمسش السيستام (النظام) لا يضربك الضو»، في إشارة إلى أن من ينتقد نظام بن علي يتعرض إلى التعذيب بالكهرباء. أما بعد الثورة فغنى بيرم «باش طيح السيستام (النظام) إرفع صبعك اكهو»، ويعني أن الإطاحة بالنظام كانت أسهل بكثير من المتوقع. كل التضييقات التي عاشها الفنانون التونسيون الملتزمون لم تثنهم عن مواصلة الطريق، فإيمانهم قاطع بأن الفن «نضال أو لا يكون» كما يقول الشمام. وتقول الفنانة آمال الحمروني إن «دور الأغنية الملتزمة سيتواصل والفنان الملتزم ثائر على الدوام ولن ينحاز إلا إلى الطبقات الكادحة التي كانت شعلة الثورة التونسية، وغنّى لها لطفي بوشناق: «هذه غناية ليهم، الناس اللي تعاني ونساتهم الأغاني، هذه غناية ليهم من القلب تحييهم». من الانترنت الى الاعلام التقليدي حررت الثورة الأغنية الملتزمة كما البلد. أصبحت المحطات الإذاعية والتلفزيونية تبث تلك الأغاني يومياً بعد سنوات طويلة من الإقصاء. أعادت الثورة للأغنية الملتزمة بريقها وانتشارها وحرية فنانيها. فاختير «الجنرال» بين مئة شخصية مؤثرة في العالم، ولقّبت آمال المثلوثي بسفيرة الثورة التونسية بعدما نشرت قناة «العربية» فيديو لها وسط الاحتجاجات وهي تغني «أنا حرة وكلمتي حرة». شرارة الثورة نقلت «بندير مان» والطرودي من صفحات الإنترنت إلى الغناء أمام جماهير غفيرة وفي إطار مهرجان قرطاج، أعرق المهرجانات العربية. كما عاد الشمام إلى إحياء الحفلات وأصدر «سي دي» يحتوي على أغان ثورية بعد التوقف عن الإنتاج 16 سنة. وتستقبل تونس ما بعد الثورة فنانين ثوريين عرباً، كان النظام البائد منعهم من الغناء، مثل الفنانة الفلسطينية ريم البنا التي تقول: «أشعر بالفخر كوني أول فنانة عربية وأجنبية تشارك الشعب التونسي الفرح بثورته». ومثلما انطلقت شرارة الثورات العربية من تونس، ينطلق منها اليوم مهرجان الثورات العربية في دورته الأولى تحت شعار «عندما تسقط الديكتاتوريات ينتصر الإبداع»، ويخصص لتكريم الأغنية الملتزمة، مستضيفاً أصواتاً من تونس ومصر وليبيا وفلسطين، ويتواصل حتى نهاية الشهر الجاري في محافظات البلاد كافة. ولكن، في الندوة الصحافية التي عقدت لإعلان برنامج المهرجان، فوجئ مديره السعد خضر بالحضور الضئيل لوسائل الإعلام التونسية، ولم يحظ المهرجان بالتغطية الإعلامية اللازمة، على رغم انتهاء قيود النظام السابق. وتخلّف هذه الحادثة أسئلة عدة، منها: هل كان بث وسائل الإعلام التونسية للأغنية الملتزمة، واهتمامها الكبير بها أيام الثورة، مجرد فرحة بانتهاء نظام مستبد وليس فرحة بانتصار الأغنية الملتزمة؟ وهل تحتاج الأغنية الملتزمة إلى ثورة جديدة حتى يهتم بها الإعلام التونسي؟