«الشعب يريد... الإسلام». تلك هي الخلاصة التي يمكن أن تتكون لدى قراءة استطلاع للرأي أجراه في مصر قبل بضعة أيام مركز الأهرام للدراسات والبحوث. اللافت للنظر أن هذه الخلاصة تتطابق إلى حد بعيد، وإن بمقادير متفاوتة، مع نتائج الحراك الشعبي وانتفاضاته في غير بلد عربي، خصوصاً في البلدين اللذين شهدا انتخابات حرة ونزيهة بعد عقود من الحكم التسلطي والانتخابات المزوّرة، تونس ومصر. والحق أنّ المسألة كلها تدور، تعريفاً وتأويلاً وتوظيفاً وترميزاً، على كلمة واحدة: الإسلام. وقد يتبادر إلى ذهن بعضهم، خصوصاً في أوساط النخبة الحديثة أو الحداثية، سؤال لا يخلو من الوجاهة من نوع: هل يصح إطلاق صفة «الشعب» على مجموعات بشرية تتطلع في غالبيتها إلى تلخيص وجودها وكينونتها بإشهار هويتها الدينية حصراً؟ أو ليس «الشعب» في هذه الحالة هو التقديم المستحدث واللائق للجماعة أو حتى للقبيلة؟ وهل يمكن التمييز بين مصطلحي الجماعة والأمة؟ يمكن أن نستولد أسئلة أخرى من الطراز ذاته. وهذه الأسئلة تتخذ كما نعلم صيغة تساؤلات إنكارية لدى أصحاب النظريات والمقولات الثقافوية التي تردّ كيانات وظواهر معقدة ومتشابكة إلى جوهر وأصل ثقافي مصمّت وعابر للتاريخ. وهي تساؤلات من نوع: هل يمكن أن تنبثق الديموقراطية من المسجد؟ هل يمكن أن يتعايشا داخل منظومة واحدة من القيم؟ إذا كان «الشعب» هو التعريف الحديث، إلى جانب العقل، لفاعل سياسي وحقوقي لا قوام للحداثة من دونه، فهل يجوز خلع التسمية بسخاء على جماعات وعصبيات تقوم لحمتها على القرابة ووحدة المعتقد إلخ...؟ نعرف أيضاً أن هذه المقولات باتت بضاعة رائجة وجزءاً من ايديولوجيا النخب الإعلامية والدعوية في الغرب، ولدى بعض أهل النخبة في العالم العربي والإسلامي، وذلك بفعل العدوى أو التأثّر أو المثاقفة. سنسارع إلى التذكير بأن الباحث المصري الذي أشرف على إعداد وتنفيذ الاستطلاع المشار إليه سارع بدوره، وبحق، إلى التشديد على أن نزوع غالبية المستطلعين إلى تأييد القوى ذات الصفة الإسلامية لا يستدعي إطلاقاً حمل هذه الصفة على معنى واحد، إذ هي في الواقع محل توظيفات ومقاربات وتفسيرات مختلفة. هذه الصفة حمّالة أوجه إذاً ويتزاحم فيها مقدار من التركيب والتلفيق والتجريب بين، وعلى، أفكار ومبادئ تتوزع على مرجعيات قيمية مختلفة. ويفهم من هذا أننا حيال نوع من الفوضى الدلالية أو الاضطراب الدلالي إذا شئنا التخفيف. ويفترض منطقياً أن لا يتحمس أصحاب القراءة الثقافوية والجوهرانية للانتفاضات الشعبية التي انطلقت شرارتها من تونس ومن ثم مصر. فالمطلعون على واقع هذه البلدان كانوا يعلمون أن التيارات الإسلامية تتمتع بشعبية واسعة ومتزايدة. وكان خبراؤهم ونخبهم يعلمون أن «الإسلام» سيكتسح صناديق الاقتراع. ولا تعوزهم الفطنة بحيث يخلطون بين الديموقراطية وحقوق الإنسان وبين الانتخابات. كما أن نخبويتهم العالية تدفعهم إلى الحذر من فتح صناديق الاقتراع أمام جحافل المكدسين في أحياء الفقر والبؤس، ناهيك عن كون هؤلاء من هوامش التحديث وسواقطه مما يجعلهم أصحاب ضغينة على الحداثة أصلاً وفصلاً. وقد أظهرت حكومات ومراكز إعلامية ودعوية غربية ما يكفي من التردد، كي لا نقول من المراوغة، حيال الحراك الشعبي ضد نظم سلطوية تقتصر شرعيتها على وظيفة أمنية هي وقف المد الإسلامي ومشاركة الغرب حربه الكونية على الإرهاب والتطرف. هذا ما ظهر في بداية الربيع العربي، خصوصاً في ما يتعلق بمصر ولاعتبارات بديهية. لقد حصل شيء غامض إذاً استدعى تعديل الموقف مع السعي الحثيث إلى التحكم بالمسارات المستجدة. وهذا ما وفرته الحالة الليبية وعبقرية العقيد. هناك انطباع سائد في أوساط واسعة وعريضة من المسلمين وهو أن مراكز البحث والدعاوة وصناعة الرأي الوثيقة الصلة بالحكومات وكبرى الشركات في الغرب عملت على صناعة صورة سلبية عن كائن اسمه «الإسلام»، وذلك منذ نيف وثلاثة عقود وخصوصاً مع الثورة الإسلامية في إيران. لا يعني هذا بالطبع أن المسلمين ضحايا مؤامرة شيطانية أو أنهم محقون في كل ما يفعلون. لكن المسألة تتعدى السجال المعهود بين هويتين كليتين مزعومتين. هذا السجال عقيم. فالموضوع هو ارتباط الصور والمعرفة بعلاقات السيطرة وبإعادة إنتاجها في ظل شروط وأوضاع متحركة. الذين يصنعون صورة نمطية عن الإسلام يفعلون ذلك لحاجات السيطرة، المادية والرمزية في آن. ويقتضي ذلك منهم في معظم الأحيان نزع «الإسلام» من أي سياق اجتماعي وتاريخي. وكما حصل أيام الحرب الباردة حيث كانت كل قوة عظمى تحمي أتباعها وزبائنها أياً تكن مواصفاتهم، يحصل ذلك مع الإسلام وبقدر ما يزداد ثقله. معلوم أن اعتداءات 11 أيلول (سبتمبر) أطلقت العنان لحملة إيديولوجية جامحة تولاها خبراء المحافظين الجدد قبل أن يكتشفوا فضائل التمييز بين إسلام معتدل في ذاته و«إسلام متطرف وإرهابي في ذاته أيضاً. على أن القرقعة بمعزوفة الفاشية» الإسلاموية والشمولية وثقافة العنف والموت أسفرت عن ترسيخ صورة في مخيلة قطاعات عريضة في المجتمعات الغربية، وهي صورة «تجنسن» المسلمين وتذيب عشرات المجتمعات التاريخية واللغات والتقاليد المختلفة في هوية أصلية تصدر عنها أفعالهم. هناك مقياس واحد وحيد يقوم على الاختزال والتبسيط المستندين إلى نزعة مركزية غربية: الإسلام الذي يقف إلى جانبنا أو يتصالح ويتكيف مع مقتضيات سيطرتنا هو معتدل وطيب وإن كان يحتاج إلى الرعاية التربوية. أما الإسلام الذي يعارض هذه السيطرة فشرير ومتطرف وخطير وينبغي أن يعاقب. وهذه الصناعة المؤدلجة والقائمة تعريفاً على الكيل بمكيالين جارية على قدم وساق الآن وأمام أعيننا. ومثل هذه البضاعة المغشوشة لا يفيد في فهم الظواهر المتصلة بالإسلام والتي تعنينا بطريقة ملحّة. فلنقل إنّ «الإسلام» هو العنوان المتعدد الدلالات الذي تستخدمه فئات واسعة للتعبير عن تموضعات مختلفة في العالم الحديث والمعاصر. وهو يحيلنا وفق مساره التاريخي والاجتماعي المعقد على ثلاثة مدارات كبرى: الإسلام كديانة في المعنى الحصري المنطوي على نواة من العقائد والعبادات والشعائر، وكصفة لحضارة متعددة المساهمات، وكعنوان لتجربة تاريخية تلونت بألوان المجتمعات التي قولبها وقولبته، أي التي تأثرت به وأثّرت فيه. أحوال مجتمعات الحراك العربي اليوم لا تشذ عن هذه الترسيمة حيث خصوصية كل بلد تعود إلى حد كبير إلى كيفية التوليف بين هذه المدارات أو عدمه أو تجاذباته أو ترجيحات كفة على كفة وفقاً لتطلعات وتحولات الفئات العريضة في هذا البلد أو ذاك. ومصر هي المجهول الأكبر حتى إشعار آخر.