حفلت «ثورات» الربيع العربي، ولا تزال، بمفارقات بالغة الدلالة. وقد يكون صعود الإسلاميين، المتحقق في غير بلد، والمرتقب في الحال السورية وسواها، ليس سوى الشجرة الكبيرة التي تحجب غابة مفارقات أبعد غوراً. قد يستدعي ذلك إعادة النظر في جهاز الأفكار والمصطلحات المتداولة في سوق التواصل الإعلامي والاجتماعي وترجيحه لطرائق في قراءة الانتفاضات. فماذا لو كانت أدوات القراءة هذه غير صالحة أو حتى غير مناسبة للأثقال الفعلية والفاعلة في حراك قطاعات اجتماعية عريضة في هذه البلدان. لا يعدم مثل هذا التساؤل توفره على أسانيد تعزز صلاحيته. فماذا لو كانت الكلمات الكبيرة المرفوعة أعلاماً ورايات، وأسماء لأحزاب ومنظمات وصل بعضها إلى السلطة، كالحرية والعدالة والكرامة والدولة المدنية والنهضة إلخ، لا تنتظم في مرجعيات دلالية مستقرة؟ والحال أن المشهد الانتفاضي تصدّرته واجهة إعلامية وشعائرية تداولت عبارات مرموقة بصفتها دلالات منسجمة مع ثقافة العصر الحديث السياسية والحقوقية. إلا أن المدلولات الحقيقية التي يفترض بهذه الدلالات أن تحملها قد تكون في أمكنة أخرى قصية وفي أزمنة اجتماعية ضعيفة الصلة بالحداثة منظوراً ومشروعاً وشروط بناء تاريخي وثقافي. وهذا الاضطراب الدلالي المرمي على وجوهنا وألسنتنا يرقى إلى عصر النهضة وسياسات التوفيق أو التلفيق بين تقاليد فكرية وذهنية متوارثة وبين لغة عصر حديث وتحديثي فرضها الاحتكاك بأوروبا وصور دولها القومية. يترتب على تشخيص نقدي من هذا العيار جبل من الأسئلة والمسائل المقلقة والمسببة لصداع لا شفاء عاجلاً منه. على أن الصداع لا يصيب كل الرؤوس ولا تتسبب مفاعيله بالمقدار ذاته من الحيرة والألم والتوجس. فهو يصيب بالدرجة الأولى الفرد القلق الحديث المتشوق إلى مثال سياسي عقلاني وتعاقدي صريح تستمد منه شرعية السلطة القانونية ونظمها الوضعية وما تقتضيه من ترجيح لصفة المواطنة على صفات الولاء والانتماء الأخرى للأفراد والجماعات. وغني عن القول إن استواء صفة المواطنة هذه لا يتحقق من دون توافر الرافعة التاريخية لشروط التجسد المواطني، أي الاستقلال الوطني. والاستقلال ليس محمولاً على معنى الانغلاق والارتياب بكل ما هو خارجي وأجنبي، كما لا يذوب في فكرة السيادة التي يمكن أن تستولي عليها عصبية أو نخبة استبدادية لا تميز ولا تفصل بين الإقليم الوطني وبين امتيازات سلطتها الفئوية واعتبار الإقليم امتداداً لجسم الحاكم. المقصود بالاستقلال أن تحصل جماعة وطنية على حقها في تقدير مصالحها وتقرير مصيرها وتسيير شؤونها. ولا يكون ذلك من دون توفير شروط اقتصادية وإدارية تتيح أكبر مقدار ممكن من الاندماج الاجتماعي، ما يستدعي تبدلاً في النظم الاجتماعية والأهلية، ويطاول تحديداً الوظيفة السياسية لمنظومات القرابة. ونحن نعلم أن البنى القرابية لا تخلو من التنوع وتتفاوت مكانتها ووظيفتها ليس فحسب بين بلد وآخر، بل داخل البلد الواحد، وحتى داخل المدينة الواحدة التي أصبحت في أيامنا محض إطار سكني وجغرافي تتجاور فيه جماعات أشبه بجزر مضطربة بسبب اضطراب مبادئ لحمتها وسعيها إلى التماسك والنفوذ. يبقى أن هناك وجهاً مشتركاً للسلطة في العالم العربي هو، عموماً، موقع العلاقة القرابية ومشتقاتها ومثالها في ترسيخ السيطرة وإدامتها. والحال أن الناظر في المواصفات الغالبة على الانتظام الأهلي في غير بلد، منتفضاً كان أم غير منتفض، وتوزعه على مروحة من الولاءات الطائفية والقبلية والمذهبية والجهوية، لن يعوزه التشاؤم حيال إمكان استقرار الدولة الوطنية الحاضنة بالتساوي أبناءها كافة. فالسؤال عمن يصنع الآخر الدولة أو المواطن يكاد يدور في حلقة مفرغة كالسؤال عن أسبقية البيضة أم الدجاجة. ولا يمكن معالجة مسائل كهذه إلا في سياقاتها التاريخية والسوسيولوجية. والملاحظ في مقاربة الثورات تضخم الخطاب الأيديولوجي والدعوي على حساب التحليل الاجتماعي. ويخشى أن يجد هذا التضخم مكافئه في خيبة أمل وإحباط باتت نذرهما تفوق مكابرات الدعاة والراغبين في التشفي والمتلهفين إلى السلطة بأي ثمن. فما هو جار على قدم وساق يشي بالسعي إلى المطابقة بين الدولة والقوة المتمكنة والنافذة في المجتمع، على ما يستدل من التجربتين المصرية والتونسية. ففي هذين البلدين تتوافر مقادير عالية من التجانس الاجتماعي ورسوخ الهوية الوطنية وإقليمها الجغرافي. ولا ينطبق هذا على أحوال بلدان أخرى كليبيا أو اليمن أو حتى سورية. ثمة بالطبع من يستخدم مثل هذه الملاحظات والتساؤلات للتشكيك في جدوى الانتفاض وقيمته، بدعوى أن الإسلام السياسي الصاعد سيقضي على مكتسبات التحديث جملة وتفصيلاً، لأنه قوة نكوص وعودة حرفية إلى زمن سالف لا مكان فيه للتفكير الحر. على أن الاعتقاد بأن زمن الإسلاميين المنتصرين وأدبياتهم تلخص الصفة الإسلامية العريضة لمجتمعات وثقافات شديدة التنوع ومتفاوتة التشكل لهو اعتقاد متسرّع وإن كان يريح كثيرين من عناء البحث والتقصي. فالأقرب إلى الصواب أن تعاظم الظاهرة الإسلامية من عوارض أزمة عميقة تعصف بمجتمعات بات كل شيء فيها تقريباً، بما في ذلك ممارسة التدين، بلا مرجعية واضحة وبلا شرعية مستقرة، ما يجعلها عرضة للتشظي والتذرر. ينبغي أن نضع الظاهرة السلفية الجهادية على حدة إذ هي من مفاعيل مثال عولمي لا يمتلك من مواصفات العولمة سوى التحليق فوق الحدود الوطنية. الحركات الإسلامية - الوطنية تستدعي اهتماماً أكبر إذ فيها تختبر محاولات المواءمة بين هوية دينية عريضة وبين متطلبات الدولة الوطنية الحديثة. قد لا تنجح هذه المحاولات، وقد تتسبب بشروخ إضافية وتوسيع للهوة بين دوائر اجتماعية لا تحتكم إلى نمط واحد من الشرعية. وليس مستبعداً أن تتوالد الهوة داخل صفوف الإسلاميين أنفسهم. ذلك أنهم ليسوا بمنأى عن أزمة الشرعيات العميقة التي أطاحت النخب الحاكمة ونموذجها السلطاني. بل نرجح أن تجد هذه الأزمة طريقها وصورتها داخل الإسلاميين وعلى أرضيتهم. ولا يعود ذلك فقط إلى فقر منظومتهم الفكرية، كما يحسب مؤدلجو الحداثة، بل خصوصاً إلى اضطراب الأسس الاجتماعية والثقافية لشرعيتهم. ستتلوّن تجارب الإسلاميين بألوان المجتمعات التي تحتضنهم وهي ليست ناصعة ولا جلية حتى في منظوماتها القرابية. زمن الإسلاميين هو زمن سيرورة شديدة الاضطراب. الكارثة هي في عدم التروي والاستدراك، أي في الهروب إلى الأمام.