شاع. وحاز على شعبية كبيرة في السنوات الأخيرة، «المنهج» الذي يفسر أوضاع مجتمعاتنا المعاصرة بالثقافة، وبخاصة بالدين. ولقد التقت عوامل متعددة لتفسير شعبية هذا المنهج الثقافوي، منها كونه شرحاً شاملاً وبسيطاً معاً لأوضاع معقدة تبدو أنها بلا مخرج. ومنها انتشار النزاعات الدينية والطائفية في منطقتنا في العقد الأخير، وتنامي حضور التمايزات الدينية والمذهبية في الوعي العام، ومنها شيوع نظرية صراع الحضارات، وهي نظرية ثقافوية وطائفية في النظام العالمي. وليس أقلها شأناً شبكة الانترنت العصية على مراقبة السلطات السياسة والدينية، والتي «دمقرطت» الكتابة، وأتاحت فرص نشر وتعبير عن الرأي لعموم الجمهور المتعلم، مقابل تخفيض المعايير المعرفية والأخلاقية للكتابة، وجعل هذه تعبيراً شبه مباشر عن الأهواء والهويات. ثم إن الثقافوية هي المنهج التفسيري الطبيعي للإسلاميين، وهم من أكبر المستفيدين من ثورة الاتصالات، الانترنت والأقنية الفضائية خاصة. وهذا كله في مجتمعات لم تتعود على القراءة والتفكير المنضبط، وخبرت طوال جيل تدهوراً في قيمة وحضور الإيديولوجيات الوطنية واليسارية التي لطالما نظرت شزراً إلى الهويات الفئوية ودفعتها إلى نطاق المكبوت. ويبدو أن نوعية الطلبات الاجتماعية على الثقافوية تفاقم من تبسيطيتها المتأصلة، وتصيب بعدواها حتى نسخاً عالمة منها ازدادت شيوعاً في السنوات الأخيرة. لن نجد حتى هنا تحليلات متأنية تدمج مدخلات اقتصادية واجتماعية وسياسية وجغرافية وديموغرافية في التحليل. عصر الانترنت والفضائيات هو عصر الاستهلاك المعرفي التبسيطي، وهو ما تدفع ثمنه المقاربات الأكثر تركيباً وجدية. لكن ربما تستأنف الثقافوية تقليداً تبسيطياً عربياً أعرق. قبل جيل كانت مهيمنة في أوساط المثقفين «النظرية المادية في التاريخ» التي تُحيّد تماماً العناصر الثقافية والدينية، وتعتبرها «انعكاساً» لأسس مادية تستأثر وحدها بالفاعلية التفسيرية. وليس إلى غير نظرية التاريخ المادية هذه حال أخيراً أحد وكلائها السابقين، وأحد أعلام الثقافوية حالياً لوعي موقعه، كأنما لا بديل عن تبسيط غير تبسيط آخر، وعن تفسير أحادي غير تفسير أحادي يشبهه. ألا تبقى الذهنية نفسها في الجوهر؟ وهل يحتمل أن «النظرية المادية في التاريخ» كانت بديلاً عن معرفة التاريخ على ما قال فريدريك إنغلز يوماً، مفسراً يسر تقبل التفسير الاقتصادي للتاريخ من قبل كثيرين في زمنه؟ وهل يحتمل أن شعبية النظرية المادية لدينا قبل حين تعود إلى تحولها من دائرة المفاهيم والمعرفة إلى دائرة الرموز والهويات، فكان أن ساعدت في تعريف القائلين بها وتمييزهم عن غيرهم، بينما أُهدرِت طاقاتها التفسيرية المحتملة؟ وهل يفسر هذا سهولة التخلي عنها والانقلاب إلى نقيضتها الثقافوية من دون إشكال، ما دامت الوظيفة الاجتماعية (ضمان الهوية النخبوية) ظلت محفوظة في الحالين؟ وغير ما يحتمل أن تكون أوجه قصور نظرية في «النظرية الثقافوية في التاريخ»، فإن لها وجهاً عملياً يتمثل في «ثقفنة» الصراعات الاجتماعية والسياسية والدولية أو تديينها. أعني أنها هي ذاتها مساهمة في صراعات اجتماعية وسياسية مستعرة في مجتمعاتنا اليوم، وكذلك في العالم من حولنا. وأكثر من ذلك، من شأن ثقفنة الصراعات، وبخاصة تديينها، جعلها ممتنعة على أية حلول سياسية، صراعات مطلقة بين مطلقات. وهو ما يبدو أن الثقافويين، الإسلاميين منهم والعلمانيين، يرتاحون إليه. التسوية ممتنعة بين المطلقات والحل الوحيد لصراعات كهذه هو حل الخصم، أي إبادته. بقدر ما يمكن استخلاص سياسة عملية من مذاهب الثقافويين، فإنها تزكي تحطيم الخصوم أو «استئصالهم». وبالعكس، يبدو أن الصراعات التي تمتنع على الحل، أي على المعالجات السياسية، تجنح إلى التحول إلى صراعات ماهوية أو دينية. هذا ما يمكن استخلاصه من مسار الصراع العربي - الإسرائيلي الذي تقوده اليوم منظمات دينية، بعد فشل قيادة المنظمات العلمانية، وقبلها الدول الوطنية، العلمانية مبدئياً. ولعله يفسر أيضاً الوزن الكبير للإسلاميين في المعارضات العربية. لطالما انتعش الدين وانتشر في ظل الاستبداد. لديه استعداد غريزي لذلك. لكن إذا كانت الثقافوية منهجاً قاصراً وتبسيطياً، فهل يعني ذلك أنه ليس للثقافة أثر في صنع أوضاعنا المعاصرة وتشكيلها؟ وإن لم تكن الثقافة هي «السر» الذي اكتشف أخيراً وراء تخلفنا وبؤس أحوالنا، وإن لم تكن كذلك مجرد انعكاس سلبي لبنى مادية فعالة، فكيف نتصور دورها؟ وهل يعقل أن للثقافة والدين، للذهنيات عموماً، الدور نفسه في المجتمعات كلها، في مجتمعات رأسمالية متطورة كما في مجتمعاتنا المعاصرة، فضلاً عن القديمة؟ وهل ماركس محق في القول إنه حتى حين تكون السياسة والدين العوامل الرئيسية في حراك المجتمعات (الإقطاعية الأوروبية في العصور الوسطى)، فإن مستوى تطور القوى المنتجة ونمط الإنتاج المادي هو ما يفسر ذلك «في التحليل الأخير»؟ ليس هناك طرح للقضية على الصعيد العربي في حدود ما نعلم. هذا على رغم انتشار الثقافوية الكاسح في العقد الأخير. وإذا كان غياب التساؤل هذا يحكم على الثقافوية بأن تكون نظرية غير واعية بذاتها، تفسيراً عامياً لا ينعكس على ذاته ولا يطرح ذاته للتساؤل، فإن الشرط نفسه يرهن جدوى نقد الثقافوية بطرح هذه المسألة والعمل على إضاءتها، بما في ذلك تفسير الظروف التي منحت الثقافوية هذا الانتشار الكاسح. لسنا في وضع من يحسم الأمر في مقالة، لكن نتصور أن أقوى مسوغ لنقد الثقافوية هو تكوين فكرة أصح عن مشكلاتنا الثقافية وعن دورها في توجيه سلوك الأفراد والجماعات والمجتمعات. ننتقد الثقافوية ليس لأنها تفسير أحادي مبالغ فيه فقط، ولا لأنها منهج للانسداد النظري والعملي يجعل الصراعات الواقعية أكثر استعصاء على الفهم وعلى المعالجة، ولا لأنها تستغني بآلية تفسيرية مبسطة عن معرفة الواقع التاريخي، وإنما كذلك لأنها تحل اللوم وتحميل المسؤولية والتبرير محل التفسير والشرح: عقولهم المضروبة هي السبب في مشكلاتنا. هذه السمة الإضافية للثقافوية العربية المعاصرة هي ما تسهل تجنيدها في الصراعات، الطائفية المحلية والعالمية (صراع الحضارات). لكن ليس ثمة ما هو أكثر ضلالاً من القول إنه ليس لنوعية أفكارنا ومعتقداتنا دور في تشكيل تفاعلنا مع العالم والأوضاع العيانية التي نجد أنفسنا فيها. الخلل في «النظرية المادية في التاريخ» يتمثل في أنها تهمل أن تأثير «البنية التحتية» على أفعال الناس وخياراتهم السياسية وأفكارهم يتم بتوسط بنية معتقداتهم ومضامينها النوعية. وهذه تختلف باختلاف المعتقدات نفسها، وباختلاف الأطوار التاريخية لنفس المعتقد. وإنما لذاك يحوز الإصلاح الثقافي والديني قيمة أساسية. ولذلك أيضاً نهتم بنشر المعارف والثقافة وتعميم التعليم. الثقافة مهمة، لذلك لا ينبغي أن تترك للثقافويين.