«جدائل الذهب» Goldilocks. لا يتعلّق الأمر بالقصة الخرافية عن تلك الأميرة المأسورة في برج شاهق، فلا يحرّرها سوى فارس يتسلق جدائل شعرها. إنها الاسم الذي يطلقه العلماء، في استعارة من قصص الأطفال، على المنطقة التي يدور فيها كوكب سيّار حول نجمٍ ما (والنجوم هي شموس)، فلا ترتفع فيه الحرارة بحيث تحرق إمكان ظهور أشكال للحياة عليه، ولا تنخفض إلى حدّ يقضي على تلك الأشكال بالصقيع المفرط. مثال؟ تدور الأرض حول الشمس في مدار معتدل. ليست الأرض بقريبة من نجمها كعطارد الذي تضربه حرارة فائقة تتدفق عليه من الفرن الشمسي. ليس الكوكب الأزرق نائياً عن نجمه (الشمس)، كحال أورانوس الذي يستبعد أن يكون مؤهلاً لاستضافة أشكال حيّة، نظراً إلى برودته الهائلة. بديهي القول إن المسافة ليست وحدها ما يُحدّد إمكان وجود أشكال حيّة على أحد الكواكب السيّارة. مثلاً، يرجح البعض أن ضآلة الجاذبية على المريخ أدّت إلى عدم قدرته على الإمساك بغلاف جوي كبير ومتماسك حوله، ما قلّل من فُرص عيش أشكال حيّة عليه. هناك تركيبة الكوكب نفسه. إذ يزيد إمكان ظهور أشكال حيّة، بالطريقة التي يعرفها البشر، إذا كان الكوكب صخري التركيب، ولا يكون كوكباً غازياً كبيراً، مثل المشتري، فتتضاءل فرص الحياة عليه. ثمة عناصر أخرى كثيرة. ويختصر العلماء هذه الأمور بالإشارة إلى «جدائل الذهب»، باعتبارها المنطقة التي ربما تظهر فيها أشكال حيّة، على كوكب صخري التركيب، يتمتع أيضاً بوجود الماء عليه. كواكب سيّارة خارجية بصورة عامة، يقدّر الفلكيون أن مجرتنا تحوي حوالى 50 بليون كوكب سيّار خارج نظامنا الشمسي يسمّونها «كواكب خارجية» Extra Solar Planets. منذ عام 1992، تدفّقت إلى أيدي العلماء معلومات عن وجود «كواكب خارجية»، وصل عددها إلى قرابة 700 كوكب سيّار وفق «الوكالة الأوروبية للفضاء»، و687 كوكباً وفق ما تفيد به قاعدة بيانات «وكالة الفضاء والطيران الأميركية» («ناسا»). وبصورة شبه دورية، يعيد العلماء التدقيق في تعريفهم لمنطقة «جدائل الذهب»، ما يترك مجالاً للخلاف عن عددها. وقد انخفض عدد الأجرام التي قد تكون كواكب سيّارة تدور في منطقة «جدائل الذهب» حول نجوم مختلفة، إلى 48 جرماً، بعد أن كان 54 جرماً. ويمتلك عشرة أجرام منها حجماً يناظر الكرة الأرضية. وأظهرت الاكتشافات المبنية على عمليات الرصد المباشر، بين شهري أيار (مايو) 2009 وأيلول (سبتمبر) 2010، زيادة كبيرة في عدد الأجرام الصغيرة الحجم التي رشّحها العلماء لأن تكون كواكب خارجية فيها كثير من الشبه بالأرض. ومنذ شباط (فبراير) الفائت، وصلت الزيادة إلى 200 في المئة للأجسام التي يفوق حجمها حجم الأرض بعشرات المرات، و140 في المئة بالنسبة إلى الكواكب الخارجية التي تقارب الأرض حجماً. وتعني هذه الأرقام أن الكواكب التي لا يزيد حجمها عن الأرض بأربعة أضعاف، قد تكون الأكثر انتشاراً في مجرّة «درب التبّانة». وفي هذا السياق، أشارت ناتالي باتلها وهي نائبة رئيس الفريق العلمي لبرنامج مرصد الفضاء «كبلر» في جامعة «سان جوزي ستيت» في كاليفورنيا، إلى تصاعد مستمر في عدد الكواكب الخارجية التي تقارب الأرض حجماً، والتي يرجح أن يكتشفها العلماء قريباً. وأوضحت أن المعلومات التي يرسلها «كبلر» تشير إلى أن كثيراً منها ربما تمتع بمزايا تؤهّله لاستضافة شكل ما للحياة عليه. ومع تأكيد وجود كواكب خارجية شبيهة بالأرض، في مناطق «جدائل الذهب»، زاد اهتمام العلماء بالمشاريع المختصّة بالبحث عن كائنات ذكيّة خارج الأرض، مثل مشروع «البحث عن ذكاء خارج الأرض» Search for Extra Terrestrial Intelligence، اختصاراً «سيتي» SETI. وذهب التفاؤل ببعض العلماء إلى القول بإمكان أن يشهد هذا الجيل عملية اتصال مع حضارات ذكية كونية، خصوصاً أن علماء الفضاء لديهم تقنيات مناسبة لهذا الأمر، كما أنهم باتوا على دراية بالأرجاء الكونية التي ترتفع فيها فُرص العثور على حضارات كونية. لعل الأحدث في هذا السياق، هو إعلان «ناسا» أخيراً أنها تأكّدت من التعرّف إلى كوكب خارجي يدور حول نجم شبيهٍ بالشمس، ويسير على مسافةٍ من نجمه تبقيه ضمن «جدائل الذهب». أجريت عملية الرصد هذه على يد فريق يتعامل مع تلسكوب الفضاء «كبلر» الذي أُطلق في 2009، وتمكن من اكتشاف آلاف الأجرام الكونية حتى الآن، من بينها النجم «كبلر – 22». وقد سمّي الكوكب الخارجي المكتشف حول النجم «كبلر - 22» ب «كبلر22 - بي». ويبلغ قطر هذا الكوكب 2.4 ضعف قطر الأرض، ما يعني أنه يفوق الكوكب الأزرق حجماً بقرابة 14 ضعفاً. ويدور الكوكب عينه على مسافة 120 مليون كيلومتر تقريباً عن نجمه. ويسلك مداراً يحتاج فيه إلى 290 يوماً (مما نعرف على الأرض)، كي ينجز دورته حول ذلك النجم. وما زالت عملية تحديد طبيعة الكوكب، وهل إنه صخري أو غازي مثلاً، بحاجة إلى مزيد من الرصد والتحليل والدراسة. ويقع النجم «كبلر - 22» على بُعد قرابة 600 سنة ضوئية من الأرض. كما أنه مُصنّف في الفئة النجمية «جي» التي تندرج شمسنا ضمنها. لكن «كبلر - 22» أصغر قليلاً من الشمس وأقل حرارة منها أيضاً، إضافة إلى كونه أقل سطوعاً بمقدار الربع. ويبدأ سلّم تصنيف النجوم وفق حرارة سطحها، بالفئة «آو» O التي تتمتع بدرجة حرارة تفوق ثلاثين ألف درجة مئوية، وتليها الفئة «إيه» A التي تصل الحرارة فيها إلى قرابة عشرين ألف درجة مئوية، وبعد الدرجة «أف» F، حيث الحرارة هي 7500 درجة مئوية، و «جي» G التي تصل حرارتها إلى ستة آلاف درجة مئوية، وبعدها الفئة «كيه» K حيث لا تتخطى الحرارة حدود الأربعة آلاف درجة، وأخيراً الفئة «إم» M وحرارتها 3 آلاف درجة مئوية. وفي الأونة الأخيرة، تمكّن «كبلر» من استشعار وجود ما يزيد عن 1000 كوكبٍ خارجي، عشرة منها تقارب الأرض حجماً، كما تقع مداراتها ضمن «جدائل الذهب» لشموسها. ويتطلب الأمر من العلماء أن يتابعوا رصد هذه الكواكب الخارجية الواعدة بوجود حياة عليه، خصوصاً لجهة التأكّد أنها فعلياً كواكب سيّارة خارجية تحلّق في منطقة «جدائل الذهب». إذ يفرض استشعار كوكب خارجي محتمل أن يستضيف أشكالاً حيّة عليه، الاستمرار في رصد التغيّرات الدورية في سطوع هذا النجم. ويفسّر العلماء هذه التغيّرات بأنها قد ترجع لعبور متكرّر أمام نجمه، بمعنى أنه يسلك مداراً ثابتاً حوله، إضافة إلى أنها تعطي معلومات عن ذلك النجم أيضاً. آلاف الأجرام في الإنتظار في 9 كانون الأول (ديسمبر) الجاري، عقد فريق مرصد الفضاء «كبلر» ندوة علمية في مركز «أميس» AMIS، للإعلان عن اكتشاف 1094 كوكباً خارجياً يحتمل التثبّت من وجودها في مستقبل قريب، بعد إنجاز علميات البحث والرصد والتدقيق اللازمة. ليس هذا العدد بكبير. إذ سبق لل «ناسا» أن أعلنت رقماً مماثلاً في شباط 2011. ومنذها، ازداد عدد الأجرام التي استشعرها مرصد «كبلر» لتكون كواكب سيّارة خارجية، بنسبة 89 في المئة، ليقدّر تعدادها اليوم ب 2326 جسماً، بينها 207 تقارب الأرض حجماً، و680 أكبر من الأرض ببضع مرات، و1181 بحجم «نبتون» في مجموعتنا الشمسية، و203 بحجم «المشتري»، و55 تفوق «المشتري» بأضعاف! وللتذكير، يفوق قطر «نبتون» نظيره للأرض بقرابة 3.8 ضعف، ما يعني أن حجمه يفوق حجم الأرض بقرابة 55 ضعفاً. وكذلك يفوق قطر «المشتري» نظيره للأرض بما يزيد على 11 مرّة، ما يعني أن حجمه يفوق حجم الأرض بأكثر من 1400 ضعف. ووفق دوغلاس هودغنز، الباحث في برنامج «كبلر»، يشكّل اكتشاف «كبلر 22 – بي» معلماً أساسياً على طريق اكتشاف كوكب يماثل الأرض فعلياً، بما في ذلك استضافته أشكالاً حيّة عليه. في المقابل، أعرب ويليام بوروكي، رئيس فريق البحث في برنامج «كبلر» في مركز «أميس» للبحوث في كاليفورنيا، عن قناعته بأن الحظ قد ابتسم أخيراً لعلماء الأرض، فتمكّنوا من اكتشاف هذا الكوكب، الذي رُصد عبوره أمام نجمه للمرة الثالثة في 2010. ويقدر «كبلر» الكواكب الخارجية والأجرام التي يُظنّ أنها كواكب سيّارة، عبر قياس تغيّر السطوع الضوئي بين أكثر من 150 ألف نجم يتابع «كبلر» رصدها باستمرار. وفي كل مرّة يُلَاحظ تغيّر في السطوع، يرصد النجم في ثلاث عمليات مرور متتالية للكوكب المفترض. وبعدها يتحقق الباحثون من أن ما لاحظوه هو كوكب سيّار خارجي فعلياً. وتجرى عمليات متابعة للرصد من تليسكوبات أخرى أرضاً وفضاءً، مثل تليسكوب «سبيتزر»الفضائي الذي يعمل بالأشعة تحت الحمراء. ويوجّه كبلر رصده باتجاه مجموعتين شمسيتين هما «البجعة» («سيغنوس») و «القيثارة» («ليرا») اللتين لا تظهران لمراصد الأرض إلا بين الربيع وأوائل الخريف. إذاً، ما زال العمل مستمراً، مع زيادة في درجة التفاؤل، لاكتشاف كواكب سيّارة خارجية مؤهلّة لاستضافة أشكال من الحياة عليها. وربما لا يمر زمن طويل، قبل أن يبتسم الحظ ثانية، فيعثر العلماء على كوكب خارجي تعيش عليه حضارة ذكية. عندها، يدخل نقاش العِلم في مسار مختلف. من يدري؟ * أستاذ فيزياء ذرية في الجامعة اللبنانية