يتحمل المجتمع ثمن تزايد عدد الأحداث الجانحين، وهو ما ينعكس بدوره على الاستقرار الأمني والاقتصادي والثقافي، في ظل تنشئة «غير سليمة» تجعل منهم ضحايا لمحترفي الإجرام كالفسق والدعارة والسرقة وتعاطي المخدرات، وقد يصل بهم الأمر إلى العنف السياسي وهم مغيبون بلا وعي وبلا هدف، وكل هذا يؤدي إلى هدم الكيان الاجتماعي ويزعزع الاستقرار العام. وترى الخبيرة الإقليمية في مكافحة الإتجار بالبشر نهال فهمي أن على كل المهتمين والمختصين والقائمين على رعاية الأحداث أثناء فترة الاحتجاز مراعاة مبادئ التعامل معهم، حتى لا يتزايد عدد «الساخطين» الذين أغوتهم الجريمة، ويجدوا في العنف وسيلة للوصول إلى أهدافهم. وتُعتبر الانتهاكات التي قد يتعرض لها الأحداث، من وقت القبض عليهم حتى محاكمتهم وإيداعهم المؤسسة العقابية الإصلاحية وسوء المعاملة والضرب والإهانة وسوء التغذية واللامبالاة وعدم إحساسهم بالأمن، ومعاملتهم بصورة تفوق احتمالهم، عناصر تساهم في مجملها وفي شكل فعّال في تكوين شخصيتهم، ولها آثار خطيرة تمّحي معها جميع الجهود المبذولة لرعاية هؤلاء الجانحين والجانحات. لذلك، تقول فهمي، إن رعاية الطفل والاهتمام به يأتيان في مقدم اهتمامات الأممالمتحدة لوعيها أن طفل اليوم هو رجل الغد في كل مناحي الحياة. وتضيف: «تعاني مجتمعات اليوم من تحديات كبيرة نتجت من التغيرات الاقتصادية والثقافية التي لحقت بكيان المؤسسات الاجتماعية مثل الأسرة والمدرسة والمجتمع المحلي ووظائفها». وتؤكد أن «مجتمعاتنا قبل ثلاثة أو أربعة عقود من الزمن لم تكن تعرف ظاهرة انحراف الصغار»، موضحة أن من الطبيعي أن يثير ارتفاع معدلاتها الآن القلق، وبخاصة بعد ظهور أنماط جانحة خطيرة وذات أبعاد ثقافية جديدة، ومن الطبيعي أن تأتي مواجهة جنوح الأحداث كمدخل واقعي للتصدي لمشكلة جرائم الكبار». وتؤكد غالبية الدراسات العلمية أن المجرمين المنحرفين دخلوا عالم الجريمة من باب الجنوح المبكر، إذ تتشكل ملامح الشخصية الإجرامية في مرحلة مبكرة من حياة المجرم، ثم تتبلور في سنوات تليها من خلال مواقف وظروف وخبرات إجرامية لاحقة. وترى فهمي أن النظرة إلى الحدث المنحرف كوحدة منعزلة مغلقة على ذاتها هي نظرة عتيقة وعقيمة وتجريد لا فائدة منه، فسلوك الحدث هو نتاج لجملة علاقات جدلية يقيمها مع الآخرين. والسلوك المنحرف ليس وليد الصفات الوراثية كما يعتقد أصحاب المدرسة البيولوجية، ولا هو وليد مستوى اللاوعي. وتضيف: «على رغم تعدد وجهات النظر في تعريف الانحراف إلا أنه يمكن القول إن المراد به هو مخالفة قواعد السلوك في المجتمع، والتي قد تصل إلى جريمة في نظر القانون، كل ذلك يجعلنا نعامل الحدث الصغير معاملة خاصة جداً، لحاجته إلى أسلوب فريد يهدف في ذاته إلى إبعاده عن الجريمة، وعدم نقل فكر الإجرام إليه. وهذا يتأتى من المعاملة التي يلقاها بدءاً من فترة التحقيق سواء كان ذلك في أقسام الشرطة أم لدى النيابة حتى تنتهي المحاكمة، ثم المرحلة الأخيرة والتي تنتهي بإيداعه إحدى المؤسسات لقضاء العقوبة المقررة له، وكل مرحلة من هذه المراحل تعد في منتهى الخطورة إذا تمت الإساءة إليه أو احتقاره، وربما تكون هذه المعاملة أشد وطأة عليه من الفعل الذي عوقب بسببه». وأثبتت الدراسات أن 38 في المئة من حالات الجنوح والانحراف تحدث في المرحلة العمرية بين 14 و16 سنة (وهي متعارف على أنها مرحلة المراهقة)، وأن 34 في المئة تحدث في مرحلة 16 - 18، ما يدل على أن الجنوح يحدث ويسير جنباً إلى جنب مع مرحلة ما يوصف ب «جنون المراهقة»، وهي الفترة التي يكون نمو التكوين البيولوجي والوظائف الفيزيولوجية فيها سريعاً جداً إلى درجة أن الجوانب العقلية والفكرية لا تتمكن من اللحاق بمتطلبات الجوانب الجسمية، ما يتسبب في فجوة داخل كيان المراهق فنراه يتّصف في هذه الفترة برغبته في التحدي كمتنفس له من إحباط أو إخفاق تعرض له في بيئته سواء الأسرية أم المدرسية أم في المجتمع المحيط به. ولو وجد المراهق من يشجعه على التمرد على المجتمع ووجود من يشاركه همومه لجنح معهم لاستعداده لتقبل عوامل الإغراء والإيحاء. وترفض التربوية والباحثة القانونية عائشة عادل، إلقاء مسؤولية انحراف الحدث على عاتق الأسرة منفردة أو المجتمع أو الفرد، معتبرة أن أسباباً عدة تكمن وراء انحراف المراهق وبالتالي الكل يتحمل جزءاً من المسؤولية في هذا «الانحراف» وإن بنسب متفاوتة. موضحة: «لدى البعض غرائز يولد بها وإن لم يتم إشباعها في الشكل المرضي، تجعل منه جانحاً ومنحرفاً، فعندما تحتبس رغباته وانفعالاته ونسيء إلى كيانه الذاتي، سيعبر عن الرفض بالانفعال والتنفيس بأسلوب يصفه الراشدون بالشطط والجنوح، كما أن الظروف البيئية كالفقر وكثرة عدد الأطفال في بيت صغير وإهمال الطفل من جانب أبويه بسبب انهيار كيان الأسرة بسبب طلاق أو غيره، وتعرض المراهق المستديم للإحباط إما في مدرسته أو بين أسرته أو في مجتمعه تؤدي به حتماً إلى الجنوح».