جلست أشاهد يوم الأحد النقل المباشر لتظاهرة دمشق الحاشدة ضد قرار الجامعة العربية. سوريون وسوريات مرّوا أمام الكاميرا ليُبدوا -محقّين- استنكارَهم واستياءهم، فهم لم يتوقعوا أن يروا يوماً تصبح فيه سورية العروبة غيرَ مرغوب فيها في بيت العرب الذي شاركت في تأسيسه. كان من حق هؤلاء أن يعبروا عن مشاعرهم، ولو بعبارات متطابقة لا داعي للقول، احتراماً لهم، أنها ملقّّنة، فهذا شأنهم. المشكلة أننا لن نسمعهم أبداً يدلون بأي رأي في الأسباب التي دعت الجامعة الى مثل هذه الخطوة. ألا يريدون، مثلهم مثل كل البشر خارج سورية، من عرب وغير عرب، أن يتوقف القتل المستمر منذ ثمانية شهور؟ وهل تأييدهم للنظام، وهم أحرار في ذلك، يشمل أيضاً ما يبديه من عنف مفرط؟ ألا يهزّهم سقوط ضحايا هم مواطنون لهم؟ ألا تعنيهم هذه الانتفاضة بشيء؟ وهل يصدّقون إعلامهم الرسمي في ما يغدقه عليهم من أخبار «العصابات» و «الارهابيين» وسواهم؟ لن نعرف اجاباتهم، وسيواصلون التظاهر كلما دُعُوا اليه. طبعاً، بينهم من خرج برغبته، وبينهم من لم يرد المجازفة بأن يُسجَّل غائباً، وبالتالي مشتبَهاً بتعاطفه مع «العصابات» أو بالإدمان على مشاهدة الفضائيات العربية. أخرج النظام هذه التظاهرات ليقول للعرب إن الشعب السوري وحده يصدّق روايته للأحداث ويؤيده في ما فعل ويفعل منذ منتصف آذار (مارس) حتى الآن. لكنه مع التأييد العارم، لم يستطع أن يوقف القتل يوماً واحداً منذ موافقته «بلا تحفظ» على اتفاق الثاني من تشرين الثاني (نوفمبر). كان مندوب سورية في الجامعة قال في غمرة غضبه إن الآخرين «لم يتوقعوا أن نوافق، واستاؤوا لمّا وافقنا»، لذا اخترعوا ذريعة عدم تنفيذ الاتفاق «مع أني شرحت لهم أننا نفذنا كل ما في الاتفاق»! والواقع أنه لم يكن هناك تنفيذ «فوري» -وفقاً للاتفاق-، لا في اليوم الأول ولا الثاني ولا العاشر. وإذ استهلكت المهلة الأولى بكلفتها الدموية (حتى نهاية ت1/ اكتوبر) للتوصل الى الاتفاق، فإن الثانية (بعد الاتفاق) أوشكت على الانتهاء تاركة للعرب اتفاقاً «ميتاً» وخيارات شبه معدومة ومأزقاً صعباً من شأنه أن يودي بما تبقى من مصداقية للجامعة ولأعضائها. كانت هذه المهل المميتة اعتُمدت أصلاً لأن دولاً عديدة متعاطفة مع سورية النظام أو مترددة في اتخاذ قرارات ضدّها. لكن النقاش طوال الشهور الأربعة الماضية والضغوط الدولية، فضلاً عن ضغوط الواقع على الأرض، قلّصت الفوارق بين المواقف. لذلك لم يكن عسيراً أن يتخذ قرار 13 تشرين الثاني، بما فيه من مفاجآت تفوقت بها الجامعة على نفسها. وكان الموقف واضحاً: استخدم النظام العنف لمحاربة الانتفاضة دافعاً اياها الى «التعسكر»، واستخدم العنف ليفرض منطقه على جميع أطراف النظام العربي الرسمي، ولم يكن مستعداً لتنازلات لا في الداخل ولا في الخارج. وهكذا ارتسم المأزق العربي ازاء خيارين حددهما النظام السوري نفسه: فإما تشاركه الجامعة ادارة الأزمة على طريقته، وإما تسحب مبادرتها وتستقيل نهائياً من هذه الأزمة. واقعياً كان التحرك العربي انطلق بمبدأين: وقف العنف وعقد حوار وطني، والحؤول دون أي تدخل عسكري خارجي. عملياً، لم يمانع بعض الدول اغراء «الاستقالة» طالما ان النظام لم يوقف القتل، ثم إنها تعفيهم من الإحراجات، لكن الرأي الآخر خشي أن تكون هذه نكسةً مروعة للجامعة في مناخ التغيير الذي بات يشكل ارهاصاً لنظام عربي جديد لا بد أن ينبثق تحديداً من الجامعة. لذلك انتصر الرأي القائل بأن ما يُطرح عربياً هو لمصلحة سورية الدولة والشعب، واذا كان «تعريب» الأزمة مقبولاً، كمحاولة أخيرة لمنع التدويل، فلا بدّ من أن يدار بشروط الجامعة. أدركت الدول العربية الأساسية ما كانت تعيه سابقاً لكنها لم تشأ التعجّل في الحكم على تصرفات النظام. فهو سايس المسعى العربي لوضعه تحت جناحه واعتباره قيمة مضافة في مواجهته مع «المؤامرة» الخارجية، متطلعاً الى إسكات الفضائيات العربية ك «جائزة» له على انجاز اتفاق مع الجامعة، لكن هيهات أن يغيّر سلوكه الدموي في الداخل حتى بوجود مراقبين عرب. غير أن العرب لم يدخلوا على خط الأزمة السورية لإبقائها في مراوحتها، بل لأخذها الى منعطف قد يبدأ معه الحل السياسي، وإلا لكانوا تركوها في كنف النظام وحلّه الأمني. وفي كل الأحوال، اذا كان النظام يريد حلاًّ فقد أصبح مفهوماً لديه أنه مطالبٌ بالتنازل عن حقوق للشعب كان استولى عليها أصلاً لمصلحة تسلطه وتسليطه الحزب الواحد. كان من الطبيعي أن يردّ النظام بانفعال على القرار العربي غير المسبوق، وأن يمحو الصفعة المهينة بتظاهرات مليونية، وأن يواصل القتل بإصرار هذه المرة، إلا أن براغماتيته كفيلة بالتقاط الفرص التي انطوى عليها هذا القرار، بشرط أن يحسم أمره اذا كان يريد الحل العربي أم لا، فأحد المراجع العربية القريبة من بلورة القرار يقول إن الجامعة لم تكن ولن تكون في «حرب» مع سورية، فإذا شاء النظام ان يتجاوز مشاعره يمكنه أن يوقف العنف ويدخل فوراً في التفاوض على «نقل السلطة» رغم أن الاحداث تجاوزته. وإذا أبدى جدية ملموسة يستطيع العرب أن يساعدوه بضمانات يقدمونها الى المعارضة للمشاركة في حكومة وحدة وطنية انتقالية، أما اذا تبين أنه يناور لكسب الوقت، فإنه قد يفتقد الدور العربي حين يضطر للتفاوض على «مخرج آمن» من الأزمة. وأخيراً اذا استهدف الدور العربي لتعطيله، فقد ينجح في ذلك لكن يبقى لديه خيار واحد: «السقوط». كانت الدعوة الى قمة عربية طارئة تعبيراً عن تجاهل لقرار وزراء الخارجية، وكأنهم تصرفوا من دون التشاور مع قادتهم، لكنها كانت أيضاً مناورة، بل محاولة جديدة لعرض «الرواية الرسمية» التي باتت تستند الى وقائع الحرب مع الجنود المنشقّين. غير أن النظام يجد نفسه للمرة الأولى في تاريخه مجرداً من غطاء عربي استخفّ به الرئيس الحالي وتمسّك به والده الرئيس الراحل. كان قرار الجامعة بمثابة انتفاضة للنظام العربي الرسمي لإطاحة نهج «اللف والدوران والاحتيال»، وفقاً لمصطلحات أطلقها رئيس الوزراء القطري وتبيّن لاحقاً أنها كانت توصيفاً لواقع الحال في المفاوضات مع دمشق. لا أحد ينسى أن سورية كانت تاريخياً هي التي تعطي الشرعية العربية مغزاها، لكن سورية هذا النظام فقدت الى حين كل الشرعيّات التي كانت تتمتع بها. ومن شأنها أن تقرر اذا كانت ترضى بالعزلة العربية، بعد الدولية. يبقى لها، طبعاً، غطاء روسيا وايران... لكن الى أجل قصير. * كاتب وصحافي لبناني.