الدور الذي أناطه «حزب الله» بنفسه ملتحقاً بالآلة الأمنية السورية ومنفذاً مهماتها في لبنان، يوجه أسئلة عن الدور الذي يرى الحزب انه معنيّ بإدائه سواء بالنسبة الى السوريين المعارضين المقيمين على الأراضي اللبنانية أو بالنسبة الى المجتمع اللبناني ذاته وقواه السياسية. وتعددت المعلومات والإشارات إلى قيام عناصر من أجهزة أمن تابعة ل «حزب الله» باعتقال سوريين ولبنانيين والتحقيق معهم على خلفية شبهات لدى هذه الأجهزة عن تعاونهم مع المعارضة السورية وقيامهم بنشاطات تنطوي على إسناد وإمداد للمتظاهرين والمحتجين في سورية بمعدات طبية وأدوية وأغذية وبعض وسائل الاتصال الهاتفي. وتكررت في الأيام الماضية شواهد عن رصد الحزب المقيمين السوريين وملاحقتهم في عديد من المناطق اللبنانية وليس كلها مما يُعتبر معاقل ل «المقاومة». والأرجح أن «حزب الله» يتابع (بالمعنى الأمني) لبنانيين يساندون الثورة السورية وقد أعد لهم ما استطاع من وسائل إبطال على ما يُفهم من تصريح نائب عن الحزب أدلى به قبل شهور، أثناء الموجة الأولى لتدفق اللاجئين السوريين الى لبنان داعياً الى اعتبار كل لبناني يساعد لاجئاًَ سورياً بمثابة «عميل أميركي». تنوعت في الأشهر الماضية التفسيرات لمواقف الحزب من الوضع السوري. في بداية الثورة استبعد بعض المراقبين انخراط قيادة الحزب وأمينه العام السيد حسن نصر الله في الدفاع عن نظام الرئيس بشار الأسد لإدراك القيادة ونصر الله أن ما يجري في سورية حراك شعبي حقيقي لا علاقة للقوى الخارجية، الأميركية-الاسرائيلية خصوصاً، بأسبابه وتداعياته، وان الحزب «أذكى» من التورط بمواجهة مباشرة مع الشعب السوري الذي يصنع نسخته من ثورات «الربيع العربي» وسينتهي بتغيير النظام في بلده، سيان بقي بعض الرموز من النظام الحالي (على ما اقترح مشروع تركي عرض للحل قبل شهور) او سيُسقط الرموز كلها. أنصار التفسير هذا اضطروا إلى العودة عما ذهبوا إليه بعد خطاب تلفزيوني لنصر الله سخر فيه من الثورة وأكد وقوفه الى جانب الرئيس السوري مستخدماً الديباجة المعروفة عن الممانعة والمؤامرة الخارجية وحماية المقاومة... وبقية مفردات القاموس عينه. ولعل في ما نشرته صحيفة «الغارديان» البريطانية (11 تموز/ يوليو 2011 - في مقال مخصص أصلاً للوضع في العراق) عن تكليف قائد «فيلق القدس» في الحرس الثوري الإيراني اللواء قاسم سليماني مهمة منع انهيار الوضع في سورية اضافة الى مهماته الأخرى في العراق ولبنان، ما يساعد على فهم موقف «حزب الله» الذي يدرك أن الموضوع السوري شأن من اختصاص القيادة العليا الإيرانية، ممثلة بسليماني، وأن ليس على الحزب سوى تنفيذ إرادة القيادة، في هذا المجال. ومن نافل القول إن بقاء حكم الرئيس بشار الأسد أو سقوطه مما يتجاوز في أهميته قدرات الحزب اللبناني وأنصاره مجتمعين. في المقابل، يبدو من السهل اتهام «حزب الله» بالغلو المذهبي والانسياق الى ممارسات عصبية ضيقة تستند الى مقولة «تحالف الأقليات» التي يبشر بها ويطرب لها كثر من حلفاء الحزب. لكن نظرة ثانية إلى الخلفيات المذهبية ودورها في رسم السياسات اليومية ل «حزب الله» تنبذ الفكرة التبسيطية تلك. ربما ينبغي الانتباه إلى ان الحزب يعاني مشكلات كبيرة في صوغ علاقات سياسية سوية مع الأطراف غير المستعدة أو الراغبة في «مبايعته» قائداً سياسياً وعسكرياً وأخلاقياً للحياة العامة في لبنان. فاستعراض اسماء القوى والشخصيات المتحالفة مع «حزب الله» والتي تعتبر نفسها في خندق واحد معه، يُظهر لائحة من التيارات والأحزاب والشخصيات المستفيدة، مباشرة أو غير مباشرة، من مال الحزب وسلاحه وسطوته الأمنية وآلته الإعلامية. الحلفاء الذين لا يسعون الى تحصيل نفع ما من الحزب، غير موجودين. وتفتح الحقيقة هذه الباب عريضاً أمام كل صنوف التملق والاستزلام والتبعية، على نحو ما هو موجود حول السلطات كلها، في انحاء العالم. الاختراقات الأمنية الأميركية والاسرائيلية في جسم الحزب والتي كشف النقاب عنها أخيراً، تعطي أسبابها انطباعاً عن مشكلات كبيرة تعتمل في داخل البنية التنظيمية والأمنية للحزب الذي يرفض - على جاري عادته - الاعتراف بها، محيلاً الكشف عن الاختراقات انجازاً بذاته، مهملاً أن أجهزة معادية تمكنت من الدخول إلى مكوناته، بصرف النظر عن خطورة التسلل الأمني المعادي او سعته. من جهة ثانية، يتسبب عجز «حزب الله» عن ممارسة السياسة بمعناها البسيط كإدارة للاختلافات مع قوى يتشارك معها في المساواة امام أي مرجعية أخلاقية او قانونية أو فكرية، في وضع الحزب والقوى المنافسة في حالة صدام رأسي دائم، بصرف النظر عن مضمون هذا الصدام. ففي حالة «تيار المستقبل»، يأخذ الصدام بُعداً مذهبياً سنياً - شيعياً. وفي العلاقة المتأرجحة مع وليد جنبلاط يظهر «الرعب الديموغرافي» عند نائب الشوف وزعيمه، فيتراجع عن خصومة محلية ويتمسك بتميز على المستوى الخارجي. وليس في ترسانة الحزب من ردود سوى إخراج وعرض الأوراق القديمة عن دور اسرائيلي في التعاون مع الحزب التقدمي الاشتراكي اثناء حرب الجبل. المشكلة، إذاً، تبرز في اضطرار «حزب الله» إلى أداء دورين متناقضين: دور الجهاز المكلف من حلفائه الخارجيين، السوريين والإيرانيين، ضبط الموقف الأمني في لبنان والحد من نشاط أطراف المعارضة السورية ومَن يساندها من لبنانيين. والثاني هو دور القوة السياسية التي تمسك الأكثرية النيابية، بالتالي تحمل جزءاً كبيراً من المسؤولية عن تسيير الشؤون اليومية للمواطنين اللبنانيين بصرف النظر عن رأيهم في الحزب وفي سياساته وولاءاته. لا ردّ في جعبة الحزب على التناقض هذا، غير مزيد من القبض من الوسط على عصا التوازن المستحيل، برفع جهده القمعي من جهة، والإكثار من الكلام عن الاصلاح وبناء الدولة، من الجهة المقابلة.