لا بد أن يخرج أي باحث موضوعي لأثر الدور الخارجي في استمرار دوامة الصراعات الإقليمية التي غرقت فيها منطقة الشرق الأوسط لأكثر من خمسة عقود باستنتاج أن الولاياتالمتحدة كانت وراء كل أزمة إقليمية مستحكمة فيها. وفي مقدمة هذه الأزمات القضية الفلسطينية. فواشنطن تواصل الضغط بكل السبل على حكومة"حماس"المنتخبة ديموقراطياً لمطالبتها بتغيير مواقفها تجاه إسرائيل. وليس الموقف الأميركي المعادي لحكومة"حماس"سلوكاً سياسياً طارئاً، بل له جذوره في أدبيات السياسة الخارجية الأميركية، ويجعلنا نستعيد موقفاً أميركياً مماثلاً عام 1971 تجاه حكومة تشيلي التي اتت بالزعيم الاشتراكي سلفادور اليندي إلى الحكم، فبدأت الولاياتالمتحدة على الفور نشاطاً سرياً يهدف إلى إطاحة النظام الجديد ونجحت في ذلك. لقد استمرت واشنطن في مسلسل إغراق المنطقة العربية في دوامات جديدة. فالحديث عن مخاطر الملف النووي الإيراني ليس أمراً طارئاً، بل كان قائماً منذ سنوات، ولكن تزايد التهديدات الأميركية حالياً ضد إيران يعود الى عاملين أساسيين أولهما المأزق الأميركي في العراق والثاني الحيلولة دون كسر الاحتكار النووي الإسرائيلي. فقد تعاملت واشنطن في حربها على العراق بروح الانتقام، وبررتها كذباً بوجود ترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل فيه. واستثمرت إيران هذا الوضع الذي أدى إلى إضعاف الكيان العراقي، في الوقت الذي بدأ فيه النفوذ الأميركي يتراجع داخل العراق لمصلحة طهران وحصدت إيران العديد من المكاسب السياسية والإقليمية من دون مقابل داخل العراق وخارجه. ونتيجة للمأزق الأميركي الراهن أصبح العراق حقلاً خصباً لجذب الجماعات الإرهابية، مما دفع واشنطن إلى إعلان الرغبة في إجراء حوار مع طهران وهو ما يُعَد اعترافاً أميركياً صريحاً بالدور التدخلي الإيراني في الشؤون العراقية. وتحاول واشنطن تكثيف الضغوط على طهران عبر ملفها النووي، لتستجيب للمطالب الأميركية في العراق، وهو موقف لا تتوافر فيه عناصر الصفقة المتكافئة التي تطمح إليها طهران. لقد كان هدف المخطط الأميركي في التعامل مع إيران هو الوصول معها إلى ما يطلق عليه"النموذج الليبي"، بينما كانت إيران تسعى الى امتلاك برنامج نووي سري مواز لتخصيب اليورانيوم على نحو يتيح لها خياراً، ان لم يكن سلاحا نووياً. وفي الوقت نفسه لم تجازف طهران بمنع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من زيارتها، ولم تعلن عدم التقيد الطوعي بالبروتوكول الإضافي الذي وقعته ولم تصدق عليه. فقد وجدت القيادة الإيرانية أن الوقت غير مناسب لمقاطعة مفتشي الوكالة، لأنه سيزيد من الشكوك حول نياتها النووية، ويعطي مبرراً لاستهدافها. ويبدو أنه من الصعب على الحكومة الإيرانية الحالية التراجع عن مواقفها من الملف النووي، بعد أن جعلته قضية وطنية ومبعث فخر قومي. فقد جاء الرئيس محمود أحمدي نجاد بناء على اقتراع الإيرانيين لإيران قوية لا تخضع للابتزاز وأصبح القادة الإيرانيون المتشددون في حالة من الثقة بموقفهم، على اعتبار أن موضوع تخصيب اليورانيوم، وامتلاك دورة الوقود حق أساسي من حقوقهم السيادية ويعزز من وضع النظام الإيراني داخلياً. واصبح تخلي النظام الإيراني عن هذا الخيار سيعني عملياً سقوطه. ان امتلاك إيران لدورة الوقود النووي بالكامل له دلالات، لعل أهمها بقاء تكنولوجيا التخصيب بكل مكوناتها في أيد إيرانية مما يجنب إيران الضغوط الخارجية لو تمت هذه العملية في الخارج، وتيسير الطريق أمام الخبراء الإيرانيين لمتابعة جهود امتلاك التكنولوجيا الحديثة والمتطورة. يعزز من هذا التوجه شعور إيران بالعزلة الإقليمية وبمخاطر التهديدات الموجهة إليها فالسير على طريق إنتاج الأسلحة النووية يمكن أن يوفر لها في المستقبل ضماناً ضد أي تهديدات من اي طرف وخصوصا من أميركا أو إسرائيل. كما أن إيران محاطة بحدود مشتركة مع 15 دولة، ما زالت توجهات أغلبها غامضة تجاهها، في وقت لا يوجد لها حليف في المنطقة، ربما باستثناء سورية و"حزب الله". وترغب إيران في ممارسة دور إقليمي مؤثر في منطقتها وفي العالم. وعلى رغم اقتناع مصادر عدة بأن أمام طهران فترة تتراوح بين خمس وعشر سنوات لامتلاك سلاح نووي فإن واشنطن تحاول إعطاء انطباع مخالف. وهنا يأتي المحرك الأساسي الثاني للموقف الأميركي، وهو السعي لحرمان طهران من أي خبرة نووية متطورة، والعمل على إجهاض أي محاولة في هذا الاتجاه وهي في المهد، للإبقاء على الاحتكار النووي الاسرائيلي في المنطقة. وتوظف واشنطن ما تروجه حول المخاطر الإيرانية النووية، إضافة الى الاحتكار النووي الإسرائيلي القائم، ضمن تجارة التهديد والمخاطر والحماية، لعقد مزيد من صفقات الأسلحة مع دول المنطقة، والحيلولة دون وفاق عربي - إيراني بأي شكل. ورغم امتلاك إسرائيل، دون سواها في المنطقة لأسلحة نووية وأخرى غير تقليدية، فإنها نجحت في اختطاف المسألة الأمنية الإقليمية وإبرازها على أنها قضية تخص الدولة العبرية وحدها، كما نجحت جزئياً في دفع المجتمع الدولي الى قبول الطرح القائل إن رعاية"المخاوف الأمنية الإسرائيلية"هو أحد المفاتيح اللازمة لحل النزاع العربي الإسرائيلي، من دون أي اعتبار للمخاوف الأمنية لدى الدول العربية، رغم افتقار هذه الدول لأي سلاح رادع واستمرار احتلال إسرائيل لأراض عربية. لقد تمثل الدعم الأميركي القوي للتسلح النووي الإسرائيلي باستبعاد هذا الملف من جدول أي مفاوضات دولية. كما صمتت الولاياتالمتحدة تجاه سياسة الغموض النووي التي تنتهجها إسرائيل. وكان هدف السياسة الأميركية دعم سياسة إسرائيل ضمن مفهومها للأمن المطلق، الذي يشكل عقيدة راسخة لدى الساسة والعسكريين الإسرائيليين، بمعنى احتفاظ إسرائيل بتفوق عسكري كمي ونوعي في المجالين التقليدي وفوق التقليدي على جميع الدول العربية، وعرقلة أي جهود نووية عربية لتحقيق التوازن الاستراتيجي معها، مما دفع البعض إلى وصف هذه السياسة وبحق بسياسة"الابرتهايد النووي". فالولاياتالمتحدة مستمرة في تطبيق معايير مزدوجة في التعامل مع قضايا المنطقة النووية، وهو ما أشار له الدكتور محمد البرادعي مدير الوكالة الدولية للطاقة الذرية في مقال بصحيفة"نيويورك تايمز"قال فيه:"يجب التخلي عن الطريقة غير العملية التي تتمثل في أنه مقبول أخلاقياً لبعض الدول أن تمتلك أسلحة دمار شامل، وغير مقبول أخلاقياً لدول أخرى أن تحوز على تلك الأسلحة لحماية أمنها". فلو كانت إيران دولة موالية للولايات المتحدة، لما كانت المسألة النوية الإيرانية تسبب أي مشكلة لواشنطن. ولعلنا نتذكر أن واشنطن سبق أن ساندت إيران نووياً في مرحلة الشاه، فأمدتها بمفاعل عام 1967، وسمحت لها بتوسيع نطاق تعاونها النووي مع الدول الأوروبية، فتم عام 1974 إنشاء"منظمة الطاقة الذرية الإيرانية"، وتم التخطيط لبرنامج نووي كبير يشمل مفاعلات لتوليد الكهرباء ودورة الوقود النووي. وتضمنت هذه الدورة استيراد اليورانيوم"الكعكة الصفراء"، عبر شراء 10 في المئة من أسهم شركة Eurodiff المتخصصة بتخصيب اليورانيوم، ثم توقف المشروع بعد سقوط نظام الشاه. لقد بدأت تسريبات إسرائيلية عدة تتكرر منذ فترة عن تدريبات عسكرية على عملية تدمير المفاعلات والمنشآت النووية الإيرانية ونشرت تفاصيل عن ذلك، الأمر الذي استوجب صدور تحذيرات من شخصيات أميركية مرموقة من محاذير تحريك الذراع العسكرية الإسرائيلية ضد إيران، لأن ذلك سيسبب إشعال النار في المنطقة، وسيزيد الوضع التهاباً في العراق. وهو ما عبر عنه مثلاً زبيغنيو بريجنسكي المستشار الاميركي السابق للأمن القومي بقوله:"من غير المحتمل أن تكون ضربة مثل هذه فعالة فهي قد تضر بالمصالح الأميركية، وتنفيذها يقتضي أن تطير إسرائيل في مجال جوي تتحكم به الولاياتالمتحدة". كما عبر عن الموقف نفسه أيضا جاك سترو عندما كان وزيراً للخارجية البريطانية بقوله:"إن الخيار العسكري يعتبر نوعاً من الجنون لأن أحداً لا يستطيع أن يتنبأ بنتائجه". ونظراً لخشية إسرائيل من تزايد ردود الفعل الشعبية الأميركية ضدها، نأت عن ربط مواقفها بالموقف الأميركي تجاه إيران، واحتفظت لنفسها شكلاً بمسافة سياسية عن واشنطن، ووصل الأمر إلى حد تصريح رئيس وزراء إسرائيل ايهود اولمرت بما معناه أن المسألة الإيرانية هي مسألة أميركية بالدرجة الأولى. ورغم أن الضرر البالغ سيصيب المنطقة العربية أكثر من غيرها في حال حدوث مواجهة عسكرية أميركية - إسرائيلية مع إيران، فإن أغلب الأنظمة العربية تساير واشنطن، في وقت تحتاج فيه الدول العربية وشعوبها الى اتخاذ موقف صريح بعيدا عن الانزلاق مع السياسة الأميركية المعادية لإيران. ورغم المآخذ المتعددة على السياسة الإيرانية في المنطقة، فإن هناك فرصاً لصوغ علاقة صحية إيرانية - عربية في إطار منظومة أمنية إقليمية جديدة معززة بضمانات إقليمية ودولية. والسؤال المطروح بإلحاح الآن هو: أي سيناريو ستتبعه واشنطن في التعامل مع الملف النووي الإيراني وتداعياته؟ أخطر الاحتمالات هو اللجوء الى الخيار العسكري في منطقة شهدت خلال قرابة عقدين ونصف عقد أربع حروب إقليمية مدمرة. وإذا أقدمت واشنطن على إعادة سيناريو الحرب فيها من جديد، فإن هذه المنطقة بأسرها ستكون مرشحة لأن تصبح منطقة موبوءة نووياً، وستتدمر كل مواردها ومصادر مستقبلها ومستقبل شعوبها لعقود طويلة قادمة. * كاتب مصري ومساعد سابق لوزير الخارجية.