إن أي باحث موضوعي ومنصف لأثر الدور الخارجي في استمرار دوامة الصراعات الإقليمية التي غرقت فيها منطقة الشرق الأوسط لأكثر من خمسة عقود، يجد أن الولاياتالمتحدة الأميركية كانت وراء كل أزمة إقليمية مستحكمة فيها. ولعل في مقدمة هذه الأزمات في المرحلة الراهنة القضية الفلسطينية، التي وصل مأزقها إلى حد تناسي واشنطن، ومن خلفها العواصم الغربية، وعن عمد، المعتدي والمتسبب في استمرار مأساة الشعب الفلسطيني. فهي تواصل الضغط بكل السبل على حكومة"حماس"المنتخبة ديموقراطياً - كما فعلت مع الحكومات الفلسطينية المتعاقبة السابقة - ومطالبتها بتغيير مواقفها تجاه إسرائيل، والاعتراف بالدولة"الوديعة"و"المسالمة"!! والموقف الأميركي المعادي لحكومة حماس المنتخبة بشكل ديموقراطي نزيه، ليس سلوكاً سياسياً طارئاً، بل له جذوره في أدبيات السياسة الخارجية الأميركية، ويجعلنا نستعيد موقفاً أميركياً مماثلاً تجاه التشيلي عام 1971 حيث جرت انتخابات ديموقراطية أتت بالزعيم الاشتراكي أليندي إلى الحكم، فبدأت الولاياتالمتحدة على الفور نشاطاً سرياً يهدف إلى زعزعة الوضع السياسي وإطاحة النظام الجديد، ونجحت في ذلك، إذ اغتيل أليندي في انقلاب عسكري وقع عام 1973. ولعلنا نتذكر كيف وظفت واشنطن الرئيس العراقي صدام حسين لإسقاط النظام الإيراني، وشجعت بالتنسيق مع تل أبيب، استمرار عملية التدمير المتبادل بين الجانبين لسنوات عدة، ثم قامت بعد ذلك بتغذية هوس الزعامة الإقليمية لدى صدام، ثم قيامها بالقضاء على ظاهرة صدام باسقاط نظامه بعد استنفاد الغرض منه، ولتحتل العراق في النهاية على أمل أن يكون ذلك خطوة على طريق إحكام السيطرة على ثروات المنطقة. واستمرت واشنطن في مسلسل إغراق المنطقة في دوامات جديدة. فالحديث عن مخاطر الملف النووي الإيراني ليس أمراً طارئاً، بل كان قائماً منذ سنوات، ولكن ارتفاع النبرة وتزايد التهديدات الأميركية حالياً ضد إيران يعود الى عاملين أساسيين: أولهما: المأزق الأميركي الراهن في العراق. ثانيهما: الحيلولة دون كسر الاحتكار النووي الإسرائيلي. فلقد تعاملت واشنطن في حربها على العراق بروح الانتقام، وبررتها"كذباً"بوجود ترسانة ضخمة من أسلحة الدمار الشامل فيه. وطبقت خطة لإسقاط وتدمير بنية ومقومات الدولة العراقية من أساسها، وهو ما تفاخر به لاحقاً بول بريمر الحاكم الأميركي للعراق بعد الاحتلال، في كتابه المعنون:"عام قضيته في العراق"، بأنه رفض الإبقاء على مجرد وجود رمزي للجيش أو الشرطة العراقية. وواصل بريمر مخطط تفتيت الدولة العراقية، ابتداءً من وضع ما عُرف بقانون إدارة الدولة، ومروراً بمجلس الحكم الانتقالي، وانتهاءً بوضع الدستور الانتقالي للعراق، والتي ارتكزت جميعها على أسس طائفية وعرقية وفئوية. وبطبيعة الحال استثمرت إيران هذا الوضع، كما أغراها الغياب العربي شبه الكامل عن الساحة العراقية بمزيد من التغلغل في الشؤون الداخلية العراقية، في الوقت الذي بدأ فيه النفوذ الأميركي يتراجع يوماً بعد يوم داخل العراق لمصلحة طهران، التي نجحت في إقامة نظام عراقي طائفي يسيطر عليه علماء الدين، روجت من خلاله لما أسمته: الدور الإيراني المهدئ للأوضاع في العراق. وقد حصدت إيران العديد من المكاسب السياسية والإقليمية من دون مقابل، داخل العراق وخارجه. ونتيجة للمأزق الأميركي الراهن في العراق، اندلعت روح المقاومة الوطنية في العراق، وأصبح حقلاً خصباً لجذب الجماعات الإرهابية، مما دفع واشنطن إلى إعلان الرغبة في إجراء حوار مع طهران حول"الوضع في العراق"، وهو ما يُعَد - سواء تم هذا الحوار أو لو يتم - اعترافاً أميركياً صريحاً بالدور الإيراني في الشؤون العراقية. ويلاحظ أنه خلال هذه المرحلة كثفت إيران جهودها لإنجاز خطتها لتخصيب اليورانيوم على وجه السرعة. وكان المخطط الأميركي في التعامل مع إيران هدفه الوصول معها في النهاية إلى ما يطلق عليه"النموذج الليبي"، بينما كانت إيران تدير ملفها النووي بأسلوب كوري شمالي معدل، بالسعي لامتلاك برنامج نووي سري على نحو يتيح لها خياراً نووياً. وفي الوقت نفسه اتبعت طهران أسلوباً تكتيكياً مغايراً لما اتبعته كوريا الشمالية. فلم تجازف بمنع مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية من زيارة إيران، أو إعلان عدم التقيد الطوعي بالبروتوكول الإضافي، والذي وقعته ولم تصدق عليه، حتى لا تجازف - في هذه المرحلة المبكرة - بتعامل واشنطن معها على غرار النموذج العراقي. واستثمرت ايران هذا التكتيك بنجاح للحصول على مزيد من المعرفة التكنولوجية النووية، وعلى أمل أن يتم مستقبلاً اعتراف الأمر الواقع الدولي بشرعية ما أنجزته. وهكذا وبعد صمت إيراني استمر أكثر من عامين، أعلنت طهران نجاحها في إنتاج يورانيوم مخصب صناعياً، مما يؤهلها عملياً للانضمام إلى نادي الدول ذات القدرات النووية. إلا أنه من الصعب فنياً تحديد المستوى النووي الذي حققته إيران في هذه المرحلة. فبرنامجها النووي، وفقاً لتقدير بعض الأوساط الغربية، ما زال في مرحلة بدائية، وهو ما أكده كوفي انان الأمين العام للأمم المتحدة، وهو ما قد يوحي بأن إيران ربما تتبع سياسة"الردع بالشك"بهدف اقناع الآخرين بقدرتها على الردع النووي. وعلى العموم فإن الخطوة المحدودة التي حققتها إيران رغم أنها تشير إلى أن الوقت ما زال مبكراً كي تحصل على سلاح نووي كما قال الدكتور محمد البرادعي، إلا أنها قد تفتح الباب مستقبلاً لحقبة جديدة من سباق التسلح النووي في منطقة الخليج، إذا ما تأكد أن إيران نجحت في ذلك، مما سيقلب منظومة الأمن القومي الإقليمي الخليجي رأساً على عقب. ويبدو أنه من الصعب على الحكومة الإيرانية الحالية التراجع عن مواقفها من الملف النووي، بعد أن جعلته قضية وطنية ومبعث فخر قومي. ووصل الموقف الإيراني إلى حالة من التقارب بين الدوافع والموانع، وأصبح القادة الإيرانيون المتشددون في حالة من الثقة في موقفهم، تحثهم على الاستمرار في برامجهم النووية، على اعتبار أن موضوع تخصيب اليورانيوم، وامتلاك دورة الوقود هو حق من الحقوق السيادية لايران، ويعزز من وضع النظام الإيراني داخلياً. وتخلي النظام الإيراني عن هذا الخيار سيعني عملياً سقوطه. وامتلاك إيران لدورة الوقود النووي بالكامل على أرضها له دلالاته، لعل أهمها: 1 - بقاء تكنولوجيا التخصيب بكل مكوناتها في أيد إيرانية وعلى الأرض الإيرانية، لضمان توفيره واستمراريته، مما يجنب إيران تقلبات الضغوط الخارجية، لو تمت هذه العملية في الخارج. 2 - تيسير الطريق أمام المتخصصين الإيرانيين لمتابعة جهود امتلاك التكنولوجيا الحديثة والمتطورة مما قد يمكن إيران من أن تصبح دولة مصنعة للمواد والمعدات النووية. ويعزز من هذا التوجه شعور إيران بالعزلة الإقليمية وبمخاطر التهديدات الموجهة إليها: 1 - السير على طريق إنتاج الأسلحة النووية مستقبلاً يمكن أن يوفر لها ضماناً ضد أي تهديدات أميركية أو إسرائيلية أو من أي طرف تعرضت إيران للغزو خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية. كما تعرضت إيران للقصف الكيميائي والبيولوجي العراقي خلال الحرب العراقية - الإيرانية، ولا تود مواجهة مواقف مماثلة مستقبلاً. 2- أن إيران محاطة بحدود مشتركة مع 15 دولة، مازالت توجهات أغلبها مبهمة تجاه إيران، في وقت لا يوجد لها حليف بالمنطقة، ربما باستثناء سورية و"حزب الله". 3 - رغبة إيران في ممارسة دور سياسي إقليمي فعال ومؤثر في منطقتها والعالم. ورغم اقتناع عدة مصادر بأن أمام طهران فترة تتراوح ما بين خمس سنوات إلى عشر سنوات، لامتلاك سلاح نووي، وبالتالي فليس هناك خطر وشيك، فإن واشنطن تحاول إعطاء انطباع مخالف. وهنا يجيء المحرك الأساسي الثاني للموقف الأميركي المتعجل، وهو السعي الى حرمان طهران من أي معرفة نووية متطورة، والعمل على إجهاض أي محاولة في هذا الاتجاه وهي في المهد، للإبقاء على الاحتكار النووي في المنطقة لإسرائيل. فكسر هذا الاحتكار يعد في نظر واشنطن موقفاً يصعب قبوله سواء من قبل"المحافظين الجدد"أو من إسرائيل. وتوظف واشنطن ما تروجه حول المخاطر الإيرانية النووية، لعقد مزيد من صفقات الأسلحة لدول المنطقة، والاستمرار في فرض حمايتها المكلفة لهذه الدول، والحيلولة دون حدوث وفاق عربي - إيراني. ويلاحظ أنه رغم امتلاك إسرائيل، دون سواها في المنطقة لأسلحة نووية تقدر بمئتي رأس نووي وأخرى غير تقليدية، فإنها نجحت في اختطاف المسألة الأمنية الإقليمية وإبرازها على أنها قضية تخص الدولة العبرية وحدها، كما نجحت جزئياً في جعل المجتمع الدولي يتقبل الطرح القائل إن رعاية"المخاوف الأمنية الإسرائيلية"هي أحد المفاتيح اللازمة لحل النزاع العربي - الإسرائيلي، دون النظر الى المخاوف الأمنية للدول العربية، رغم افتقارها لأي سلاح رادع واستمرار احتلال إسرائيل لأراض عربية. وتمثل الدعم الأميركي للتسلح النووي الإسرائيلي في الاستبعاد التام لهذا الملف من أية مفاوضات دولية. كما صمتت الولاياتالمتحدة تجاه سياسة الغموض النووي التي تنتهجها إسرائيل. وكان هدف السياسة الأميركية دعم سياسة إسرائيل ضمن مفهوم"الأمن المطلق"، الذي يشكل عقيدة راسخة لدى الساسة والعسكريين الإسرائيليين، بمعنى احتفاظ إسرائيل بتفوق عسكري كمي ونوعي في المجالين التقليدي وفوق التقليدي على جميع الدول العربية، وعرقلة أي جهود نووية عربية لتحقيق التوازن الاستراتيجي معها، حتى تظل إسرائيل القوة الإقليمية العظمى المهيمنة في منطقة الشرق الأوسط، مما دفع البعض إلى وصفها بسياسة"الابرتايد النووي". فالولاياتالمتحدة مستمرة في تطبيق معايير مزدوجة في التعامل مع قضايا المنطقة النووية، كما أشار الدكتور محمد البرادعي في مقال بصحيفة"نيويورك تايمز"بتاريخ 12/2/2004، بقوله:"يجب التخلي عن الطريقة غير العملية التي تتمثل في أنه مقبول أخلاقياً لبعض الدول أن تمتلك أسلحة دمار شامل، وغير مقبول أخلاقياً لدول اخرى أن تحوز على تلك الأسلحة لحماية أمنها". فلو كانت إيران دولة موالية للولايات المتحدة، لما كانت المسألة النوية الإيرانية تسبب أي مشكلة لواشنطن، تماماً مثل المسألة النووية الإسرائيلية. ويلاحظ أن إسرائيل كانت - ومنذ فترة - قد صعدت من تهديداتها لإيران، وبدأت عدة تسريبات إسرائيلية متكررة عن تدريبات عسكرية على عملية تدمير المفاعلات والمنشآت النووية الإيرانية، الأمر الذي استوجب صدور تحذيرات من شخصيات أميركية مرموقة من محاذير تحريك الذراع العسكرية الإسرائيلية ضد إيران، لأنه سيتسبب في إشعال النار في المنطقة، وسيزيد الوضع التهاباً في العراق، ويهدد استقرار العديد من دول المنطقة. ونظراً لخشية إسرائيل من تزايد ردود الفعل الشعبية الأميركية السلبية ضدها، نأت عن ربط مواقفها بالموقف الأميركي تجاه إيران، واحتفظت تل أبيب لنفسها - شكلاً - بمسافة سياسية عن واشنطن، ووصل الأمر إلى حد تصريح رئيس الحكومة الاسرائيلية ايهود اولمرت، بما معناه أن المسألة الإيرانية هي مسألة أميركية بالدرجة الأولى. وبالمقابل، ورغم احتمالات الضرر البالغ الذي سيصيب المنطقة العربية بالدرجة الأولى، في حالة حدوث مواجهة عسكرية مع إيران، فإن أغلب الأنظمة العربية تتخذ موقف المسايرة لواشنطن، في وقت تحتاج فيه الدول العربية وشعوبها لتبني موقف صريح ومعلن يبتعد عن الانزلاق مع السياسة الأميركية المعادية لإيران. ورغم المآخذ المتعددة على السياسة الإيرانية في المنطقة، فإن هناك فرصاً لصياغة علاقة صحية إيرانية - عربية في إطار منظومة أمنية إقليمية جديدة معززة بضمانات إقليمية ودولية. والسؤال المطروح بإلحاح الآن هو ماذا بعد؟ وأي سيناريو ستتبعه واشنطن في التعامل مع الملف النووي الإيراني؟ إن أخطرها بطبيعة الحال هو اللجوء الى الخيار العسكري. فاذا أقدمت واشنطن على العودة الى سيناريو الحرب، فإن المنطقة بأسرها ستكون مرشحة لأن تصبح منطقة موبوءة نووياً، وستتدمر كل مواردها ومصادر مستقبلها ومستقبل شعوبها لعقود طويلة قادمة. فالحرب هذه المرة لن تكون على نسق الحرب على العراق، بل ستكون حرباً تستخدم فيها أسلحة أميركية نووية مخترقة للتحصينات، لتدمير المواقع الإيرانية النووية المحصنة. لقد آن الآوان للانظمة العربية أن تفيق من نومها السياسي لتقول كلمتها المعارضة للخيار العسكري والمعبرة بصدق عن مواقف شعوبها. * كاتب مصري ومساعد سابق لوزير الخارجية