لم يكن تحذير وزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل آليو ماري من ان حيازة ايران أسلحة نووية سيكون بمنزلة"كابوس"لدول الشرق الاوسط مغالاة او تجاوزاً للواقع، بل كان مؤشراً واضحاً الى طبيعة ادراك دولة غربية، صنفت معتدلة حيال قضايا الشرق الاوسط لعقود، للأخطار التي يثيرها امتلاك ايران مث هذا السلاح، والتي تستند الى طبيعة الاوضاع في الشرق الاوسط، حيث الأمن هش والتوازن مفقود، اضافة الى تراجع درجات الحكمة لدى بعض الانظمة في مجالات توظيف وسائل القوة. وتتهم الولاياتالمتحدة، وبالطبع اسرائيل، ايران بتطوير قدراتها النووية لتكون قادرة على تصنيع قنبلة نووية بين عامي 2007 و2009، فيما أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية طويلاً انها"لا تملك أدلة جازمة على ان ايران تطور برنامجاً سرياً للاسلحة النووية"، لكنها في الوقت نفسه تشير الى انها"لا تملك ان تؤكد ان برنامج ايران النووي سلمي تماماً حتى أجبرتها واشنطن وتقارير"سي آي ايه"على ممارسة ضغوط على طهران. عملية سياسية نجحت الولاياتالمتحدة في تحريك عملية سياسية دولية ضد المشاريع الايرانية، وفرضت عقوبات شديدة على تسع شركات صينية واوروبية ساهمت في امداد طهران بمعدات قد تستخدم في اغراض عسكرية، وتوصلت الى اتفاق مع فرنساوبريطانيا وألمانيا في شأن مشروع قرار دولي يدعو طهران الى وقف فوري لبرنامجها لتخصيب اليورانيوم، بعد يوم واحد من نشر هيئة مراقبة نووية أميركية صوراً التقطتها الاقمار الاصطناعية لمنشأة ايرانية، تقول واشنطن انها قد تستخدم في صنع اسلحة نووية. واللافت ان مشروع القرار تقدمت به كل من الولاياتالمتحدةوبريطانياوفرنسا وألمانيا، في اجراء حرص على تفادي خلاف سببته رغبة واشنطن في تمرير قرار منح ايران مهلة انتهت في تشرين الاول اكتوبر 2004، ما يفتح الباب مباشرة لفرض عقوبات. لكن عام 2005 انتهى من دون اتخاذ قرارات صارمة ضد طهران، ويبدو ان حكام ايران يستظلون بالمظلة الروسية والصينية بعد اتمام صفقات ببلايين الدولارات انعشت اقتصادي البلدين. كما ان ثقل روسيا في الميزان الدولي رجح كفة الايرانيين وعرقل نقل الملف الايراني الى مجلس الأمن. ولهذا لم تنجح الدول الاربع في مسعاها، اذ اصدرت الوكالة الدولية للطاقة الذرية قرارات عدة تطالب ايران بوقف كل انشطتها المتعلقة بتخصيب اليورانيوم، والسماح للمفتشين الدوليين بتفقد منشآتها النووية. وتفرض القرارات في شكل غير مباشر مهلة تنتهي في موعد محدد، يقرر بعده مجلس محافظي الوكالة الاجراءات التالية في اجتماع جديد، بما في ذلك امكان الذهاب الى مجلس الأمن. يمثل هذا التوجه، وما يدعمه من توافق اميركي ? أوروبي بات نادر التحقق منذ اندلاع ازمة الحرب على العراق، تحولاً محورياً يضعف الموقف الايراني، ويعطي مؤشرات الى امكان وضع طهران تحت ضغوط مبرمجة قد تفضي الى احتمالات خطرة في حال لم تتعاط معها بالتحسب والمرونة اللائقين. كما ان الالتزام الاوروبي المتمثل تحديداً في نهوض بريطانياوفرنسا والمانيا، الدول الاقطاب في الاتحاد، بعملية سياسية مبرمجة سلفاً تقودها الولاياتالمتحدة، وتستند الى رؤية وقرار يحظى بتوافق معظم الاطراف الفاعلة، يحد من هامش المناورة المتاح للجانب الايراني، في وقت كان ينتظر فيه حرية اكبر، على خلفية ما يبدو من ارتباك وتورط اميركي، وبدرجة اقل بريطاني، في العراق. مواقف الاطراف تبدو واشنطن مقتنعة بخطورة الملف النووي الايراني وعازمة على التعاطي معه بوسائل مختلفة. وتكتسب وسائلها في ادارة تلك الازمة زخمها من المتغيرات الاقليمية المتعلقة خصوصاً بالاوضاع في العراق من جهة وبالقلق والضغط الاسرائيليين من جهة اخرى. في غضون ذلك تتمترس ايران وراء النفي والرغبة الواضحة في اللعب على المتغيرات وضغوط الاستحقاقات الاقليمية والانتخابية الاميركية، لمواصلة تخصيب اليورانيوم، وفي الوقت نفسه، تعول كثيراً على ضعف الموقف المعنوي لأي دولة أو منظمة تفرض ضغوطاً عليها تلجم انشطتها النووية، في وقت يغض فيه البصر عن الترسانة النووية الاسرائيلية. كما تستثمر ايران جيداً تعثر اميركا في العراق واستحالة تورطها في فتح جبهة ثانية، كما استفادت من حاجة الدول الاوروبية للنفط الايراني في خضم الانتكاسات الاقتصادية التي تمر بها غالبية دول القارة العجوز خصوصاً محوري ارتكاز الاتحاد الاوروبي أي فرنسا والمانيا. في المستوى الثاني تبرز وكالة الطاقة الذرية التي تطلب وقتاً لحسم توجهات البرنامج الايراني، ولا تؤكد ان هذا البرنامج يهدف الى تطوير اسلحة نووية، كما لا تنفي امكان ذلك. كما تظهر اسرائيل بتأكيدها ان ايران في طريقها لامتلاك السلاح النووي، وتحريضها المجتمع الدولي على عزل طهران ووقف خططها النووية، من دون ان تتوقف عن التلويح باستخدام القوة لضرب المنشآت النووية الايرانية، كما فعلت عندما قصفت المفاعل النووي العراقي عام 1981، لكن توعد المتشددين الايرانيين برد الهجوم بأعنف منه حال دون تنفيذ لذلك. كان من الممكن ان تميل الكفة لمصلحة طهران في هذا النزاع الذي اخذ مساراً دولياً، في ضوء الحديث عن ترسانة اسرائيل النووية وعدم قدرة الفعاليات الدولية على أي مقاربة للملف النووي الاسرائيلي. ويتعزز الموقف الايراني في هذا السياق بالنظر الى فقدان اسرائيل السند المعنوي والدعم الاخلاقي لتحذيراتها من امتلاك ايران اسلحة نووية، فضلاً عن الاتهامات التي توجه الى الاستخبارات الاسرائيلية باثارة المسألة النووية الايرانية لحسم معركة داخلية تهدف الى زيادة الانفاق العسكري والحصول على مزيد من الدعم المالي والعسكري الاميركي الاوروبي. كما ان هناك ايضاً الموقف المزعزع للادارة الاميركية حيال ملفات الاسلحة المحظورة، بعدما شنت واشنطن حرباً على العراق بات قطاع كبير من الرأي العام الدولي والمحلي الاميركي يسأل عن اسبابها اثر انكشاف زيف ذريعة تطوير نظام صدام حسين اسلحة دمار شامل، وبالتالي يستثمر قادة طهران هذه الاكذوبة لمصلحتهم. تبدل في غير مصلحة طهران على ان انخراط فرنسا والمانيا تحديداً في مقاربة الملف النووي الايراني بتلك الطريقة الاستقصائية، وبتفعيل شق الالزام والملاحقة، يشير الى تبدل في غير مصلحة الطرف الايراني، خصوصاً ان البلدين الاوروبيين عرفا كأبرز مناوئي السياسة الاميركية في العراق قبل الغزو وبعده. وربما كان سلوكهما السياسي يصنف على يسار السلوك السياسي الايراني نفسه في بداية الحرب على العراق تحديداً، اذ كانت طهران، عملياً، تعمل في الاتجاه الذي يندد به هذان البلدان. تقديرات ايران ربما بنت طهران سياساتها الرامية الى التمركز وراء النفي، والاشارة الى"ترسانة اسرائيل النووية فضلاً عن عملياتها العسكرية العدوانية"، واستعدادها لتقديم الضمانات الضرورية بسلمية الانشطة النووية، مستفيدة من تقديراتها بأن"واشنطن الغارقة في المستنقع العراقي"لن تكون قادرة على فتح جبهة جديدة مع"خصم لا يستهان به". وهي التقديرات التي بدت واضحة في تصريحات للرئيسين محمد خاتمي ومحمود احمدي نجاد اكدا فيها ان"أي هجوم اميركي على ايران سيكون انتحاراً". وهذا ما عقد الامور لان ايران ليست العراق الذي اضعفته اميركا بالحصار لتجهز عليه بسهولة وليسجل جورج بوش نصراً معنوياً ولو كاذباً استثمره في الفوز بالانتخابات الرئاسية. أما ايران فهي قوة اقليمية لا يستهان بها على الصعيد العسكري ومعروف عنها العناد والصمود في الحروب 10 سنوات مع الروس و8 سنوات مع العراقيين. كما لن يقبل عاقل حالياً الخوض في حروب وسط الأزمات الاقتصادية التي تعاني منها الدول بسبب شراسة العولمة، والارتفاع غير المسبوق لأسعار النفط والذي قد يتجاوز حاجز الپ100 دولار في حال فرض عقوبات على طهران، ناهيك عن خوض أميركا وإسرائيل حرباً ضدها. تدافع إيران عن خططها بالتأكيد على انها تهدف الى تطوير قدراتها النووية للاستخدامات السلمية، وهي في شكل مبطن تشير الى حقها في امتلاك وسائل الحماية القادرة على ردع الأعداء المفترضين أو مواجهة التحديات التي يفرضها تسليحهم في الحد الأدنى، وذلك حين تتحدث عن"ضرورة اجبار اسرائيل على التنازل عن السلاح النووي"قبل الحديث عن تجريد الآخرين حتى من محاولة امتلاكه. ولا يمكن، خصوصاً في منطقة تعاني الكثير من مشاعر الإحساس بالظلم وافتقاد التوازن، تقبل تدخل أميركي بدعوى الحفاظ على السلام، في ظل فقدان الأمل في إيجاد أسلحة دمار شامل في العراق أو ضبط القوة العسكرية الاسرائيلية فضلاً عن مواجهة حقيقة امتلاكها القدرة النووية. لكن الأطراف الأوروبية الفاعلة ممثلة خصوصاً في فرنسا وألمانيا، بحكم العلاقات الواضحة بينهما وبين الخط الأميركي ? البريطاني، جعلت الموقف الايراني أكثر صعوبة، وربما كان هذا سبباً في المرونة التي أبدتها ايران حين عرضت في اللحظة الأخيرة تقديم مزيد من الضمانات لسلمية برنامجها النووي ودرس الاقتراح الروسي بنقل عمليات التخصيب الى جنوبروسيا. غياب اقليمي يغيب عن هذا الاطار الذي شكلته ارادات أطرافه الفاعلة، وبعضها يقع جغرافياً على بعد آلاف الأميال عن المنطقة، أي دور اقليمي واضح باستثناء المشاركة الاسرائيلية ذات المصلحة المباشرة. والواقع انه يمكن تصور حساسية الملف وطبيعته الاجرائية التي تقنن مسارات التعاطي السياسي معه وفق أقنية محددة، وادراك صعوبة انخراط دول أو كيانات اقليمية في عمليات تهدف الى تحسين مقاربة المسألة بما يحتوي خسائرها المحتملة. وتشير التقديرات المتعلقة بالملف النووي الإيراني الى احتمالات عدة، أفضلها إمكان احتواء الملف على خلفية بعض القناعات بپ"براغماتية الأداء السياسي الايراني على مستوى التنفيذ بعيداً من تصريحات الداخل وعمليات الاستهلاك السياسي التي تهدف الى تغطية مشكلات داخلية"، ولتدعم هذه القناعات بپ"صعوبة تورط واشنطن في منازلة ليست بالسهلة في ظل ارتباك حقيقي في العراق وعشية انتخابات رئاسية". لكن ثمة سيناريوات سيئة أيضاً، منها"احتمال تنفيذ اسرائيل تهديداتها وضرب منشآت نووية ايرانية، ما يستدعي رداً ايرانياً بالقصف الصاروخي، أو بشن حرب بالوكالة من خلال أطراف أخرى، مثلاً، عبر"حزب الله"وبعض الاسلاميين والعرب المعادين للوجود الاسرائيلي، أو بفتح سلسلة من التفجيرات ضد مواقع ومؤسسات اسرائيلية عبر العالم. أما أكثر السيناريوات سوءاً فهو المتعلق بتهديدات أطلقها محافظون ايرانيون لمحت الى ضرب القوات الأميركية في العراق لتحرير الدولة الاسلامية المحتلة وبسط نفوذها الشيعي أو ضرب"مصالح أميركية في الخليج"، وان عاد بعض هؤلاء المسؤولين وخففوا من مدلولات دعواتهم. وينبغي أن تقارب دول المنطقة وكياناتها الاقليمية، الأكثر قرباً بالذات، الملف النووي الايراني بشكل يضمن لطهران استغلال أي قدرات نووية متاحة في الأغراض السلمية، انطلاقاً من مسؤوليتها الاقليمية، والتزامها الدولي المرتبط بكونها احدى الدول الموقعة على معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية. كما يجب أن تعمل هذه المقاربات على توفير الشروط المناسبة لبدء عملية واسعة تستهدف الوصول الى"شرق أوسط خال من الأسلحة النووية"، بدل فتح سباق جديد على تسلح نووي يقود المنطقة الى منازلات لا ينتج عنها رابحون، لا سيما أن أكثر الدول تضرراً من البرنامج الايراني هي دول الخليج لقرب المفاعلات الايرانية من حدودها. وخلاصة القول إن الملف النووي الايراني الذي يفتخر أصحابه بأنه سيكون لانتاج القنبلة النووية الاسلامية الثانية هو أخطر على الدول العربية الاسلامية في المقام الأول من اسرائيل، ويعرض المنطقة الى مزيد من المخاطر، وسيستحضر مزيداً من القوات الأجنبية والموازنات المهدورة. لذلك لا بد أن تكون للعرب كلمتهم العليا باعتبارهم أولى الدول بإيران من ناحية الجغرافيا السياسية والتاريخ، ولكوننا شركاء في العقيدة، عبر تبني أفكار الصديق جاك شيراك بضمان امداد طهران بالتكنولوجيا النووية ومستلزمات المفاعل النووي الايراني للأغراض السلمية شرط التخلي عن الطموحات العسكرية وتأكيد طهران انها لن تستخدم أياً كانت الظروف والمعطيات السلاح الذري ضد اسرائيل مجازفة بدمار سورية ولبنان والمساس بشعب مصر وشمال أفريقيا.