أعاد الحديث في "الوسط" قبل عددين عن حكمت سليمان الذي تولى رئاسة الوزراء في العراق سنة 1936 على اثر أول انقلاب عسكري في البلاد العربية، الى ذاكرة بعض القراء انقلاباً آخر نفذه أخو حكمت سليمان محمود شوكت باشا قبل انقلاب اخيه ب27 سنة في عاصمة الدولة العثمانية، وانتهى بخلع السلطان عبدالحميد. ووردتني رسائل واتصالات عدة عن علاقة حكمت سليمان بمحمود شوكت باشا وعن الانقلاب الذي قاده الأخير وكان أخطر وأبعد أثراً في تاريخ البلاد. وإذا أطاح انقلاب بكر صدقي - حكمت سليمان بوزارة ياسين الهاشمي من دون ان يتعرض للملك، فإن انقلاب أخيه أطاح بالسلطان عبدالحميد نفسه. فمن هو محمود شوكت باشا الذي قاد تلك العملية التاريخية الخطيرة! انه ابن سليمان فائق بك 1814 - 1896 الذي كان من وجهاء بغداد، ومؤرخاً كبيراً، وأديباً ذا اسلوب رفيع باللغة التركية. شغل مناصب ادارية عدة في العراق منها متصرفية البصرة، وهو من أصل كرجي. وكان له أربعة أولاد ولدوا جميعاً في بغداد، وبرزوا في مجالات عملهم، أكبرهم محمود شوكت، ويليه مراد سليمان الذي كان من وجهاء بغداد ومثقفيها ونائباً عنها في "مجلس المبعوثان" العثماني، وصاحب جريدة "بغداد" وتوفي سنة 1922، ثم خالد سليمان الذي تولى مناصب وزارية في العراق ايضاً، وكان وزيراً مفوضاً للعراق في طهران. وكان أصغرهم حكمت سليمان الذي تولى وزارات مهمة عدة، واصبح رئيساً للوزراء على أثر الانقلاب الذي دبره مع بكر صدقي سنة 1936. أما محمود شوكت، فولد في بغداد سنة 1856، وبدأ دراسته في العراق، ثم ذهب الى "المدرسة الحربية" في استانبول سنة 1884، وكان الأول في دورته عند تخرجه، فعين في دائرة الأركان العامة في وزارة الدفاع العثمانية، وتدرج في المناصب العسكرية، وعمل مع الجنرالين الألمانيين المشهورين فان در غولتز غولج باشا وكامبو فنر، وأوفد في مهمات عسكرية لشراء الأسلحة من المانيا وفرنسا، فقضى في أوروبا اكثر من عشر سنوات، ووصل الى رتبة فريق سنة 1905، وعين والياً لولاية توصوه كوسوفو التي كانت من أعمال الدولة العثمانية. في سنة 1908 أعلن الدستور العثماني، وبدأ العهد الذي عرف ب"عهد المشروطية" وفيه حددت سلطات السلطان وجعلت "مشروطة" بقيود وحدود بعينها ويقررها الدستور، بعد ان كان الفساد استشرى على عهد السلطان عبدالحميد في جميع شؤون الدولة. وقوبل اعلان الدستور بتأييد واسع في جميع أنحاء الدولة العثمانية، وأعلنت الجماهير فرحتها العارمة بإعلان الدستور وتبني المبادئ الثلاثة التي أصبحت شعارات اشتهرت بين الناس، وطغت على الصحافة، وهي: "الحرية والعدالة والمساواة". ووضع شاعر مشهور وهو توفيق فكرت نشيداً وطنياً رائعاً لمناسبة اعلان المشروطية، وجاء موسيقار عربي موهوب من أهالي بيروت وهو وديع صبرا ولحن هذا النشيد، ودعي الناس الى الاجتماع في أكبر ميادين العاصمة لإنشاده. ثم بادر شاعر عربي كبير معروف الرصافي بنقل هذا النشيد الى اللغة العربية. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1908 اجريت الانتخابات العامة للمجلس النيابي، وفاز حزب "الاتحاد والترقي" بجميع المقاعد باستثناء مقعد واحد حصل عليه حزب آخر. ومثل البرلمان الجديد جميع عناصر الدولة العثمانية 142 تركياً، و60 عربياً، والبقية من قوميات اخرى بينهم 14 أرمنياً و4 أو 5 يهود. وفي 17 كانون الأول ديسمبر من تلك السنة شوهد السلطان عبدالحميد في شوارع استانبول، رجلاً منحني الظهر، شاحب الوجه، مرتدياً معطفاً سميكاً، وهو يتجه الى "مجلس المبعوثان" لافتتاحه. وفي الخطاب الذي ألقي نيابة عن السلطان لافتتاح البرلمان، ادعى السلطان انه كان قد أجل المجلس السابق نزولاً عند نصائح قدمت اليه مفادها ان الشعب لم يكن مستعداً للحكومة الدستورية. اما الآن، وقد أدى تقدم التعليم وارتفاع مستوى الثقافة، الى الرغبة العامة في اعادة الدستور، فإنه يعلن بلا تردد اعادة العمل به مجدداً، على رغم معارضة بعضهم له، وفي اليوم نفسه دعا السلطان أعضاء المجلس الجديد الى حفلة في قصر "يلدز" ابتهاجاً بهذه المناسبة. ولكن سرعان ما خابت الآمال التي علقت على الدستور، لأن قوى الرجعية ومعها خصوم حزب "الاتحاد والترقي" كانت تتهيأ لمقاومة العهد الجديد. وبعد فترة قصيرة تألفت في استانبول جمعية باسم الجمعية المحمدية تحمل الصفة الدينية في ظاهرها، بينما هي في الواقع ذات هدف سياسي، وهو العمل على محاربة العهد الجديد عهد المشروطية والقضاء عليه، مدعية ان الدستور مخالف للشريعة الاسلامية، وان السلطان وافق عليه مكرهاً، ولذا يجب إلغاؤه واعلان الشريعة الاسلامية دستوراً للبلاد. ولقيت مبادئ هذه الجمعية ونداءاتها شيئاً من الرواج في الأوساط العامة، وكان أنصارها يؤكدون ان الدستور هو من صنع الماسونيين والمرتدين واليهود. وفي أوائل نيسان ابريل 1909 نشر أحد الصحافيين في جريدته كلمة قصيرة يحبذ فيها ارتداء الأتراك للقبعة. ففسر المتزمتون ذلك بأنه دعوة الى تشبه الأتراك في زيهم بالكفار. وبعد أيام قلائل أطلق مجهول الرصاص على الصحافي وأرداه قتيلاً. وفي 13 نيسان ايضاً خرجت أفواج من الجنود الى الشوارع تطلق الرصاص في الهواء، وكانت في مقدمة كل فوج جماعة من الدراويش تحمل الأعلام وتهتف للشريعة. وحاصر الجنود البرلمان مجلس المبعوثان، ومقر الحكومة، وأرسلوا وفداً الى السلطان يطالب بإلغاء الدستور. ثم تفرق الجنود في الشوارع يبحثون عن الضباط الشبان المتخرجين في المدارس العصرية، وقتلوا حوالى ثلاثمئة منهم. وهجم الجنود ايضاً على نادي "الاتحاد والترقي"، وعلى ادارة جريدة "طنين" المؤيدة للاتحاديين، وعلى النادي العسكري، والنادي النسائي، فنهبوها وحطموا محتوياتها، وتقدموا نحو مجلس المبعوثان بقصد قتل اعضائه، وكان فيه نحو أربعين نائباً. وبقي هؤلاء ينتظرون الموت عدة ساعات، ومنهم من ألقى بنفسه من النوافذ، فسقط وكسرت أرجله. وقتل الجنود وزير العدلية، كما قتلوا نائباً عربياً هو الأمير الدرزي محمد ارسلان، أحد نواب سورية. وكان محمود شوكت باشا في ذلك الوقت قائداً للجيش الثالث ومقره في سلانيك سالونيكا يرقب ما يجري في العاصمة باهتمام كبير واستياء بالغ. فلما وصلته انباء واقعة 31 مارت ابرق الى العاصمة انه عائد الى استنبول لاقرار النظام فيها. وتحرك على رأس قواته وهو يتظاهر امامها بأنه يزحف لحماية السلطان وانقاذ البلاد من الفوضى، واستطاع ان يصل الى العاصمة مع جيشه بسرعة قياسية، فحاصرها، ثم دخلها، وحاصر قصر السلطان عبدالحميد قصر يلدز، ووقعت مصادمة شديدة بين قواته التي سميت "جيش التحرك" وحامية يلدز، انتهت اخيراً باستسلامها. لكن السلطان عبدالحميد استمر على المقاومة، فقرر محمود شوكت باشا ان يشن حملته الاخيرة، فاطلقت المدافع قنابلها على حاميته وكذلك على حامية "الباب العالي" و"النادي العسكري" واستولت عليها والقت القبض على الكثيرين من انصار النظام القديم الذين اثاروا الفتنة واعدم الجواسيس رمياً بالرصاص. وقدر عدد القتلى في هذه الاحداث بحوالي 1200 قتيل. واجتمع مجلسا الاعيان والمبعوثان في جلسة مشتركة في شكل جمعية وطنية، واستصدرا فتوى من "شيخ الاسلام" محمد ضياء الدين افندي، بخلع السلطان عبدالحميد، فانتدب اربعة من النواب لمقابلته وابلاغه بالقرار الذي لم يكن له مناص من الاذعان له، والاستسلام لما قدر له، ونُصب اخوه محمد رشاد سلطاناً، فاعلن هذا انه سيخدم الشريعة الاسلامية والدستور ويحترم ارادة الامة. وسقطت الوزارة القائمة ايضاً، وألفت وزارة جديدة وفي احد ايام سنة 1912 هجم الاتحاديون على مقر رئاسة الوزراء الباب العالي وقتلوا وزير الحربية ناظم باشا الذي عمل على استمالة الجيش ضد الحزبية والتدخل في السياسة. وعلى اثر ذلك وجد الاتحاديون ان الشخص الوحيد الذي يستطيع انقاذ الموقف هو محمود شوكت باشا فعهدوا اليه برئاسة الوزارة، ولقب ببطل الحرية. وعاد الاتحاديون الى الحكم اشد بأساً من ذي قبل. كان محمود شوكت باشا رجلاً مستقيماً وشريفاً، وعلى جانب كبير من الثقافة والشجاعة، وله مؤلفات عسكرية ورياضية عدة، وقد ترجم كتاباً في "اللوغاريتمات"، وكان شغوفاً بالنظام. وعلى الرغم من نشأته العسكرية لم يستسغ تدخل الجيش في السياسة، وقد منع الضباط من الانتماء الى الحزب الذي جاء به الى الحكم اذ كان يرى في ذلك مخالفة للدستور وقد حاول خلال الايام العصيبة التي تولى فيها رئاسة الوزراء ان يخدم الدولة بقدر المستطاع ولكنه تعرض قبل ان تمر سنة واحدة على توليه رئاسة الوزارة لمؤامرة دبرت لقتله. فبينما كان محمود شوكت باشا خارجاً في سيارته من وزارة الحربية في وسط العاصمة استنبول متجهاً الى ديوان رئاسة الوزراء الباب العالي في صبيحة يوم 11 حزيران يونيو 1913، رأى السائق في منعطف احد الشوارع نعشاً محمولاً على الاكتاف، يحف به ويمشي وراءه خلق كثير، فاضطر الى الوقوف ليدع الموكب يمر، احتراماً للميت. ولما وصل النعش الى محل وقوف السيارة، القى المشيعون التابوت على الارض، وهجموا على السيارة واطلقوا على من فيها وابلاً من الرصاص ثم تواروا عن الانظار بعد ان اصيب محمود شوكت باشا وخر صريعاً وقتل معه مرافقه. وخلال دقائق معدودة اصبح الشارع المزدحم عادة خالياً من الناس ولم يبق فيه سوى النعش مطروحاً على الارض وكان خالياً. نعت الدولة العثمانية الصدر الاعظم محمود شوكت باشا، وكان لنعيه في بغداد وقع الصاعقة، وهي التي كانت فخورة بوصول احد ابنائها الى الصدارة العظمى، فاعترت اهلها الدهشة لهذا الحادث، ورثاه الشاعر العراقي الكبير معروف الرصافي وهو اذ ذاك في استنبول بقصيدة رائعة في 43 بيتاً مطلعها: لقد بت مطروف النواظر بالسهد تقلبني فوق الفراش يد الوجد ومن أبياتها: وما مات محمود الخصال وانما تنقل من هذا الفناء الى الخلد لئن غُيبت عنا مرائيه في الثرى فما غُيبت عنا معاليه في اللحد وما هو إلا السيف قد كان مصلتاً على الدهر وهو اليوم قد قر في الغمد سيبقى له الذكر الجميل مؤبداً تمر به الأيام حالية الأيدي. ويعتز الأتراك حتى اليوم بذكرى الضابط العراقي محمود شوكت باشا ايما اعتزاز، ويعدونه بطلاً قومياً. وهو يحتل مكانة مهمة في جميع الكتب التاريخية عن تلك الفترة. وكان من مظاهر ذلك الاعتزاز ان الحكومة العراقية رشحت في سنة 1929 أخاه الوزير السابق خالد سليمان وزيراً مفوضاً للعراق في انقرة، على اثر وفاة وزيرها المفوض صبيح نشأت. ولكن الحكومة التركية لم توافق على قبوله، لا استهانة بشخص خالد سليمان أو لوجود مأخذ لديها عليه، بل اعتزازاً بذكرى أخيه محمود شوكت باشا الذي يعد من أبطالها القوميين، ولذلك ترى انه لا يصح ان يأتي أخوه ممثلاً لدولة اجنبية لديها