بين الاخبار التي رافقت احداث العراق بعد تحريره من نظام صدام حسين، والانفلات الامنى الذى ساد بغداد وغيرها من مدن العراق، كانت اخبار الاطاحة بتمثالين كانا يرتفعان في ميدانين من اهم ميادين العاصمة العراقية، اولهما تمثال صدام حسين، والثاني تمثال عبدالمحسن السعدون. وكانت ازالة تمثال صدام حسين امراً منتظراً، ومرغوباً فيه، ولا بد منه بعد التخلص من طاغية دمر العراق وظلم شعبه ظلماً لم يعرفه في تاريخه الطويل. ولكن سرقة تمثال عبدالمحسن السعدون بقيت سراً غامضاً. وروى شهود عيان ان خمسة لصوص، ومعهم عربة يجرها حمار، ضربوا بالمطارق على تمثال السعدون الذي يقوم وسط العاصمة وفي شارع من اهم شوارعه واحفلها بالمارة، وهو الشارع الذي يحمل اسمه، من دون ان تراهم شرطة عراقية ولا دورية أميركية. وكان التمثال يقوم على قاعدة ترتفع خمسة امتار، ويمثل عبدالمحسن السعدون واقفاً على قدميه، مرتدياً "السدارة" التي كانت شعار الرأس العراقي في العهد الملكي. وقد شوهدت آثار ضرب المطرقة على أرضية التمثال وبقيت أجزاء من قسمه السفلى فوق المنصة. وأعادت سرقة تمثال السعدون بهذه الطريقة الجريئة وهذه العملية الخرقاء، الى الذاكرة خدمات هذا السياسي العراقي الوطني الشريف في ظروف كانت غاية في الصعوبة بين سيطرة سلطة الانتداب البريطاني ومطالب الوطنيين، وضغط الرأى العام. تلك الظروف التي أدت في النهاية الى انتحار الرجل بعد ان عجز عن التوفيق بين هذين التيارين القويين، ورفض آباؤه ان يطعن في وطنيته او يتهم بالخيانة، وهو من اشرف ساسة العراق وانبلهم واصدقهم وطنية ونزاهة وأعفهم نفسا. وحار الناس في تعليل هذه العملية التخريبية السخيفة، وذهبوا في تفسيرها مذاهب شتى كعادتهم في تفسير كل حدث يقع في العراق. قال بعضهم ان اللصوص كانوا يطمعون في مادة البرونز التي صنع منها التمثال، في حين ان قيمة المادة التي يحتوي عليها التمثال لا تساوي الجهد والمخاطرة التي تكبدها السراق، بينما كان هنالك - في تلك الظروف مجال لسرقات اكثر مردودا وبمجهود ومخاطرة أقل. وعزاه البعض الى اسباب طائفية او حزازات عشائرية ضد اسرة السعدون السنية، لان عبدالمحسن السعدون كان رمزاً للحكام السنيين الذين تعاقبوا على الحكم في العراق. وذلك ايضاً تفسير يصعب قبوله، وفيه تعريض بالمواطنين الشيعة الذين كانوا يشاطرون اخوانهم السنة في احترام عبدالمحسن السعدون، والإشادة بوطنيته واخلاصه وإبائه. وربما كانت هنالك اياد خفية مستفيدة من هذه العملية الصبيانية، ولها مصالح في اثارة حزازة طائفية تدخل العراق في مزيد من المتاهات التي لا نهاية لها بقصد اضعاف الصف الداخلي في العراق، ومحاولة ضرب القوى والطوائف التي يتألف منها الشعب العراقي بعضها ببعض، وبث الرعب في نفوس زعماء عشيرة السعدون واقصائهم عن الساحة السياسية. وقد سبق لهذه العشيرة الكبيرة ان تعرضت لاعتداءات شتى أخيراً، منها مقتل زعيمها الشيخ نجم السعدون، واثنين آخرين من افراد هذه العشيرة التي وقفت في وجه الاحتلال البريطاني للعراق خلال الحرب العالمية الاولى وبعدها، وساعدت القائمين بثورة العشرين المعروفة، وامدتهم بالمال والرجال. حينما ظهر عبدالمحسن السعدون على المسرح السياسي في العراق لدى تكوين الدولة في بداية العشرينات، كان الشعب العراقي، بسبب ظروف العهد القائم آنذاك، ونظام المجتمع وطبيعة تكوين الدولة الجديدة، وازدواجية الحكم، وبدائية وسائل الاعلام، يجهل ما يدور وراء الستار من مناورات بين رجال السياسة الوطنيين، وبين سلطة الانتداب التي كان يعز عليها ان ترى خيوط السيطرة على شؤون البلاد تفلت من يديها، فتزداد تمسكا بها حينا، ثم لا تلبث ان ترخيها قليلاً، لتعود الى شدها من جديد. وكانت الدول الفتية تتجاذب مصيرها قوى متعددة: فهنالك سلطة الانتداب، وكان "الانتداب" صيغة جديدة، ذكية، توصلت اليها الدول الكبرى المنتصرة في الحرب العالمية الاولى خلال مؤتمر الصلح في باريس لتبرير اقتسامها الاقطار المنسلخة عن الدولة العثمانية التي اشتركت في الحرب ضدها. وكان هنالك ايضاً الملك فيصل الاول الذي كان يعمل على ترسيخ عرشه في العراق بعد ان خسر عرشه، ويحاول ان يتحاشى مع الانكليز اخطاءه مع الفرنسيين، وان يفيد من تجاربه السابقة، فإلى أي حد كان يستطيع الوقوف بوجه سلطات الانتداب، وكم يستطيع ان ينتزع منها لأجل الوقوف امام تيار الرأي العام، محاولا في الوقت نفسه تحقيق التوازن بين مطالب الوطنيين، وضغط البريطانيين. وكان هنالك، أخيراً، رجال السياسة، والزعماء الشعبيون، واصحاب النفوذ التقليدي في البلد، وشيوخ العشائر وانتماءاتهم المتنوعة ومصالحهم المتضاربة احيانا. فمنهم الوطني الصادق الذي تعوزه الخبرة والمعرفة، ومنهم المتمرس الذي ينقصه الاخلاص، ومنهم الانتهازي الوصولي، والمثقف، والجاهل، والكفؤ الذي يصلح للحكم، والساذج الذي دفعته الظروف الى الامام. وفي هذا الجو، وفي خضم هذه الظروف الحساسة والمتضاربة، والبدائية نوعاً ما، ظهرت شخصية عبدالمحسن السعدون فريدة في طابعها، صافية، متألقة. وكان بحكم نشأته وخلفيته، يختلف عن معظم معاصريه من رجالات العراق الذين كانوا يتصدرون المسرح السياسي في الدولة الفتية. فهو عربي المحتد، صافي الارومة، تركي الثقافة، عصرى النزعة، ينتمي الى أسرة عريقة محترمة كانت لها الرئاسة بين عشائرها. ولد في "الناصرية" في سنة 1879 لاسرة شريفة هبطت العراق من الحجاز في اوائل القرن السادس عشر الميلادي، ثم اسست في "المنتفق" امارة دامت اكثر من ثلاثمئة سنة. وقد حكم غير واحد من اجداد عبدالمحسن البصرة الى جانب المنتفق، وكان والده فهد باشا السعدون شيخاً للمنتفق منذ سنة 1865، ولما قضت الدولة العثمانية على امارة آل السعدون، نصبت فهد باشا متصرفا للناصرية. ولما بلغ عبدالمحسن الثالثة عشرة من عمره أرسله والده، بطلب من السلطان عبدالحميد الثاني، الى اسطنبول ليلتحق بمدرسة فتحها لأبناء العشائر، فلما اكمل دراسته فيها انتمى الى المدرسة الحربية في اسطنبول، وتخرج فيها، وعينه السلطان عبدالحميد في عداد مرافقيه الياوران. وعلى اثر اعلان الدستور العثماني انتخب نائباً عن المنتفق في مجلس المبعوثان البرلمان العثماني وصار يصغي الى مناقشات المجلس، ويجالس اقطاب الدولة وساستها ومندوبي ولاياتها، وكان بينهم نائب شاب من اشراف الحجاز، يمثل ولايته، اسمة "فيصل". وبذلك خبر الحياة البرلمانية ومداوراتها ومناوراتها. وهذه جميعا تجارب لم تتح لغيره من الرجال الذين احاطوا بالملك فيصل الاول عند اعتلائه العرش امثال عبدالرحمن النقيب، وياسين الهاشمي وجعفر العسكري ونوري السعيد وغيرهم. كما انه لم يلتحق بالثورة العربية، كما فعل بعضهم، ولم تكن له بالانكليز صلات سابقة كالتي كانت لهم. عاد عبدالمحسن السعدون الى العراق على أثر قيام الدولة العراقية، فعين وزيراً للعدلية في سنة 1922 في وزارة السيد عبدالرحمن النقيب، ثم تولى رئاسة الوزراء بعد ذلك أربع مرات وترأس المجلس التأسيسي الذي سن الدستور العراقي. كان عبدالمحسن السعدون رجلاً نزيها فوق الشبهات، تتمثل فيه السجايا العربية الاصيلة، كريم الطبع مترفعاً، شديد الاعتزاز بسمعته وكرامته الشخصية والوطنية. ومن أمثلة نزاهته وتجرده انه رفض تعيين ابن اخيه توفيق السعدون بوظيفة صغيرة، مع انه كان شابا كفوءا ومثقفاً ومتخرجاً في كلية الحقوق، وقال: لا يسوغ ان أوظف اقربائي وانا في منصب وزاري، حتى بلغ الامر بتوفيق السعدون على ما روى لي بنفسه في نادي العلوية ببغداد قبيل وفاته ان تشاجر مع عمه وبقي غاضباً عليه لمدة طويلة. وكان السعدون رجلاً واسع التفكير، متسامحاً، بعيداً عن التعصب، وكانت في شخصيته جوانب انسانية عالية. وقد حدث مرة ان هاجمه أحد الموظفين او العاطلين عن العمل وهو في طريقه الى مكتبه وطعنه بمدية قوية احدثت في وجهه جرحاً بليغاً نقل على اثره الى المستشفى وكاد يودي بحياته. ومع ذلك فاجأ السعدون الناس باعلان عفوه عن الرجل الذي أُحيل الى القضاء، وقال: لا شك انه جائع جدا ودفعه الجوع الى هذا العمل. ولم يكتف بذلك بل أخذ يمد اسره ذلك الرجل ببعض المال من وقت لآخر. فأين هذا التسامح وسمو النفس مما شهدناه في العراق في أيامنا هذه من قطع الاذان واللسان لمن يتفوه بانتقاد بسيط للطاغية بل القاؤه للكلاب الجائعة تمزقه اربا اربا. كانت جريدة "الاستقلال" التي تصدر في بغداد تتعرض للسعدون بالنقد القاسي وهو رئيس للوزراء، وقد طلعت مرة بمقالة عنيفة في الهجوم عليه، ووصفت السعدون ووزراءه قائلة: "... وجوه من قردة، وقلوب من خنازير. أرني نقطة الحياء في هذه الوجوه الصفيقة...". وفي اليوم التالي طلعت جريدة "التقدم" الناطقة بلسان "حزب التقدم" الذي يرأسه عبدالمحسن السعدون، بمقالة ترد فيها على مقالة "الاستقلال" شأن المساجلات الحزبية. فما كاد السعدون يطلع عليها حتى استدعى رئيس التحرير وأمره بالكف عن الرد على جريدة "الاستقلال" والتعرض لها، قائلاً: "هذه جريدة تكتب بروح وطنية تؤمن بها، فإذا هي هاجمتني بعنف، وكان لا بد من الرد، فليكن الرد كريما يا ولدي". وحين نروي هذه الحادثة اليوم نتذكر رد فعل صاحب التمثال الآخر الذي اطيح به، اذ امر بالقاء احد كبار الصحافيين بل نقيبهم عبدالعزيز بركات صاحب جريدة "المنار" في حوض من الاسيد وتذويب جثته فيه بسبب تهمة قديمة لا يعاقب عليها أي قانون أرضي او سماوي بل كان السعدون يتعمد الإفادة من انتقادات الصحف لاعمال وزارته، وكثيراً ما صرح في مناسبات سياسية خاصة بأن "نقد الصحف قوة لنا في المطالبة بحقوقنا وحاث لنا على تعديل المعوج من سيرنا"، حتى انه حاول في بعض الاحيان، متعمداً، ان تتسرب مناقشات الوزارة ومواقفها من بعض القضايا الى الصحف المعارضة لكي يستغل انتقادات تلك الصحف في التأثير على مواقف الجهات البريطانية من تلك القضايا. ولما تولى عبدالمحسن السعدون رئاسة الوزارة في عهد الانتداب كان المندوب السامي البريطاني كل شيء في الحكم والسياسة والادارة في الدولة الناشئة. وكان هم السعدون استعادة سيادة البلاد تدريجيا. وكان المندوب السامي في تلك الفترة السير هنري دوبز الذي كان رجلاً عنيداً متغطرسا. وفي احد الايام كان يباحث السعدون، وهو رئيس للورزاء، في بعض شؤون الادارة والسياسة، ويتحدث بغطرسته المعتادة، والسعدون يناقشه بالحسنى والمنطق، وبما اتصف به من تأن وأدب رفيع. ولما رأى دوبز تصلب السعدون في موقفه قال له بلهجة صارمة: "تريد يا عبدالمحسن بك ان تكون ديكتاتوراً في البلاد؟". فأجابه السعدون: "لا يمكن ان يكون ديكتاتور في البلاد وانت موجود في مركزك هنا". وغضب المندوب السامي وضرب المنضدة التي كانت أمامه بيده، وتكلم بصوت مرتفع، فما كان من السعدون الا ان ترك مجلسه وقصد البلاط الملكي وقدم الى الملك استقالته، وعاد الى بيته رافضاً موقف المندوب السامي والتصرف الذي بدر منه. واهتزت دار المندوب السامي للحادث، ولم يسع السير هنري دوبز، على ما عرف عنه من صلابة وخشونة، إلا ان أوفد الى السعدون مستشار وزارة الداخلية البريطاني كينهان كورنواليس الذي أصبح سفيرا لبريطانيا في العراق في ما بعد مع كتاب اعتذار، مرفقاً بصورته الفوتوغرافية، وعليها إهداء بخطه قال فيه: "تجلة واحترام للسعدون". فوافق السعدون على سحب استقالته بعد إلحاح من كورنواليس. وكان السعدون في احد الايام في حضرة الملك فيصل الاول، وكان وكيل المندوب السامي هيوبرت يونغ معهما حين غمزه يونغ بعبارة لم يرتح لها، فقال له غاضباً: "لا اقبل منك هذا... اني اذكرك بأنك تخاطب رئيس وزارء العراق..."، ثم التفت الى الملك فيصل معتذراً بأدب ولباقة. وفي يوم 2 تشرين الثاني نوفمبر سنة 1929، افتتح الملك فيصل الاول مجلس النواب والقى "خطاب العرش" الذي عرض فيه سياسة الحكومة ومنهاجها. ثم تكلم رئيس الوزراء عبدالمحسن السعدون مجيبا على خطاب العرش حسب التقليد المتبع، وواجه السعدون المجلس بالحقيقة المرة قائلاً. لهم: "الأمة التي تريد الاستقلال يجب ان تتهيأ له، ولا يكون ذلك بالكلام والاقوال الفارغة، فالاستقلال يؤخذ بالقوة والتضحية". ولم يكد السعدون ينهي خطابه حتى رأى المتصيدون في الماء العكر ان يستغلوا مواجهته للنواب بالحقيقة المرة عندما قال لهم ذلك، فسعوا بالوشاية ضده لدى دار المندوب السامي البريطاني احراجا لموقفه، وأسمعه بعض النواب كلاماً لا تحتمله نفسه الأبية، وانتقد بعض النواب سياسة الوزارة مدفوعين بالعواطف، وتمادى بعضهم في التهكم والسباب واتهمه احدهم، وهو النائب الكردي معروف جياووك بما يشبه الخيانة، وترك السعدون وحيداً لمواجهة حملة المعارضين، ولم ينهض احد، حتى من نواب حزبه حزب التقدم لمناصرته في المجلس، بل اكتفوا بالتصويت الى جانب جواب خطاب العرش الذي ألقاه. وعاد السعدون مساء الى بيته، وترك رسالة الى ابنه علي باللغة التركية، وترجمتها: "ولدي وقرة عيني ومستندي علي، اصفح عنى بسبب الجناية التي ارتكبتها، فقد سئمت هذه الحياة واجتويتها. لم أجد في حياتي لذة ولا متعة ولا شرفاً. الأمة تتوقع الخدمة، والانكليز لا يوافقون. ليس ثمة سند. العراقيون الذين يريدون الاستقلال ضعفاء، عاجزون، بعيدون جدا عن الاستقلال. انهم عاجزون عن تقدير نصائح الشرفاء أمثالي. يظنون انني خائن للوطن وعبد للانكليز. ما أعظمها من نكبة. انا الذي أكثر الناس اخلاصا لوطني تحت كل انواع الاهانات والمذلات، وذلك من أجل هذه البقعة المباركة التي عاش فيها آبائي وأجدادى مرفهين. ولدي: ان نصيحتى الأخيرة هي: 1 العطف على اخوانك الصغار الذين سيصبحون ايتاما. والاحترام لوالدتك، والاخلاص لوطنك. 2 الاخلاص المطلق للملك فيصل وذريته. اصفح عني يا ولدي عبدالمحسن ترك هذه الرسالة على مكتبه ثم خرج الى الشرفة واطلق النار على نفسه. ووقع خبر انتحار السعدون على الشعب العراقي وقع الصاعقة، وهرع الوزراء والاطباء والساسة الى داره، كما ذهب اليها الملك فيصل الاول، ووقف امام جسده مذهولا، وهو يقول: "لقد خسرتك انا، وخسرتك البلاد". وكان لانتحار السعدون، وهو في رئاسة الوزارة، آثاره المختلفة على الشعب، والملك، وسلطة الانتداب. فقد أثار هذا الانتحار ضمير الشعب وآلمه وأثار نقمته على الانكليز والمتعاونين معهم، وكذلك أحرج الملك فيصل وأضعف موقفه أمام الشعب، وقواه أمام الانكليز. اما الانكليز فقد أحرجهم الامر، وأوقعهم في حيرة. ووجهت دار المندوب السامي كتاباً شديد اللهجة الى الملك فيصل اشارت فيه الى الهياج الذي أحدثه نشر كتاب السعدون او وصيته في الصحف مما أدى الى الاخلال بالهدوء والسكينة، بخاصة العبارة التي وردت فيها: "الامة تريد الخدمة، والانكليز لا يوافقون"، اذ اثار ذلك نقمة الرأي العام عليهم، وخرجت الجماهير تهتف هتافات معادية للانكليز مثل "عبدالمحسن نأخذ ثاره" و"ساعة يا لندن مرهونة". وأرسل المندوب السامي برقية سرية الى حكومته يخبرها بالحادث جاء فيها: "على الفور: يؤسفني ان أخبركم ان السير عبدالمحسن السعدون رئيس الوزراء أطلق الرصاص على نفسه في الليلة الماضية. "وقد قيل لي انه كان منذ مدة مرهقاً بنتيجة المطالب الموجهة اليه من زملائه ومؤيديه، والتي كانت تتضارب مع وجهات نظره في واجباته نحو البلاد وولائه لزملائه البريطانيين. ان وفاته خسارة عظيمة للبلاد، ولنا". وقررت الحكومة العراقية، على اثر هذه الحادثة المؤلمة، اقامة تمثال لعبدالمحسن السعدون في بداية شارع من أهم شوارع العاصمة اطلق عليه اسمه ايضاً، وهو شارع السعدون. اما الناس في بغداد، فقد تناقلوا على اثر الحادث أقوالا واشاعات مفادها ان انتحار السعدون كان بسبب حال غير طبيعية من الكآبة والمرض النفسي الذي كان كامناً لديه، وان الامر كله لم يكن يستوجب الانتحار. لم ينج أي سياسي في العراق من اتهامات عنيفة يكيلها له خصومه بالحق او بالباطل. وقد كان بامكانه ان يستقيل مثلا، او يعتزل الحياة السياسية، وكان في ذلك ما يكفي لصيانة كرامته وتضميد الجرح الذي شعر به. وقد تعززت ادعاءات القائلين بذلك الرأي على اثر انتحار ولده علي ايضاً بعد والده بسنوات، اذ اخذوا يعزون الأمر الى حال نفسية وراثية. وقال آخرون: "فتش عن المرأة"، وذهبوا الى ان زوجة عبدالمحسن السعدون كانت تزعجه بدرجة لا تطاق وتنغص عليه حياته، مما سود الدنيا في عينيه، وجعله يكره الحياة، فعمد الى التخلص منها في لحظة يأس قاتل. ولكن، اذا صح هذا التأويل، فما معنى رسالته الى ولده، وما معنى ما أوصاه به من وجوب الولاء والاحترام لوالدته؟ ان الدراسات التي صدرت عن عبدالمحسن السعدون حتى الان معدودة، وهي لم تتناول هذه النواحي ولم تلق عليها ضوءا كافيا، فهي عبارة عن سرد لوقائع حياة الرجل منذ ولادته حتى وفاته، من دون تحليل لشخصيته ونفسيته وحياته اليومية وعاداته الشخصية وآرائه في الناس والحياة، وظروف انتحاره وملابساته المعقدة، وبواعثه الانية والكامنة. ولذلك فإن معظم تلك الدارسات ليست الا سيرة رسمية تكاد تكون خالية من الجوانب الانسانية. ان الرجال المتفانين في خدمة اوطانهم، والذين يضحون بحياتهم في سبيل كرامتهم ومبادئهم هم اناس غير اعتياديين، ولا يحفل تاريخ البشرية منذ اقدم عصورها بغير عدد قليل جدا من الرجال الذين اقدموا على ما اقدم عليه عبدالمحسن السعدون، وان سير اولئك الرجال تبقى منارا للاجيال التالية، وتكون دروسا رائعة في الفداء ونكران الذات. وفي حياة هذه الشخصية الفريدة في تاريخ العراق الحديث كثير من الدروس والعبر، لا سيما امام ما نشاهده من التخاذل والذل من جانب البعض إزاء الأزمات أو لدى مواجهة العدو