خرجت بريطانيا من الحرب العالمية الاولى لتجد نفسها امام ثلاث مجموعات من الالتزامات التي ارتبطت فيها في الشرق الاوسط، وهي: التزاماتها نحو حليفتها الكبرى فرنسا، وتعهداتها للعرب الذين ثاروا على الدولة العثمانية متعاونين معها، آملين الحصول على استقلالهم ووحدتهم بعد الحرب، ووعدها للصهيونيين في شأن "الوطن القومي" في فلسطين. وإلى جانب هذه الالتزامات كان على الحكومة البريطانية ان تحقق اهدافها التي تمليها مصالحها في فترة ما بعد الحرب، واهمها السيطرة على العراق ونفطه، وهو ما كانت تطالب به وزارة الهند، واكثر منها وزارة البحرية، وكذلك تأمين خطوط المواصلات الامبراطورية، وتثبيت الحدود بين الدول الواقعة تحت النفوذ البريطاني في المنطقة في المستقبل، وذلك ما كانت تؤكد عليه وزارة الحرب بإلحاح. وكثيراً ما وصفت السياسة البريطانية في الشرق الاوسط بعد الحرب بأنها كانت سلسلة من المحاولات الفاشلة للتوفيق بين هذه الالتزامات المتناقضة التي املتها ضرورات الحرب، فلما آن أوان الوفاء بها كانت بريطانيا في موقف صعب، اذ وجدت انه لا يمكنها تنفيذ أحد الالتزامات الثلاثة من دون الاخلال بالآخرين. ولم تكن بريطانيا - وهي دولة استعمارية كبرى، خرجت من الحرب منتصرة - لتكتفي بالنظر إلى الماضي، وما دخلت فيه من التزامات وقطعته من عهود، بل كانت تنظر الى المستقبل ايضاً على ضوء مصالحها التي كانت دائماً الاساس الذي تبني عليه سياستها في جميع الظروف والحالات، ولذلك لم يكن النفط، وسلامة خطوط المواصلات في هذا العصر الحديث اقل اهمية في تأمين مصالحها من كسب ودّ الدول والشعوب الموجودة على خطوط هذه المرافق الحيوية. وفي سنة 1918 - 1919 كان الشرق الاوسط المنطقة الوحيدة التي تصادمت فيها مطامع بريطانياوفرنسا التوسعية الى درجة هددت نجاح اية تسوية سلمية بعد الحرب. وفي محادثات مؤتمر الصلح كان معظم هذه التناقضات يتعلق بتسوية مشكلة سورية، وحدود فلسطين، ومنافذ بريطانيا من العراق الى البحر المتوسط. ووقعت "معركة ميسلون" الفاصلة في وقت كان الرأي العام البريطاني مهتماً بالثورة العراقية ونتائجها، والساسة البريطانيون منهمكين في رسم خطط جديدة في شأن مستقبل العراق ومصالح بريطانيا فيه. ولما انتهت تلك المعركة غير المتكافئة بالنتيجة التي كان لا بد ان تنتهي اليها، وخرج فيصل من دمشق ملموماً محسوراً، كان الفرنسيون يريدونه ان يتوجه الى الحجاز، ويلتحق بوالده فيها، فيكون بعيداً عن الانظار، وينساه الرأي العام العالمي، ويبقى المجال مفتوحاً امامهم لتنفيذ مخططاتهم الاستعمارية في سورية، وتوطيد اقدامهم فيها تحت ستار الانتداب، من دون اية مشاكل. ولذلك أعدّ الفرنسيون لفيصل قطاراً يقلّه، مع عائلته وحاشيته، نحو الجنوب. فغادر دمشق في 28 تموز يوليو 1920 الى درعا، وبقي فيها ثلاثة ايام متردداً بين السفر غرباً الى حيفا، فأوروبا او جنوباً الى عمان، فالحجاز. وكان قراراً دقيقاً وفاصلاً ذلك الذي وجد فيصل نفسه مضطراً لاتخاذه: فالسفر الى حيفا يعني خروجه من البلاد التي كان يحكمها والابتعاد عن سورية، ولكنه في مقابل ذلك، يوصله الى اوروبا، ويفتح امامه مجال الاتصال بساستها ويتيح له الدفاع عن حقوق البلاد امام مؤتمر الصلح وعصبة الامم وصحافة العالم. اما السفر جنوباً الى عمان فكان يؤدي به الى القسم الجنوبي من البلاد التي بايعته، ويبقيه متصلاً مع سورية من جهة، ومع الحجاز من جهة اخرى، ولكنه في مقابل ذلك، كان يبعده عن اوروبا، ويحرمه من الاتصال بمؤتمر الصلح وعصبة الامم.1 ولكن الفرنسيين لم يمهلوه في درعا طويلاً، فأرسلوا اليه إنذاراً بوجوب مغادرتها الى الحجاز، وهددوا بقصف المدينة اذا بقي فيها، كما ألقت الطائرات الفرنسية على مدينة درعا وشتى قرى حوران منشورات تدعو الأهلين الى اخراج فيصل من بلادهم، لأن اقامته بينهم ستجعلهم هدفاً للقنابل. فقرر فيصل، ازاء هذه الظروف، السفر الى حيفا، فوصلها في اول آب اغسطس سنة 1920، وبقي فيها حتى 18 منه، ثم غادرها في صباح ذلك اليوم بالقطار قاصداً بورسعيد، وعند مرور القطار في محطة اللد استقبله فيها السر هربرت صموئيل، المندوب السامي البريطاني لفلسطين، ورونالد ستورز حاكم القدس، مع ثلّة من الجند لتحيته. وقد كتب هربرت صموئيل عن هذا الاستقبال في مذكراته التي نشرها العام 1945 يقول: "قررت ان استقبل فيصلاً على الارض الفلسطينية لا كلاجئ غُلب على أمره، بل كصديق محترم، ولذا أمرت فصيلة من الجند لتحيته في المحطة عند وصوله، ثم تقدمت مع السر رونالد ستورز لاستقباله. وقد قيل لي بعد ذلك ان الملك فيصل لم يدر هل كان اولئك الجنود هناك لالقاء القبض عليه او لتكريمه بعد الايام العصيبة التي مرّت به. وقد ارتاح اذ علم انهم كانوا هناك لاستقباله استقبالاً عسكرياً".2 أما ستورز فكتب في مذكراته ما يأتي: "ذهبت مع السر هربرت لتحية فيصل وزيد حينما مرّ قطار المنفى باللد، حيث أعددنا له حرس شرف مؤلفاً من مئة رجل. وقد تصرّف فيصل بعزّة نفس وبالاباء النبيل الذي يحض عليه الاسلام… على الرغم من ان عينيه كانتا مغرورقتين بالدموع والجرح متغلغلاً الى الاعماق…".3 وفي 20 آب غادر فيصل ميناء بورسعيد على متن باخرة تجارية، ولم يصطحب معه في هذه السفرة سوى عدد قليل من رجاله وهم نوري السعيد واحسان الجابري وساطع الحصري، كما كان معه اخوه الأمير زيد ومرافقا اخيه صبيح نجيب وراسم سردست. وكان ساطع الحصري، وزير المعارف في حكومة فيصل السابقة في سورية، الوزير الوحيد بين مرافقيه في تلك السفرة. وقد دوّن الحصري مذكراته عن خروج فيصل من دمشق، وسفرته هذه، في كتابه المعروف "يوم ميسلون". ونزل فيصل وحاشيته في ميناء البندقية بايطاليا، ثم سافروا الى روما فميلانو، ومنها استقلوا القطار متجهين الى سويسرا. لكن الجنرال حداد باشا، مدير الامن العام السابق في سورية، الذي كان فيصل قد أوفده الى بريطانيا معتمداً موقتاً له لمفاوضة البريطانيين نيابة عنه، استقبلهم في الطريق قبل ان يدخلوا سويسرا، وأبلغهم رسالة شفوية من رئيس الوزارة البريطانية لويد جورج، يطلب فيها إلى فيصل عدم الذهاب إلى سويسرا والتريث في ايطاليا، لأن ذهابه الى سويسرا في ذلك الوقت، بينما كانت عصبة الامم تعقد اجتماعاتها هناك، "يربك هذه الاجتماعات والمذاكرات، ويحدث مشاكل كثيرة ليس من مصلحة احد اثارتها في الاحوال الحاضرة"4، فاضطر فيصل الى البقاء في شمال ايطاليا، واختار مدينة "جرنوبيو" الواقعة على بحيرة "كومو" الجميلة قرب الحدود الايطالية السويسرية مقاماً له بانتظار تطور الاحداث. وفي هذه الفترة كانت الحكومة البريطانية تدرس موضوع تأسيس حكومة عربية في العراق، واختيار مرشح مناسب لعرشه. وكان الرأي العام البريطاني قد ضجّ من عبء النفقات التي تتحملها بريطانيا في العراق، كما ان الثورة العراقية كبّدت البريطانيين خسائر كبيرة في الاموال والارواح. وكان المرشحون الذين يمكن عرض العرش عليهم، او الذين يطمحون اليه، عديدين. والى جانب مزايا كل واحد منهم، كانت له عيوبه، وعليه مآخذه، من وجهة نظر بريطانيا، او الشعب العراقي او الاعتبارات العملية او الشخصية الاخرى. وقد ابرز اخراج الفرنسيين للملك فيصل من سورية إلى الميدان مرشحاً جديداً لم يكن في الحسبان لو لم تتخذ الاحوال في سورية المجرى الذي اتخذته، ولم تنته الى النتيجة التي انتهت اليها. على ان فكرة نصب احد ابناء الملك حسين على عرش العراق لم تكن جديدة، فمنذ ان كان فيصل في باريس، مندوباً عن الحجاز في مؤتمر الصلح سنة 1919 ارسل اليه بعض العراقيين عدداً من المضابط لكي يعرضها على المؤتمر طالبوا فيها "باستقلال العراق تحت ملوكية احد انجال الحسين". غير ان وزارة الهند التي كانت تتولى ادارة العراق لم تكن راغبة في التخلي عن حكم العراق المباشر، ولذلك قاومت تلك الفكرة في بداية ظهورها اشد المقاومة، وبقيت على موقفها هذا حتى قيام الثورة العراقية التي اجبرت الحكومة البريطانية على اعادة النظر في سياستها العراقية. ولما عقد المؤتمر السوري اجتماعه في آذار سنة 1920 للمناداة بفيصل ملكاً على سورية، عقد العراقيون الذين كان في دمشق عدد غير يسير منهم "مؤتمراً عراقياً قرروا فيه اعلان استقلال العراق وملكية الامير عبدالله بن الحسين عليه، على ان يكون متحداً سياسياً واقتصادياً مع سورية، متطابقاً في ذلك مع ما قرره "المؤتمر السوري" بالنسبة للعراق، وقد أذيع هذا القرار في اليوم نفسه5، كما اعلن فيصل تأييده له. ومن الغريب ان يكون اول من اقترح ترشيح فيصل ملكاً للعراق هو السر آرنولد ويلسن، الحاكم المدني العام في العراق بالوكالة، والذي كان في السابق من دعاة الحكم البريطاني المباشر، وأدت اساليبه الاستعمارية في العراق الى قيام الثورة العراقية. وقد روى ويلسن في كتابه "العراق 1917 - 1921، تصادم في الولاء" الذي يتضمن ذكرياته ما يأتي: "حالما وصلت أنباء خلع الملك فيصل الى بغداد، أبرقت مقترحاً ان تعرض عليه حكومة جلالته رئاسة دولة العراق. فان شجاعته الشخصية، ومحتده الرفيع، ومهارته الديبلوماسية، كانت اموراً معروفة جيداً، وقد أحلته مكانة فريدة في الاوساط العربية. وكان كل شيء سمعته يشير الى ان من المحتمل ان يصبح رئيساً فعالاً لدولة العراق بصورة تفضل بكثير اياً من اخوانه. وكنت مدركاً ان من المحتمل ان يقابل الاقتراح بالاعتراض من جانب الحكومة الفرنسية كما حدث فعلاً ولكنني كنت اشعر ان الفكرة جديرة بأن يجازف من اجلها، والتجربة جديرة بالمحاولة. وكانت برقيتي كالآتي: "برقيتكم المؤرخة في 30 تبدي ان الامير فيصل غادر بأمر صادر عن الفرنسيين الى درعا الواقعة في المنطقة البريطانية. وهذا، كما يبدو من العراق قد يدل على احد امرين: انه قد يكون الآن في طريقه الى الحجاز، أو انه ينوي البقاء في ذلك القسم من سورية الذي هو تحت النفوذ البريطاني. فإذا بقي في درعا، واستمر على الادعاء بملكية سورية، فإنه سيجمع حوله عدداً كبيراً من ضباطه القدماء، وسيكون مصدر اضطرابات مستمرة للفرنسيين، ولكنه اذا تنازل عن ادعائه بسورية وطالب بالسيادة على فلسطين، فإن وجوده سيجعل الأمور صعبة جداً للفرنسيين، وسيضعنا في موقف حرج جداً… "فهل لحكومة جلالته ان تنظر في امكان عرض إمارة العراق عليه. ان اعتراضاتنا على تأسيس امارة كانت حتى الآن، وبالدرجة الأولى قائمة على عدم وجود شخص مناسب. لقد كنا على الدوام نعتبر فيصلاً محجوزاً لسورية. وليس بين ما سمعته خلال الأشهر القلائل الماضية ما جعلني أغير رأيي بعدم صلاح عبدالله، وان تجربتنا خلال الاسابيع القلائل الماضية في بغداد توضح بدرجة لا بأس بها انه ليس هنالك مرشح محلي يمكن ان ينجح في احراز تأييد كاف يمكنه من القيام بعمل مفيد. ان فيصلاً من بين جميع الأمراء العرب هو الوحيد، الذي لديه فكرة عن الصعوبات العملية في ادارة حكومة متمدنة على الخطوط العربية، ولا يفوته ان يقدر ضرورة المعونة الخارجية لاستمرار بقاء دولة عربية، كما انه يدرك خطر الاعتماد على جيش عربي. وإذا منحناه امارة العراق فإننا لن نعيد فقط مكانتنا في أعين العالم العربي، بل اننا ايضاً نقطع شوطاً بعيداً في إزالة التهمة التي ستوجه الينا بخلاف ذلك، تهمة سوء النية تجاه كل من فيصل، وشعب هذا البلد. واذا اتخذت حكومة جلالته قرارها الحاسم في حصر التزاماتها بهذا البلد، فستكون هنالك امكانات للنهوض بها مع وجود فيصل هنا، أفضل من أي ترتيب ممكن آخر"6. وقد تقبل وزير شؤون الهند، مونتاغيو، هذا الاقتراح تقبلاً حسناً، ولكن لم يكن بالامكان اتخاذ أي اجراء عملي في شأنه لأن وزير الخارجية، اللورد كرزن، كان معارضاً للفكرة، وانه على رغم شجبه بشدة قرار المؤتمرين العراقيين في دمشق الخاص بانتخاب الأمير عبدالله ملكاً على العراق، كان لا يزال يعدّ عبدالله أميراً منتظراً للعراق. ولذلك تلكأ في قبول مقترحات ويلسن التي ضمنها برقيته هذه. ولكن كرزن اخذ في الشهور التالية يتحول عن موقفه القديم تدريجياً، ويميل الى تفضيل فيصل. وكانت العقبة الكأداء دون هذا الاختيار تتمثل في الموقف الذي ينتظر ان تتخذه فرنسا، لأنها كانت تعد فيصلاً عدواً لدوداً لها. ولما فاتح كرزن في 8 آب اغسطس 1920 الحكومة الفرنسية في موضوع نصب فيصل ملكاً على العراق جساً لنبضها كان ردّها "انها تعترض على ذلك كل الاعتراض... وان استخدام الأمير فيصل في العراق بعد اخراجه من سورية مباشرة، هو في نظر الفرنسيين عمل غير ودي..."7. ثم قدمت الحكومة الفرنسية الى كرزن في 17 آب مذكرة توضح فيها أسباب اعتراضها. وكان من جملة هذه الأسباب ان فيصلاً إذا نصب ملكاً للعراق فإنه "سيصبح مصدر خطر على مركزها في سورية"8. ولذلك حث الفرنسيون الحكومة البريطانية على عدم تشجيع فيصل، وعدم السماح له بالذهاب الى انكلترا. وفي محاولة للايقاع بين فيصل وبريطانية أبدى القائم بالأعمال الفرنسي في لندن، أثناء مقابلة له مع اللورد هاردنغ في وزارة الخارجية ان فيصلاً "خلال الفترة التي قضاها على رأس الحكم في دمشق، طلب من الحكومة الفرنسية سراً ان تتعاون معه في العمل ضد الاحتلال الانكليزي في العراق"9. وما لبثت الحكومة البريطانية ان كررت المحاولة، ففاتحت فرنسا في شأن فيصل مرة اخرى، مبدية انها ترى مجيئه إلى انكلترا افضل من بقائه في ايطاليا حيث يخشى ان يجري اتصالات مع الأتراك أو الطليان تعود بالضرر على المصالح البريطانية والفرنسية10. ولم تكن هذه الحجة قائمة على غير اساس، لأن فيصل كان على أثر وصوله الى ايطاليا قد أوفد ساطع الحصري الى تركيا للاتصال بممثلي الكماليين، والبحث معهم بصورة سرية في مدى استعدادهم لمعاونة العرب مقابل المساعدات الفعالة التي قدمها العرب لهم في مقاتلتهم الفرنسيين، إذ لم يسمح فيصل للفرنسيين باستعمال السكك الحديد السورية لنقل الجنود والذخائر الى كيليكيا! وكان الفرنسيون اتخذوا من موقف فيصل هذا حجة عليه، بل كان هذا الموقف أحد أسباب فقدانه عرشه في سورية. ولكن اتصالات الحصري لم تسفر عن نتيجة ايجابية في ذلك الوقت11. ومع ذلك، فقد كررت فرنسا اعتراضها على زيارة فيصل الى انكلترا بحجة انها ستخلق سوء تفاهم عميق بين البلدين 12. ولكن الحكومة البريطانية قررت أخيراً المضي في دعوة فيصل الى انكلترا على رغم كل اعتراضات الفرنسيين، فتسلم فيصل الدعوة في 11 تشرين الثاني، بعد انتظار في ايطاليا دام اكثر من ثلاثة اشهر. وقد أبلغ اللورد كرزن السفير الفرنسي في لندن بأمر الدعوة على أثر توجيهها قائلاً انه أخّرها أطول مدة ممكنة مجاملة لفرنسا، وان الملك حسين كان طوال هذه المدة يصر على ان يقوم ابنه بزيارة الملك جورج13. وكان الملك حسين بعث بحصانين عربيين أصيلين هدية للملك جورج، فقابله هذا ببعض الهدايا، وكان هدف هذه الزيارة الظاهري مقابلة الملك جورج وابلاغه شكر والده على هداياه. ولكن اللورد كرزن صرح، مع ذلك، ان الحكومة البريطانية قد تنتهز فرصة وجود فيصل في لندن لتجري معه محادثات حول جوانب معينة من القضية العربية "على ان لا تشمل تلك المحادثات موضوع سورية"14. ولما تلقى فيصل الدعوة واستعد للسفر، علم ان الحكومة السويسرية لن تسمح له بالمرور في أراضيها، وكان ذلك الرفض نزولاً عند طلب الحكومة الفرنسية التي كانت لا ترغب في مرور فيصل من سويسرا في الوقت الذي كانت فيه عصبة الأمم تعقد اجتماعاتها في جنيف، خوفاً من ظهوره أمام العصبة ومهاجمته فرنسا على ما قامت به في سورية، أو على الأقل ادلائه للصحف بتصريحات ضدها تحرج موقفها خلال اجتماعات العصبة. ولذلك لم يبق أمام فيصل إلا ان يسافر الى انكلترا بطريق أخرى أطول بكثير، ماراً بالمانيا وبلجيكا، لتفادي المرور بالأراضي السويسرية والفرنسية. وأوفدت وزارة الخارجية الألمانية موظفاً شاباً، له معرفة بالشؤون الشرقية، وسبقت له الخدمة في سورية خلال الحرب، لمرافقة فيصل وحاشيته خلال مرورهم بالأراضي الألمانية. وهذا الموظف هو الدكتور فريتز غروبا، الذي كان سيقدر له بعد ذلك بسنوات ان يقدم أوراق اعتماده الى فيصل الأول "ملك العراق" بصفته أول وزير مفوض لألمانيا في بغداد15. وقد روى الدكتور غروبا ذكرياته عن هذه السفرة في مذكراته التي نشرها بعد ذلك بستة وأربعين عاماً أي في سنة 1967 وذكر فيها ان فيصل وحاشيته سافروا من مونيخ الى فرانكفورت ليصلوا منها الى منطقة الاحتلال البريطاني، بقصد تجنب المنطقة التي يحتلها الفرنسيون، وقال غروبا: "... وكنت قد استفسرت في فرانكفورت عن كيفية الوصول الى المنطقة البريطانية من غير مرور بالمنطقة الفرنسية، فقيل لي ان علينا ان نسلك طريق "كيسن" و"زيكن" بالقطار، ومن هذا الطريق سنصل الى المنطقة البريطانية في "هيلف"، فحجزنا في هذا القطار المحلي المقترح "كابينتين"، وبدأنا سفرتنا، فلما حل المساء، وقفنا في محطة صغيرة تدعى "آيتورف" فسألت مدير المحطة هل الانكليز في المحطة القادمة "هنلف" فأجاب: كلا، بل فيها الفرنسيون. فسألته: ومتى جاءها الفرنسيون؟ منذ أسبوعين، حيث غادرها الانكليز واحتلها الفرنسيون. لقد كان ذلك غير معروف في فرانكفورت، وقد فهم تحسين قدري من محاورتنا كلمة "فرانتسوزن" - أي الفرنسيين - وسألني عن جلية الأمر، فأوضحت له الموقف، فأخبر الملك في "الكابينة" المجاورة بذلك، فاستدعاني اليه وسألني ماذا أقترح ان نصنع؟ فاقترحت مواصلة السفر لأننا اذا تركنا القطار هناك، كان علينا ان نعود الى فرانكفورت، ومنها نسلك طريقاً منحنية طويلة، وكان ذلك مستحيلاً، لأن ملك بريطانيا قد حدد لزيارة الملك موعداً قريباً، فوافق الملك على اقتراحي، وواصلنا السفر، ولكننا اطفأنا الأنوار في الكابينتين اللتين كنا نحتلهما، وكان الملك عصبياً بعض الشيء، يتمشى في ممر القطار جيئة وذهوباً، أما الأمير عادل ارسلان - الذي كان محكوماً عليه بالاعدام غيابياً من الفرنسيين لكفاحه إياهم في سورية - فقد أخرج مسدسه، وفتح صمام الأمان فيه قائلاً: "لن يقبض عليّ الفرنسيون حياً"! "وما لبثنا ان وصلنا الى "هينف" ، وكان جنود الانضباط الفرنسيون فيها، بخوذهم المعدنية، وبنادقهم على أكتافهم، يحرسون المحطة ويفتشون القطار. فنظروا في "كابينات" مختلفة من قطارنا ولكنهم لم يمروا بكابيننا الذي كانت أنواره مطفأة. واستمر هذا التوقف في المحطة "هينف" خمس عشرة دقيقة، ثم استأنف القطار سيره فوصلنا الى المنطقة البريطانية بعد قليل، وتنفسنا الصعداء جميعاً. ومن كولون - حيث تناولنا عشاءنا في أحد المطاعم - رافقت الملك الى الحدود البلجيكية، ولما ودعته هناك نزع ساعته "اللونجين" من معصمه وأهداها إليّ. وعدت الى برلين16. وصل فيصل انكلترا في 28 تشرين الثاني 1920، فاستقبله في "دوفر" كورنواليس، وحداد باشا وفهمي المدرس. ومنها استقل القطار الى لندن فوجد في استقباله فيها ثلاثة أشخاص نيابة عن الملك ووزيري الخارجية والحرب، وأنزل مع حاشيته في فندق "كلاريج". وكان موعد فيصل مع الملك جورج الخامس قد تحدد ليوم 4 كانون الأول 1920. ولهذه المقابلة قصة طريفة رواها فيصل نفسه لبعض أصدقائه في بغداد، بعد تتويجه ملكاً، وكانت بينهم "مس بيل" التي نقلتها في احدى رسائلها الى أبيها قائلة: "يوم الأربعاء الماضي 7 ايلول/ سبتمبر 1921 في البيت الجديد للملك، المطل على النهر، حضرنا دعوة عشاء مسلية، فيصل وأنا ورستم وأحد المرافقين. "كان فيصل يروي ذكرياته في لندن: لما وصلها بعد أن اخرجه الفرنسيون من سورية، ذهب الى وزارة الخارجية وقابل السر جون تيلي - الذي وصفه محقاً بأنه شخص خالٍ من الضرر - فأخبره السر جون بأنه أي فيصل سيقابل الملك، ولكن عليه ألا يتحدث عن سورية، بل ولا عن الفرنسيين، وأهم من كل ذلك عليه ألا يتطرق إلى كون اتفاقاتنا مع العرب مناقضة لاتفاقاتنا مع الفرنسيين. ولكن فاتهم لسوء الحظ أن يزودوا الملك جورج بالتوجيهات نفسها، فبادر حالاً إلى اثارة الموضوعات المحرمة، وانتهى بأن أكد لفيصل أنه ليس ثم ما يستوجب القلق، لأننا وراءه بقوة"17. وفي 23 كانون الأول ديسمبر 1920 قابل فيصل في وزارة الخارجية السر جون تيلي نيابة عن اللورد كرزن وحضر الاجتماع من الجانب البريطاني كورونواليس والميجر يونغ، ومن الجانب العربي حداد باشا ورستم حيدر. وقال تيلي خلال هذا الاجتماع الذي بحثت فيه القضية العربية بصورة عامة، إن بريطانيا تسير نحو الوفاء بالوعود وإنها الآن تقوم بتأسيس حكومة عربية في العراق. فأجابه فيصل ان هذا لا يكفي وأن العرب يريدون انشاء "المملكة العربية" التي اعترفت بها بريطانيا في رسائل مكماهون18. وكتب رستم حيدر عن هذه المقابلة في يومياته ما يأتي: "الانكليز أرادوا أن يثبتوا أنهم قاموا بوعودهم، وأنهم يودون معاونة العرب حاضراً واستقبالاً، والأمير يوسع الدائرة. وكان يستعجل بالحديث إلى درجة أنه كان لا يدع للرجل مجالاً للقول. وهذه العجلة من طبيعة سيدنا، فإنه سريع الهيجان، ويحب أن يخرج ما في قلبه حالاً. وكان حداد يترجم، ويرجوه بالتأني كي يتم الرجل حديثه". وفي يوم 6 كانون الثاني يناير 1921 كتب رستم حيدر في يومياته مرة أخرى ان لويد جورج ارسل إلى فيصل من يستفهم منه عن رأيه في موضوع العراق، وقال: "… وقد ظهر أن الانكليز يودون سيدنا أي فيصل في العراق، ولعل جنوبي سورية يكون تابعاً له. ثم اجتمع سيدنا بيانغ، وقد أرسله كارزن لأجل أخذ رأيه في المسألة، فكان منه ان قال إنه لا يمكنه أن يرشح نفسه للعراق بعد أن انتخب أخوه، وأما أهل العراق إذا انتخبوه فعندها ينظر في القضية، وكأن المسألة دخلت الآن في طورها الحقيقي". وكانت المسألة قد دخلت في "طورها الحقيقي" فعلاً، ففي اليوم التالي، أي في 7 كانون الثاني 1921 حضر كورنواليس إلى فندق "كلاريج" لمقابلة فيصل من دون موعد سابق. وكان فيصل خارج الفندق يشهد تمثيلية في أحد المسارح، فجلس كورنواليس ينتظر عودته. وكتب رستم حيدر في يوميته المؤرخة في 7 كانون الثاني 1921 ما يأتي: "… بعد العشاء، نحو الساعة العاشرة، صادفت كورنواليس، وكان آتياً لمقابلة سيدنا، فقلت له إنه غير موجود، ومع ذلك ذهب إلى جناح فيصل؟ وبقي إلى نصف الليل. وثاني يوم صباحاً 8 منه أخبرني سيدنا عن حديث امتد إلى الساعة الثالثة بعد نصف الليل خلاصته: "قال كورنواليس إنه جاء لأجل أن يقف على رأى سيدنا في الوضعية، ولأجل أن يقدّم تقريراً للخارجية شخصياً منه، وأن الحكومة ما معها خبر بذلك…؟ مناورات لا فائدة منها. وقد أصر على الأمير بلزوم ترشيح نفسه للعراق، فلم يقبل منه، وقد ظهر جلياً أن الحكومة تريد أن تجعله على عرش العراق ولكن ضمن قاعدة قانونية… الخ". ويظهر من تعليق رستم حيدر القائل: "مناورات لا فائدة منها…" انه لم ينطل عليه ما تظاهر به كورنواليس من مجيئه من دون علم الحكومة، وأن شكه كان في محله، إذ أظهرت الوثائق البريطانية التي فتحت الآن أن الحكومة البريطانية هي التي أوعزت إلى كورنواليس بالذهاب لمقابلة فيصل، بل انها زودته بتعليمات "تحريرية" مفصلة صادرة عن اللورد كارزن، حول كيفية مفاتحة فيصل في موضوع عرش العراق، وجسّ نبضه بشأنه، وأكدت عليه فيها بألاّ يتحدث إليه بصورة رسمية، بل كصديق شخصي. وفي أدناه ترجمة هذه التعليمات التي لم يسبق نشرها فيما نعلم: تعلميات سرّية للمستر كورنواليس من وزير الخارجية19 "إن الأمير فصيل في لندن، وهو مشغول هنا بمفاوضات معينة مع حكومة جلالته يجريها الميجر يونغ والمستر كورنواليس. إن هذه المحادثات تدور حول موقف ابن سعود، ووضع شرق الأردن، وتنفيذ الوعود التي قطعت للحسين في البداية في شأن تأسيس مملكة عربية مستقلة. إن قضيتي سورية والعراق اسبتعدتا عن المحادثات بصورة متعمدة. والمحادثات متوقفة في الوقت الحاضر، لأن الأمير فيصل طلب مقابلة وزير الخارجية، وكان الوزير مستعداً لمقابلته لو كانت الظروف اعتيادية، ولكنه متخوف من ذلك في الوقت الحاضر بالنظر إلى الإمكانات الواسعة التي قد تتاح قريباً، والتي إذا اتخذت بشأنها أية اجراءات فإنها يجب أن تتخذ بمبادرة من فيصل وعلى مسؤوليته وحده، وليس بوحي من بريطانيا، بل وحتى من دون افتراض علم وزير الخارجية بها بصورة رسمية. وهذا هو الاقتراح الذي احيل على المستر كورنواليس: انه يجب أن يجري محادثة سرية مع فيصل، متحدثاً إليه ليس بصورة رسمية، بل بصفة صديق شخصي، فيقول لفيصل: "إن هذه المحادثات تسير سيراً بطيئاً نوعاً ما، ووالدك يبدو منفعل المزاج بعض الشيء، وشكوكه لما تهدأ بعد. ومن جهة أخرى، فإنني أعلم ان حكومة جلالته حريصة على أن تعاملك بثقة، وهي تميل إلى الاعتقاد بولائك، وتريد حل المشكلة على أوسع الخطوط. إن الصعوبة التي تقابلها في تحقيق ذلك ذات شقين: "أولاً: انها مرتبطة بأقوى التزامات الولاء تجاه الفرنسيين. وقد كانت بريطانيا طرفاً في اناطة الانتداب على سورية بفرنسا في الوقت ذاته الذي حصلت فيه هي على الانتداب على العراق لنفسها، كجزء من التسوية نفسها. ولذلك فهي غير قادرة على أن تتورط في أية سياسة تؤدي إلى مشاكل جدية مع فرنسا. ومن جهة أخرى، فإنها ملتزمة بالدرجة نفسها، بموجب تصريحاتها، وبميثاق عصبة الأمم وبالخطوات التي اتخذتها لحد الآن بشأن الانتداب على العراق، بأن تجعل من الاختيار الحر لسكان البلد أنفسهم محكاً عند النظر في الموافقة النهائية على حاكم للعراق، أو لشكل الحكم فيه. إنها لا تستطيع أن تفرض على العراق حاكماً، بل إنها لا تستطيع حتى أن تقترح ذلك الحاكم. إن كل ما تستطيعه هو أن تدرس بدقة وحذر مؤهلات وحجج أي مرشح يكون المؤتمر العراقي مستعداً لترشيحه. وانها بطبيعة الحال ستفضل مرشحاً يكون موالياً للانتداب بالشكل الذي تم قبوله به من جانبها، ولا يزجها في أية مشكلة من المشكلات السياسية الخارجية التي أشرت إليها. "هذه هي الظروف العامة للقضية كما أفهمها، وأنا أتكلم بصورة غير رسمية. والآن، لو كنت أنا، أي كورنواليس، في مكانك أنت، أي فيصل، لقمت بما يأتي: أصفّي الموضوعات التي تبحثها بصورة رسمية مع الحكومة البريطانية هنا، وأتوصل إلى تسوية معقولة في شأنها من دون تأخير. وبعد ذلك أذهب إلى بلدي، إلى والدي الملك حسين، وأطلب إليه أن يكون أول ما يفعله هو اعطاء تعهد بحسن نيته، ولكي أجعل من الممكن تسوية المشاكل الكبرى بصورة مرضية للطرفين، أحثه على المصادقة على معاهدة فرساي، بل ان مصادقته عليها لأكبر أهمية بالنسبة له مما هي لغيره، لأنه بمصادقته عليها سيتمكن من ولوج أبواب عصبة الأمم لتسوية أي من المشكلات الصغيرة التي تربكه وتزعجه، ويضمن له النظر في قضيته، ليس من جانب دولة أو دولتين، بل مجموعة من الدول في مجلس العصبة. وحينما أبحث معه بعد ذلك القضية العربية بمفهومها الواسع، أسأله هل يرغب في ترشيح أحد أبنائه، وفيصل بصورة خاصة، لعرش العراق. وعلى افتراض ان الملك حسين وافق، وعلى افتراض انك، أي فيصل، راقت لك الفكرة. فأنا، أي كورنواليس، قد أواصل كلامي قائلاً انني لو كنت بمكانك لأحطت شعب العراق علماً بأنني مستعد لأن أكون مرشحاً، ولقدمت ترشيحي ليس بمعرفة الحكومة البريطانية أو موافقتها، لأن الفكرة كلها هي انني يجب أن أتصرف بمبادرة شخصية مني، وانني أقدم نفسي كأمير عربي، لكي ينظر في دعواي مع الآخرين من قبل الشعب العربي لبلد عربي. وعلى افتراض أن شعب العراق لم يكن راغباً في ترشيحك، أو ترشيح أي من اخوانك، وهو أمر غير محتمل فإنك تكون على الأقل قد دلوت بدلوك وقمت بدورك. ولكن على افتراض أن موقفهم كان مؤيداً، فستكون تلك فرصتك في توحيد جزء كبير من العنصر العربي تحت حكومة عربية واحدة. "وهنا قد تتساءل: وماذا سيكون موقف الحكومة البريطانية في حال كهذه؟ "أنا، أي كورنواليس، لا استطيع أن أتكلم بصفة رسمية عن أمر لست متأكداً منه حتى في ذهني أنا. ولكن إذا استفسر منها السر برسي كوكس من العراق عن الموقف الذي يجب أن يتخذه، فإنها ربما ستقول في جوابها شيئين: "ستقول أولاً: اننا بطبيعة الحال لا نستطيع الموافقة على فيصل أو أي مرشح آخر إلا إذا كان مستعداً بإخلاص لقبول الانتداب، والعمل بشروطه التي اتفقت عليها الدول الكبرى، وكان عرض على مجلس عصبة الأمم. ولكن الشرط الثاني، الذي سبق لي أن أشرت إليه، سيكون أكثر أهمية. انني واثق ان الحكومة البريطانية ستقول إنها لن تقبل فيصلاً أو أي شخص آخر يحتمل أن يحدث لنا مشاكل مع الفرنسيين، فلدينا مشاكل كافية معهم في أنحاء عدة من العالم ولا نريد أن نشتبك في تعقيدات جديدة في الشرق. ولذلك، وفي حال وجود مرشح معين لعرش العراق، فإنني، أي كورنواليس، أجد نفسي مقتنعاً بأن الحكومة البريطانية ستقول أولاً انها يجب أن تحصل على ضمانات من الحاكم الذي يطلب إليها الموافقة عليه، بعدم اتخاذه منصبه وسيلة لتدبير الدسائس ضد الفرنسيين، ولا خلق مشاكل على الحدود، ولا الإضرار بالانتداب الفرنسي، ولا محاولة استعادة دمشق. وثانياً، عليهم أن يسروا إلى الفرنسيين قائلين لهم انهم لن يقبلوا بفيصل، أو بأي شخص آخر، إلا بشرط أن يكون مستعداً ليس فقط لإعطاء هذه الضمانات، بل العمل بها أيضاً. "هذا هو خط الحديث أو النصيحة الذي اميل إلى الاعتقاد بأن المستر كورنواليس يجب أن يتبعه في حديثه الشخصي. فإذا رفض فيصل أن يكون له أي شأن بالموضوع، فسنعرف عندئذ موقفنا، ولن يحق له توجيه أي لوم إلينا. ومن جهة أخرى، فإنه إذا أظهر ميلاً إلى العمل بالاتجاه المقترح، فيترتب على المستر كورنواليس أن يخبر وزير الخارجية عن اللغة التي استعملها فيصل، والموقف الذي اتخذه من الشروط المعينة التي ذكرت له. وعلى أي حال، فإن الوضع يكون قد اتضح، ونصبح جميعاً على علم بموقفنا. إن ما جعل وزير الخارجية يتردد في تحديد موعد لمقابلة شخصية مع فيصل لم يكن إلا بسبب تخوفه من سوء فهم قد يحدثي في شأن إحدى هذه النقاط، وانه قد يكون في غير مصلحة كلا الطرفين إذا ظهر في ما بعد أن مقابلة بريئة تماماً كانت تدل على أكثر مما تحتمل. ولولا ذلك لكان ما يسرّ وزير الخارجية أن يقابل فيصلاً". *** وعلى أثر تسلم هذه التعليمات، سارع كورنواليس بالذهاب لمقابل فيصل، ويبدو أنه لم يشأ أن يرجئ الموضوع إلى اليوم التالي، فانتظره حتى عودته من المسرح في منتصف الليل، واجتمع به في تلك الساعة المتأخرة. وفي صباح اليوم التالي قدم الى وزير الخارجية، اللورد كرزن، تقريراً عن مقابلته، ولعله لشدة حرصه على تقديمه بأسرع ما يمكن، لم يرغب في انتظار طبعه على الآلة الكاتبة، فقدّمه بخط يده. وفي مكان اخر ترجمة لهذا التقرير المحفوظ في مركز الوثائق البريطانية بخط كورنواليس، وهو ينشر للمرة الاولى ايضاً20 هوامش 1 ساطح الحصري، يوم ميسلون، بيروت 1945، ص 154. 2 Viscount Samuel, Memoirs London 1945 PP. 158-159 3 Sir Ronal Storrs, Orientations, London, 1949 P.431. 4 ساطح الحصري، المرجع سالف الذكر، ص 167 5 محمد عزة دروزة، "حول الحركة العربية الحديثة"، بيروت 1950. الجزء الاول، ص 117. 6 Sir Arnold Wilson. Loyalties, Mesopotamia, Vol, 11, 1917-1920 A Clash of Loyalties, London, 1936, PP, 305-306 7 برقية وزارة الهند المرقمة 1539 الى السر برسي كوكس بواسطة نائب الملك في الهند سيملا بتاريخ 10 ايلول 1920 E-11252 F.O. 371/5040. 8 محضر مقابلة بين السر ادوارد كراو - وكيل وزارة الخارجية البريطانية - والقائم بالأعمال الفرنسي في لندن بتاريخ 10 آب 1920. Documents on British Foreign Policy, Vol.XIII, pp. 344-345. 9 محضر مقابلة للورد هاردنغ مع القائم بالأعمال الفرنسي في لندن بتاريخ 30 آب 1920: Ibid, PP, 336-337 10 محضر مقابلة بين اللورد هاردنغ والسفير الفرنسي في لندن بتاريخ 23 ايلول 1920. 11 أنظر تفاصيل مهمة ساطع الحصري في تركيا في كتابه: يوم ميسلون، ص 161 وما بعدها. 12 مذكرة من القائم بالأعمال الفرنسي في لندن الى اللورد كرزن بتاريخ 9 تشرين الأول 1920: Documents ect. Op. Cit, pp. 355-356. 13 كتاب من اللورد كرزن الى السفير البريطاني في باريس، اللورد دربي، بتاريخ 16 تشرين الثاني 1920: Documents ect. Op. Cit, pp. 388-390. 14 المرجع نفسه. 15 عين الدكتور فريتز غروبا قائماً بأعمال المفوضية الألمانية في بغداد سنة 1932، ولما رفعت المانيا تمثيلها في العراق - على أثر دخول العراق عصبة الأمم سنة 1932 - اعتمد أول وزير مفوض ومندوب فوق العادة لألمانيا في العراق وقدم أوراق اعتماده الى الملك فيصل الأول في 25 تشرين الأول 1932. 16 Fritz Grobba, Manner and Macht in Oricnt, Frankfurt, 1967, P, 174. 17 Elizabeth Burgoyne, Gertrude Bell from her Personal Papers, 1914-1926, London, 1961, p.245. وقد أشار إلى هذا الموضوع أيضاً رستم حيدر الذي كان مع فيصل في لندن في مذكراته التي أعدها للنشر كاتب هذه السطور، ويؤمل أن تصدر قريباً، قائلاً: "3/12/1920: أخبرني جلالته صباحاً أن هيوبرت يانغ قال له: الخارجية ترجوك في ثلاثة أمور: 1 عدم البحث في السياسة أثناء مقابلة الملك، إلا شكر… 2 عدم اعطاء بيانات للجرائد، 3 عدم سماع قول أحد غير كارزن نفسه، فهو يكلمه بشخصه، ونحن نريد أن نقوم بوعودنا، فقال جلالته: أنا اعتمد، ولكن أريد أن أسمع ذلك من كارزن. فقال إن كارزن سيكون في الملاقاة". 18 محضر المحادثة منشور في Documents on British Foreign Policy, Vol. XIII, pp. 422-424 19 نص هذه التعليمات محفوظ في مركز الوثائق البريطانية في لندن في الملف رقم: F.O 371/6349. 20- تقتضي الدقة ان نذكر اننا وجدنا، بعد اعداد هذا المقال، ان الاستاذ سليمان موسى نشر خلاصة لهذه الوثيقة في كتابه الجديد "صفحات مطوية مفاوضات المعاهدة بين الشريف حسين وبريطانيا، 1920 - 1924". عمان 1977، ص 36 - 37، وتتضمن الخلاصة معظم النقاط الواردة في الوثيقة، ومن الواجب تسجيل فضل السبق له في الموضوع. 21-.F/O.371/6349